اللاّعنف: في سوسيولوجيا الانتقال السياسي

الكاتب : الجريدة24

18 مارس 2022 - 10:30
الخط :

ادريس هاني

- هذه المرة وعلى هامش المؤتمر الدولي المحكم لجامعة المغتربين، سنكون على موعد مع محاضرة، رفقة الصديق د. عبد الحسين شعبان، ونعم الرّفيق أدبا وفكرا وإنسانا، بدعوة من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، بتنسيق مع الصديق والبرفسور عبد المالك المهدي، رئيس الرابطة العربية للدراسات المستقبلية،  وبحضور  رئيس جامعة المغتربين البروفسور عثمان الحسن محمد نور ومقرر مؤتمر (العلوم الاجتماعية ودورها في بناء الأمم ونهضتها) ومدير مركز خدمة المجتمع بجامعة المغتربين الصديق البروفسور عثمان حسن عثمان، وبحضور عدد من كوادر العلم بمختلف اختصاصاته. وأمّا محور اللّقاء، فقد جاء في سياق ما تشهده السودان من حراك شبابي، لربيع أرادوا له أن يكون سودانيّا من دون حشرية جيوبوليتيكية، في زمن بات كلّ شيء يوحي بالرّعب: السلم والحرب معا، كان السودان أهدأ مما تقدمه وسائل الإعلام، وكان عنوان المحاضرة: (اللاّعنف: في سوسيولوجيا الانتقال السياسي).

- جاء عرض البروفسور شعبان جامعا ملمّا بمسائل اللاّعنف، سفر بين فلسفة المفهوم وسياساته، وكان معنا من الوقت ما يكفي لإكمال الفكر بدل أن تظلّ الكلمة مشنوقة في دقائق لا تصلح حتى لمسح الأحذية من غبار العبور إلى المعاني، لأنّ منح المفكر ثانية في كومبارس وخليط من التّقاول، كما نشهدها خارج مجتمع الخطاب العلمي، استهتار بالمعنى وبالمثقّف، وانتقام سافر من مكانة المثقف حتى حينما يؤثر المثقف أن يكون عضويا مشتبكا إلى الأقصى في قضايا أمّته. لقد كان الظرف الزمني والمتلقّي النوعي والسياق كله في صالح أن نستوفي المقدمات الضرورية قبل الاستنتاج، لأنّ الفكرة كالنفس إن لم تجد طريقها، أدت إلى الاختناق.

- قدمت ما رأيته مناسبا حول موضوع اللاّعنف، وكان بدء القول تذكيرا: حذاري من قياس إبليس في السياسة. إنّني أرى كل فضاعاتنا من "أخدوعة" الزعم بأن قياسا اقترانيا في مجال السياسة والتاريخ أمرا ممكنا. أنطلق من إشكالية التنازع حول المفهوم، تحرير محلّ النزاع، ومحل النزاع يبدأ من هنا حيث المفاهيم ليست نهائية، حتى وإن حاولت أن تزف نفسها جامعة مانعة.

- اهتدى والتر غالي إلى معضلة التنازع، في دراسته حول المفاهيم المتنازع حولها، محاولا التخفيف من ربقة الإلتباس. الإلتباس وارد بل بات يرافق المفهوم نشأة وتطورا، فما العمل؟

- تناولت مسألة التسامح في كتابي: ما وراء المفاهيم، يومها قلت بأنها أزمة مفهوم، وفي ظنّي أن هذا التنازع لا يبقى في سياقه الإيتيمولوجي ولا في تخريجاته الابستيمولوجية، بل قد يتحوّل هو هو نفسه إلى أرضية للعنف.

- في محاولة البروفسور سانيطو، نجدنا في صلب هذا التحدّي، في تخريج طموح، لا سيما وأنّه معني بسؤال الديمقراطية، فيكون المخرج في سلّم التجريد، والبعد قدر الإمكان عن التعريف المعياري، لا سيما في تعريف الديمقراطية، الحذر من الديمقراطية الإيتيمولوجية، هنا يكمن الخطر.

