في الاختلاف حول الفوائد البنكية رحمة.. ووزير الأوقاف لم يحرم حلالا ولم يحلل حراما

هشام رماح
لا غرو أن في الاختلاف رحمة.. كما لا ريب أن باب الاجتهاد في الدين ومعاملاته، لا يُغْلَق في وجوه من هم أهل له.. ولكل هذا، فطبيعي أن تكون التأويلات للدرس الحسني، الذي ألقاه أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، بين يدي أمير المؤمنين الملك محمد السادس، حمَّالة أوجه.
ومن علماء الدين الإسلامي والمفتون هناك المتأقلمون المسايرون لتغيرات الظروف والصروف ومن يعتقدون معهم في ذلك، وهناك الجامدون ممن توقف بهم الزمن في الأزمنة الغابرة، حينما لم تستجد مستجدات مثل التي نعيش الآن، والفريقان كل يرى ما يراه وله أن يدلي بدلوه، لكن أن ننكر الحق في الاجتهاد فذاك مبلغ غير محمود لدين يسع الجميع تحت سماء الله تعالى.
وعودة إلى درس وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، فلا ضير من الانطلاق مما أدلى به وأثار لغطا طفا على السطح مثل رغوة أعمت الجميع، وصرفت انتباههم إلى القشور بدل لب ما جاء في الدرس الحسني، وللتفصيل في ذلك، فإن أحمد التوفيق لم يبتدع شيئا وهو يرصد، كما يعرف الجميع أيضا، بأن بسطاء الناس يحرجون الفقهاء دوما، بأسئلة تتكرر وتتطابق إلى أبعد الحدود، بالقول إن الربا هو الفائدة على القرض بأي قدر كانت.
لكن ما جعل الجدل يحتدم هو، عدم وقوف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، عند "ويل للمصلين.."، في الآية الشهيرة بل تعدى ذلك إلى "الذين هم عن صلاتهم ساهون"، وانحاز لبسط مقاصد القرآن من تشريع تحريم الربا، وحكمته الكامنة في القطع مع ما عُرف عند من عمَّروا هذه الأرض قديما بالاستدانة المقيَّدة بفوائد تعجيرية، رغبة في إبقاء المدينين تحت رحمة الدائنين.
ولأن الأعمال بالنيات ولكل امريء ما نوى، فإن النوايا غالبا ما تؤثر على الغايات، وبذلك حسب تشريح أحمد التوفيق، فإن إعمال الربا بالعقائد القديمة التي حرمها القرآن، هو الحرام، بينما الاقتراض في عصرنا هذا والذي يكون معظمه للضرورة أو الاستثمار، فلا ينحاز إلى ما قطع معه القرآن الكريم، وفي آخر المطاف فإن وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، لم يحرم حلالا ولم يحلل حراما، بقدر ما ساق اجتهادا انبنى على سياق النهي القرآن ومقاصده كأول مصادر للتشريع الإسلامي مع مستجدات العصر وملامح المجتمعات الحالية فيه.
ولعل أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، لم يغرد بعيدا عن سرب الجامدين لغاية غير التيسير على العباد في بلاد الله، مواجها الذين لا يعملون العقل للتأقلم مع المتغيرات والطواريء التي تنزل على رؤوس العالمين، والحال أن الجمود ينحاز إلى التنفير وتحريم الربا، بينما الأمر قد ينزاح إلى وجوب الاجتهاد، حتى تستقيم الأمور بين دين جاء به رسول بعث رحمة لهؤلاء العالمين، وبين واقع يتقلب ويتغير يوما بعد يوم، وبتطلب مسايرته ومستجداته، ولا شك.
لكن، هل ابتدع وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية جديدا، في تشريحه لهذا الاجتهاد؟
بالطبع، لا فقد امتح أحمد التوفيق فهم لمسألة الربا، من ثنايا الفتوى التي أفتى بها العالم العلامة "فضل الرحمان"، للحكومة الباكستانية، والذي قال إن الحل ليس منع أبناك الفوائد تحت الضغط الشعبوي، الذي يغذيه فقه مهتري ملوث بالسياسة، بل الحل في تنمية الاقتصاد حتى تضعف الفجوة بين العرض والطلب، ومن ثمة فإن هذا العالم، فصل بين الربا التي جاءت في سياق النهي القرآني، وبين المعاملات البنكية بفوائد في هذا العصر، عصر الائتمان والتضخم والتعاقد وأنواع الاستثمار.
ويبدو أن الخوض في ما خاض فيه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ليس متاحا للجميع، فرغم أن هذا الرأي يتقاسمه الكثيرون من العلماء والمفتين، إلا أن الوجل من فظاعة الجمود والجامدين، وما قد ينجم عن ذلك من ردود أفعال قد تنحاز إلى حملات إنكار ثم تكفير ثم إرهاب، هو ما يجعل الألسنة تلجم نفسها بنفسها سدا للذريعة ودرءا لما قد لا تحمد عقباه من لدن معتنقي الفكر الجامد.
إن ما قاله وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، في موضوع معاملاتي، يهم أمور ومصالح الناس في حياتهم ومعيشهم، إنما هو قول يدريه الكثيرون ويدرون أن هناك فريقا لا يلوي على غير إبقاء الأمور جامدة خدمة لغايات واضحة ومضمرة، لكن كل هذا لا ينفي الحق في الاجتهاد عن الذين هم أهل له، فكما أن الأصول ثابتة، بين المذاهب مثلا، فإن الاختلاف يكون في الفروع ولا ضير في ذلك، ما دام الاجتماع والإجماع حاصل في الأصل.