سميرة مغداد: من الطفولة القروية إلى الصحافة الراقية

الكاتب : عبد اللطيف حيدة

11 فبراير 2025 - 05:00
الخط :

في دربٍ محفوف بالتحديات، حيث قاومت التقاليد وانتزعت لنفسها مكانًا في عالم يهيمن عليه الرجال. على مدى عقود، كتبت بضمير حيّ، وواجهت صخب المهنة، حتى قررت التوقف عن ممارسة العمل الصحفي في انتظار ما ستجود به الأيام..
وفيما يلي الحوار الذي أجرته "الجريدة24" مع سميرة مغداد، الصحفية المتألقة التي تركت بصمتها في عدد من الجرائد والمجلات آخرها مجلة سيدتي:

بدون شك، تعتبر الطفولة واحدة من المراحل المهمة في صقل شخصية المرء.. هل يمكن لسميرة مغداد أن تحدثنا عن أبرز الذكريات التي ما زالت محفورة في ذاكرتها من تلك المرحلة والتي كانت عاملا حاسما في صقل شخصيتها؟

طفولتي مليئة بالشجن والحنين. ما يعلق اليوم بالذاكرة منها أيامي الأولى بالريف، بقرية الأجداد، حيث كتب لي أن أرى النور، حنين خاص يحفني إلى بيتنا البسيط إلى  صرامة جدي الريفي العنيد صاحب النظرات الحادة والشخصية القوية المفعمة بالعنفوان والكرامة ،اشتاق إلى جدتي الشقراء الجميلة الحنون الشامخة بعزة النفس..

..تعلق بذاكرتي عناقيد العنب الحمراء المتدلية في فناء بيتنا  والتي تغطي جزءا من  السماء المفتوحة  ..احن إلى بقرة جدتي التي كانت تداعبها ب كلمة "ايجي" بالريفية وتعني ابنتي، كلما أرادت حلبها، أحن إلى "بوبي" كلبنا الوفي الشرس الذي كان يستقبلنا بفرح، حتى وإن غبنا عنه سنة كاملة. أحن إلى شجرة التين الابيض في  عند مطلع البيت ودالية العنب الابيض وشجر اللوز وأيام السمر الصيفي على ضوء القمر  ورقصة النجوم التي كنا نرقبها ونحن صغار كل ليلة..

هل لعبت بيئتكِ المحيطة دورًا في رسم ملامح شخصيتكِ المهنية لاحقًا؟

اكيد هناك تأثير للبيئة في رسم ملامح شخصيتنا، ولعل أبرزها على المستوى الشخصي هي الصدق والأمانة واحترام الآخرين وصون الكرامة بما فيها حتى كرامة الآخرين

ما القيم والمبادئ التي نشأتِ عليها داخل أسرتكِ والتي صنعت شخصية سميرة ؟

لم تكن طفولتي سعيدة  للغاية، لكن أهلي زرعوا فينا قيما جميلا وحاولوا ما أمكنهم أن يشعرونا بالحب والأمان. أكبر قيمة هي الترابط الأسري والمحبة والتربية على الكرامة وعزة النفس  والإحساس بالآخرين وتقاسم الحلو والمر..

كيف كانت علاقتك بالقراءة والكتابة في الصغر؟ وكيف ظهرت ميولك الصحفية لأول مرة؟

شغفي بالقراءة أولا كان من المسلمات لأنني تربيت في بيت مليء بالكتب  الصحف والمجلات.. والدي كان أستاذا للغة العربية ومناضلا اشتراكيا يعشق الكتب والقراءة، وكانت تدور في البيت حلقات من النقاش مع أصدقاء وأقارب تشغلهم قضايا الوطن وقضايا الثقافة والأدب..أما الصحافة لم افكر فيها من قبل لكنني كنت اعشق الكتابة وتدوين خواطري باستمرار ودون توقف تقريبا منذ ايام المراهقة الاولى

هل لعبت العائلة دورًا في دعمك لاختيار الصحافة؟ أم كان القرار ذاتيًا ومخالفًا لتوقعاتهم؟

في الحقيقة اختيار الصحافة جاء بمحض الصدفة ولم أتلق فيه دعما من العائلة التي هي في الأصل محافظة تؤمن بالمهن التقليدية التي تناسب النساء عموما حسب المعتقد السائد

هل هناك معلم أو موقف دراسي أثر فيكِ بشكل خاص؟

لا أنسى ابدا معلما راقيا جدا كان قمة في التعامل الطيب والانصات الجميل وهو استاذ اللغة  الفرنسية بنعلال، في حضرته كنت أشعر بمعنى المربي والأب الذي يحب أبنائه ويحرص جدا على مشاعرهم ..كان انسانا بمعنى الكلمة رحمه الله..وجدت أيضا في الجامعة أساتذة اجلاء يعرفون ويقدرون معنى التربية والتعليم ... دائما كانت علاقتي جيدة بالمواد التي يحسن فيها الأستاذ فن التعامل مع طلبته

لماذا اخترتِ دراسة الصحافة في المعهد العالي للصحافة بالرباط؟

كما قلت دائما لعل الصحافة اختارتني ولم اخترها شغفي كان اساسا بمهنة الطب كانت هي المهنة التي احلم بها ولم تكتب لي مع العلم اني كنت احب الكتابة كثيرا واكتب كل يوم تقريبا ..كانت الكتابة دوما هي الملاذ..حين قررت صدفة أن اجتاز مباراة الصحافة بعدما عشت تجربة صديقة جارتنا في طنجة التي كانت تحكي عم أجواء المعهد والدراسة فقلت لم لا ..