- مشكلة هنتنغتون عشية سقوط الاتحاد السوفياتي هي محاولة إنقاذ القطب الوارث للحرب الباردة، المنتصر، بأن لا يتورط في سياسات التدخل، وبأن الخطر القادم هو صدام الحضارات. كانت الديمقراطية في نظر هنتنغتون ثقافة غربية تصنيفية. المشكلة هنا في التصنيف، هاهي روسيا وأكروانيا من سلالة واحدة، شرق الغرب أو غرب الشرق، هنا حتى هيغليا لم نبرح الغرب، فكيف يكون الأمر وفيا لباردايم صدام الحضارات؟ إنني أعتبر الحرب في أوكرانيا تخطيئ لنموذج هينتنغتون. لكن أيا كان الأمر فالخطورة كانت من فكرة النهاية، نهاية التاريخ أكثر من صدام الحضارات، هذه الأخيرة تحذر من المضيّ في التدخل، بينما الثانية تعلن النهاية الحتمية والإقصاء التاريخي المسبق. يستطيع هنتنغتون استدراك الخطأ، لأنه أصلا تحدث عن إطار لتفسير وقائع العلاقات الدولية قابل للتغيير، لكن أي استدراك لفكرة النهايات؟ الواضح أن فوكوياما هو من حكم على نفسه بالنّهاية، وضاق عليه الخناق في مجتمع الخطاب الذي آثره.

- ينحدر فوكوياما -الهارب من نظريته- من السلالة الفكرية نفسها لليو ستراوس عبر تلميذه وليام بلوم أستاذ فوكوياما وبول وولففتش معا، لم يتقن فوكوياما رسالة التفكيك الديريدي ولا سيميولوجيا رولان بارث، شرطان وجهه إليهما وليام بلوم قبل الانتقال للعلوم السياسية، آثر فوكوياما الولوغ في صحن الكوجيفية، التمجيد المحدث لفكرة الاعتراف، هذا يعني أن التوازن يأتي بالإرغام، بالقبول بالوضعية الانهزامية في تاريخ تغالبي. باتت الديمقراطية رهينة لصدام الحضارات وفكرة النهايات، وحتمية عالم ثالث ليس له صكّ العبور للتاريخ إلاّ بالاعتراف بهزيمته واستقالته من مركز التأثير.

- العنف كالسلم غريزة، يؤمن الغرب بعدالة العنف حين يصدر عن حيوان أليف، يعتبر ذلك دفاعا غريزيا عن النفس، لكنه لا يعترف بأنّ الشروط المزرية للعالم الثالث محفز أساسي للعنف، لماذا لا نقبل بالدفاع الغريزي لهذا الحيوان الذي قد يفقد قيد المانعية من التعريف ، ليصبح ضاريّا برسم سياسات التخليف الممنهج، التهميش، الإرغام، الاستعباد؟؟

- الحديث عن القوة الناعمة لا يعكس إرادة السلام، ثمة عنف رمزي تعكسه إرادة التفضيل، العدالة الثقافية في سياسات اليونسكو، ثقافة الآخر خلف البحار، عنف الإقصاء الرمزي، القوة الناعمة عند جوزيف ناي المؤسس، هي رديف مكمل للقوة الخشنة. العنف والقوة امتداد للقوة الناعمة بطريقة أخرى. الإغراء وتقنياته تنطوي على الدعاية، تشويه الثقافات، تعزيز النزعة التفاضلية، العنف هنا بنيوي.

- في العلاقات الدولية هناك علاقات غير طبيعية، هناك قانون دولي منظم ومؤطر للعلاقات الدولية، ولكن ثمّة أمراض نفسية حاكمة، في مقاربة برتراند بادي.

- ثمة جدل طبيعي سينهي لعبة العنف الدولي عبر القوة نفسها التي باتت تفقد قوتها وتتحول إلى حروب عبثية، بدل أن كانت تعتبر امتدادا للسياسة.

- ثمة علاقات تقتضي مباشرة جادة، لنتحدث عن العنف والدين، عن العنف والأيديولوجيا، العنف والإعلام، العنف والفلسفة، العنف والرياضة، دعني أتحدث قليلا عن هذه الثنائيات باختزال شديد:

العنف والدين:

إنني أنظر إلى الدين بوصفه فينومين أيضا اجتماعي، وأيضا قضية معرفة. ربما في كتابي المعرفة والاعتقاد حاولت تناول معضلة المعرفة والاعتقاد ابستيمولوجيا، باعتبار أنّ الدين لا يمثل بالدرجة نفسها عند الفاهمة ولا حتى عند ملك الحكم، إنه يختلف من حيث طبيعة الخطاب والبعد الجمالي أيضا، تماما كالواقع. بيئة العنف قد تحول الدين نفسه إلى رافد للعنف، هنا يتعلق الأمربمعركة الوعي،.

