عندما كانت الدار البيضاء عبارة عن ثلاثة أحياء

أمينة مستاري
"على عتبة المغرب الحديث" ...مؤلف لتجربة "فريدريك وايسجربر"، الطبيب والجغرافي والإداري وأحد رواد التحديث في المغرب، الذي عاش فترة من حياته بالمغرب وأتيحت له الفرصة لمعاينة أوضاع المملكة الشريفة إبان فترة حكم مولاي عبد العزيز
فالكتاب عصارة 15 سنة من ذكرياته كطبيب، المهنة التي مكنته من دخول المحلة السلطانية، للتعرف على تكوينها وطريقة سيرها وشؤون المغرب المستقل آنذاك، قبل أن يعرف صراعا داخليا على السلطة
ويصبح فريسة المستعمر مطلع القرن 20، يكتشف رغبته في استكشاف المغرب ليتحول إلى جغرافي له الفضل في التعريف بجهات المغرب...مشروع استكشافي مكنه من وضع الخرائط، وتشريح لحياة المجتمع المغربي والتحولات التي طرأت عليه.
قسم الطبيب مؤلفه، الذي قام بترجمته عبد الرحيم حزل، إلى ثلاثة أقسام، خصص القسم الأول لـ فترة"أفول النظام القديم"، والقسم الثاني أفرده لمرحلة "من الغروب إلى الفجر" أي المغرب الحديث أو مغرب الحماية، ثم القسم الثالث الذي خصصه ل"فجر الحماية".
استهل الطبيب والجغرافي والإداري كتابه بسرد أولى لحظات نزوله بمدينة الدار البيضاء، وظروف عيش سكانها وتقسيم طبقاتهم، وافتتانه بها وبسحر المغرب القديم الخلاب، بموسيقاه وتقاليده وأيضا بلطف المغاربة، وأعجب بالمدن القديمة وبساتينها المهجورة...
كان وايسجربر يأمل في أن يرى المغرب وهو يسير نحو مزيد من العدل والحرية والرفاهية، عوضا عن استمرار بعض مظاهر الجور والفساد والبؤس، وعمل على التعريف بالمغرب بين الفرنسيين.
يحكي الطبيب والجغرافي الفرنسي في القسم الأول الذي خصصه ل"أفول النظام القديم"، عن أولى اللحظات التي وطئت فيها قدماه المغرب، ليلة رأس السنة 1895، فقد قدم على متن سفينة "بيلروفون" إلى مدينة الدار البيضاء، بعد حادث عارض وقع في البحر بين سفينته وسفينة "إميل هيلويز" التي نجم عنه غرقها، فيما اضطر فريديريك وباقي ركاب بيلروفون إلى البقاء في الجزائر لعشرة أيام قبل أن يعود إلى وطنه
فقد كان يود الذهاب إلى "كلونديد" التي أطلق عليها آنذاك اسم "إلدورادو"، حيث ظلت فكرة الاستقرار بالجزائر أو تونس تراوده، لكن فكرة الإقامة بالمغرب انتصرت في الأخير، خاصة وأن فرنسا كانت تخطط لبسط سيطرتها عليه.
اختار الطبيب أول الأمر الاستقرار بطنجة، بل أن يقرر الرحيل إلى مدينة أخرى، فقد كانت ذات طابع أوربي، لذلك استقر بالدار البيضاء ويختلط بالجالية الفرنسية القليلة أنداك.
كان المسافر الوحيد على متن السفينة التي أقلته إلى المغرب، حيث وصل الدار البيضاء في ظروف جوية صعبة، قبل أن يسمح للسفينة بالرسو بعد ثلاثة أيام بمرسى الدار البيضاء، واضطر إلى السكن في الطابق العلوي ببيت العون الصحي الذي أقله من السفينة، لعدم وجود فنادق، مقابل أربع فرنكات.
ببيت العون في ملتقى شارع "القبطان بروفو" و"قنصلية إسبانيا"، أقام به الطبيب الفرنسي أسبوعين قبل أن ينتقل إلى منزل صغير اكتراه ب30 فرنكا، لينعم أخيرا بحالة من الاستقرار.
كانت الدار البيضاء كانت عبارة عن ثلاثة أحياء، قسمها الطبيب الفرنسي إلى المدينة العتيقة حيث تقطن البورجوازية الإسلامية والقناصل والأسر اليهودية الميسورة، وحي اليهود أو الملاح
وحي التناكر الذي تؤثته "النوالات" وتقطنه البروليتاريا القادمة من القرى ومن منطقة سوس، وكان يحكمها حاكم مدني وعسكري أي القائد على المنطقة وأيضا على مديونة
وتنوعت التركيبة المجتمعية لساكنة الدار البيضاء في تلك الفترة، فقد كانت تضم 25ألف نسمة، كان اليهود يشكلون 1/5 منها، ولم يكن عدد الأجانب يفوق 500 أجنبي منهم إسبان وفرنسيين وإنجليز وألمان، وقلة قليلة من البرتغاليين والإيطاليين، يتكلمون العربية والإسبانية واللغة الأم.
عمل فريديريك من خلال مؤلفه على وصف مواقع كانت وما زالت، وأخرى اختفت ولم يعد لها وجود، والتغييرات التي عرفتها المدينة القديمة ك"لوبوتي ريش" الذي كان اسمه "لوسيرلولو ديل بروكريسو"...
وصف الطبيب الفرنسي حالة المدينة، فقد كانت الأكواخ منتشرة بالمدينة القديمة، والفنادق التي تكومت عند أبوابها جلود وأصواف وحبوب، وحالة الطرقات المتردية التي تتحول إلى مستنقعات من الوحل في فصل الشتاء...
وصف بلغ حد الازدراء " تكتظ أزقة المدينة ودروبها على الدوام بالقذارات، فالناس هنا يعملون بمبدأ – مبدأ كل شيء إلى الشارع- غياب الإنارة العمومية، وهو ما كان يتسبب أحيانا لحوادث إطلاق نار على أحدهم من طرف عساس...أو السقوط والتعثر بشيء كما حدث للطبيب الذي اصطدم في ليلة بعنق جمل ممدد فوق الأرض.
رسم فريديريك في كتابه حالة المدينة الشبه بدائية، لكن الحياة بها كانت سهلة، والعيش بها ممكن لرخص أثمنة اللحوم والخضر والفواكه واكتراء منزل...
حرص الأوربيون على امتلاك اسطبلات ملؤوها بالدواب، خاصة وقد كانوا يسافرون ويتنقلون باستمرار، في ظل غياب شبه تام لأماكن الترفيه، فقد كانت المدينة تتوفر على ناديين " النادي الإسباني" و" النادي المتوسطي" يلجؤون إليه لقضاء أوقات فراغهم،
وتقام حفلات رقص لمجموعات اسبانية، كما كانوا ينظمون سباقات الخيل في أعياد الفصح سيما "سباق الحلقات، بحلبة السباق في عكاشة أو "الصخور السوداء حاليا.
وكان الأوربيون يخرجون في نزهات استجمام بالشاطئ أو العرصات بأزمور أو الرباط...ويمارسون هواية الصيد في الغابات.