- دعني أتحدث عن مفهوم القطع بوجهيه الطريقي والموضوعي، عن التجري، عن مثال القاطع بأنّ النبيّ الواقعي هو مجرم حسب فهمه القطعي المزيّف، فإن رام قتله أخطأ الواقع، وإن تراخى خالف القطع. في مباحث القطع وحجيته، يكمن مأزق التطرف، هل يا ترى نتعبد بالواقع أم بالظّن أم بهما معا، متى ينتهي الواقع، ومتى يبدأأ الظّن، وثمة حكاية تفصيلية نرجؤها للقادم من الأيّام.

- أبحث عن التطرف في علم كلام التجسيم، كان التجسيم قضية عقدية، لكنه أصبح محفزا للعنف. لا يمكن أن تكون مجسما ولا تكون عنيفا. لولا تجسيم المعنى الرمزي للجنة، لما تسابق المتطرفون إلى المعارك الخطأ بقوة الليبيدو، بعد أن اختزلت الجنّة في التصوير المتداني للإمتاع والمؤانسة، أو في حور تحوّرت في نونية ابن القيم. حتى التجسيم في الإلهيات رافد للعنف، فإله يمتطي الكرسي تجسيدا، ويفعل وينفعل، سينتهي إلى قياس مع الطبيعة البشرية، ستصبح الرحمة عارضة والعنف الإلهي أصيل، اختلال في وعي بعدي الجمال والجلال، وضمور في تصور قاعدة اللُّطف الإلهي.

- أهداني د. رشدي فكار رحمه الله كتابا لافتا تحت عنوان: (بلاء الوجود في ديار الإسلام)، كشكول من صور العنف والصراع والتنازع والتراجيديا، متى هدأ العالم الإسلامي من العنف الكامن في خدعة الفهم الذي غلب عليه التجسيم، وغاب عنه التأويل خارج غريزة ذاتية محبطة اجتماعيا وجيوبوليتيكيا.

العنف والأيديولوجيا:

الأيديولوجيا لما جعلت له، هي قصة علاقة مرضية بالمعرفة، وأيضا علاقة ذات متحايلة معرفيا على طريق النصب والاحتيال السوسيو-ثقافيين. الأيديولوجيا حين تصبح بديلا عن الواقع، تهرب منه وتستعيض عنه بأوهام زائفة، تستغني حتى عن رافدها الأول: المعرفة. عنف الأيديولوجيا لا يوقفه إلى صدمة الواقع، إن كنا سنحاسب أيديولوجيا العنف بقوة المفاهيم، فالأمر سيكون من الناحية العلمية نفسه بخصوص أيديولوجيا (لاعنف) يخفي الكثير من جينات العنف المؤجّل. لا مجال لنبذ الأيديولوجيا، ولكن ثمة رهان على تحديث العلاقة بينها وبين المعرفة.

العنف والإعلام:

- الإعلام أداة للعنف، حرب معلنة بشكل آخر، وسيلة لإذكاء العنف ومرافقته وتعزيزه. يتشرب الكائن العنف من الشاشة، من أمراض الخطاب الذي تتكفل الشاشة بإدخاله للبيوت من دون استئذان، لو انطفأت الشاشة وتمّ تعطيل الإعلام لعام واحد، ستعود البشرية إلى السّلام.

- يتساءل تشومسكي عن السبب الذي يجعل مجتمعا مسالما يتحول إلى مجتمع عنيف وعدواني بسبب الدعاية. من يا ترى يحاسب الإعلام على شططه؟

الفلسفة والعنف:

لا أتحدث عن فلسفة الإرهاب، عن محاولة تموقل الإرهاب أو عدمه، إنما أتحدث عن دور المشاريع المتحيزة للفلسفة، لكنها تشكل محفزا للعنف الرمزي. مشاريع فلسفية في ساحتنا العربية تدعوا للقطيعة بمفهومها العنفي الذي تأباه كيمياء الطبيعة والمجتمع، قطيع مع التراث، قطيعة بين المشارق والمغارب، قطيعة سائر الملكات الرديفة لفعل المعاقلة، إذا لم ندرك جدل التعقيد والتعاقد سنخطئ فعل التعقيل والتعاقلية. مفاهيمنا نجردها من حمولتها ونغمسها في حمولات أخرى، تغالب المفاهيم، الفلسفة كمجال للصراع الأيديولوجي أيضا.

العنف والرياضة:

تساءل قبلي د. عبد الحسين شعبان: هل ممارسة العنف يعتبر شجاعة؟ والحقيقة أنّ هذا سؤال مهمّ، وسأجيب عنه كخبير بفنون القتال. إنّني قضيت ردحا من الزمن أمارس هذا الفنّ بمنطق القوة حتى أصبحت أمارسه ضدّي، في عمليات جنونية، أحاول كسر الصخر ومناطحة الجدار. لكن اهتديت في نهاية المطاف إلى تعاليم موريهيه أويشيبا، إلى فنّ الهارموني الذي يتكامل فيه من كانوا في الأول خصمان، في تشكيل مبدع، يستعمل فيه فن تحييد القوّة، بقوة أخرى غير عنيفة، قوة اللاّقوة و لنقل مفهوم جديد للقوة الكونية، قوة الهواء، والماء، والنبات. هذا أوحى لي بأنّ القوة بهذا المعنى ليست نقيضا للاّعنف، بل قد تصبح القوة حامية للاّعنف ، إن أحسنا تدبيرها ودمجها في النظام التكاملي النوعي للقوة.

-في الانتقال الديمقراطي، والعدالة الانتقالية أيضا، وجب منح الاعتبار للدستور العميق، للثقافة السياسية باعتبارها رافدا ومرجعية لكل أشكال الدساتير. حين يحصل صدام بين الأمرين يختل النظام وترتبك عملية الانتقال السياسي.

- يؤدي التدخل إلى إرباك الهارمونيا السياسية بين الثقافة السياسية وأشكال التعاقدات الجديدة بما فيها الدستورانية. الآن في السودان لا إشكال في مطالب التغيير، حتى الربيع إن كان سيكون ربيعا سودانيا، فهو أمر طبيعي، بعيدا عن خيار العنف وسياسة التدخل التي فقدت جدواها ومصداقيتها، والسقوط في لعبة البروباغاندا. يمتلك السودان ثقافة عريقة وإن خانته الجيوبوليتيكا، وثقافته الاجتماعية والسياسية تقوم على التسامح والسلم، فهو من أكثر المجتمعات تسامحا. ولدي ثقة وافية بأن الكوادر السودانية تملك القدرة على تدبير الأزمة، بعيدا عن التشويش، فالآخر الجيوبوليتيكي هنا، هو الجحيم.

- وجب أن لا نبالغ فيما سماه سانيطو بالديمقراطية الإيتيمولوجية، إننا سنقع في أسطورة حجاب الجهل في أصل هذه المفهمة التي انتقلت إلى المجال الهيليني، من قلب نخبة المدينة. أي كلما اتسعت المدينة والتمثيل ضاع قسم كبير من مفهوم التمثيل أو حكم الشعب بالشعب؛ لنقل إنها كما اهتدى إليها كثيرون مثل امرثيا صن: حكم بالنقاش.

- اللاّعنف قضية تركيبية نابعة من تعقيد العنف نفسه. إنّ كل موقف خطابي هارب من الواقع، هو محفز حقيقي للعنف، هذا العنف الذي يتغذّى على عنف الخطاب، وعنف الاختلال، وعنف الانسدادات، وعنف الإنسان المحشور في مفهمة الصراع ومقولات الاعتراف، والنهايات، واختلال الحدس الوجودي، إنّها حكاية كائن يعيش معضلة النسيان، نسيان الوجود بالمعنى الهيدغيري، أو يعيش على الماهية التي احتلت سلطة وأصالة الوجود، وتمركزت حتى نسيت الأصل المشترك. إنّ أصالة الماهية في الحكمة المتعالية محفّز فلسفي للعنف الذهني والاجتماعي والجيوبوليتيكي.

آخر الأخبار