 هل كان لديكِ خيار آخر في البداية كان يثيرك فضولك من غير الصحافة وكيف تم ترجيح كفة الاعلان؟

لم تكن هناك اختيارات للبحث عن مجالات أخرى مختلفة رغم اذ تسجلت في كلية الحقوق اذذاك نزولا عند رغبة والدي لا خيار انذاك بالنسبة لي علما أن الصحافة جاءت صدفة ولم افكر فيها من قبل كما سبقت الإشارة

كيف كانت تجربة الانتقال من طنجة إلى الرباط للدراسة؟ ما الصعوبات التي واجهتها؟

لم يكن الانتقال إلى الرباط صعبا أو لعله كان كذلك عاطفيا، لأنني في سن صغيرة ولم أكن أغادر طنجة  الا مع العائلة..

الحمد لله كان عمي المهندس عبد الله مغداد رحمة الله عليه اب ثان  حقيقي في الرباط احتضنني وزوجته الدكتورة مليكة مومن  بكل حب وذلل لي كثيرا من صعوبات البدايات.. كنت محظوظة برعايته لي.

هل كان المعهد العالي للصحافة كافيًا لتأهيلك لسوق العمل، أم أن فعالية انخراط الصحافيين في سوق الشغل يحتاج إلى أشياء أخرى توازي التكوين الاكاديمي؟

المعهد وفر لنا المبادئ الأساسية للاشتغال في الميدان لكن المحك هو اليومي والقدرة على التواصل مع فريق العمل ومهارات أخرى للوصول إلى المعلومة والاجتهاد المستمر..الصحافة بحر من المعلومات والمعاملات التي لا تنتهي ..التكوين مهم لكنه غير كافي لخلق صحافي مهني يستجيب باستمرار لمتطلبات العمل..التقيت في العمل أناس حرفيين رائعين جعلهم الشغف بالمهنة صحافيين مؤثرين حتى وان كانوا بعيدين عن تكوين اكاديمي صحافي..الصحافة متعبة ومتطلبة جدا تحتاج الشغف بها اولا وأخيرا

ما أصعب اللحظات التي واجهتكِ في أولى خطواتكِ المهنية؟

أصعب لحظات المهنة هي كثيرة وجزء من العمل ..خاصة فيما يخص أحداث ساخنة وعاجلة تحتاج الاتصالات والوصول لمصدر الخبر والتحقيق.. الصحافي يعيش قلقا يوميا لمنح القارىء منتوج جيد بأسلوب مهني مثير ..لا شيء سهل في المهنة فأنت مطالب بأن تجدد نفسك كل حين

هل تذكرين أول مقال كتبتهِ؟

اول مقال كتبته كان في جريدة لسان العرفان ونحن آنذاك طلبة في سنة التخرج كان عبارة عن عمود قصير ينعي أستاذ مادة الفن العراقي الجادر بعدها كانت تنشر لي تغطيات صحافية لعدد من اللقاءات التي كنت اغطيها لجريدة الشرق الأوسط  بدون توقيع، لكن التحقيق الأول الذي اجريته ولا انساه في سيدتي هو عن جريمة قتل راحت ضحيتها طالبة تقطن بالحي الجامعي السويسي حيث قطنت والتي كنت اعرفها..قتلت بالخطأ خلال خروجها في رحلة صيد مع خطيبها..كان موضوعا مليئا بالمشاعر والعبر الإنسانية أنجزته رفقة الأستاذة هاديا سعيد التي كانت مسؤولة آنذاك عن مكتب سيدتي بالمغرب

لماذا اخترتِ العمل في الصحافة النسائية تحديدًا؟

مجال الصحافة النسائية خصب جدا وفيه فرص لتطوير مهارات كثيرة ،تعلمت الشيء الكثير في مجال التحقيقات الاجتماعية وشغفت بها كثيرا خاصة في مواضيع الجريمة وبعض القضايا المتعلقة بحالات فريدة وإنسانية

لماذا اخترتِ العمل في الصحافة النسائية تحديدًا؟

..كتبت في بدايات الالتحاق بجريدة الشرق الأوسط في كل المواضيع بما فيها السياسة والاقتصاد لكن وجود لمسة أخرى انثوية من خلال وجود سيدتي بنفس المجموعة والمكتب، فتح لي بابا ناعما أن صح التعبير للصحافة بفضل الاستاذة هاديا سعيد..

شعرت بذبذبات إيجابية اكثر من الشرق  الأوسط ،حيث كان يسودها نوع من التنافس المهني الشرس بسبب مواضيع السياسة..وجدت نفسي مع سيدتي اكثر بدون الدخول في حب الظهور واحتلال الصف الأمامي..اشتغلت بحب وهدوء اكثر بعيدا عن جو التنافس الصاخب..

كيف استطعتِ إثبات نفسكِ كامرأة في عالم الصحافة وسط بيئة إعلامية كان يسيطر عليها الرجال؟

لم تكن الصحافة حلم ولم أسعى إليها، اشتغلت بضمير حي ومصداقية كنت أتمنى أن أحاول يوما  سيدة الطرب العربي فيروز وعشت غصة حقيقية حينما لم يقبل محمود درويش أن يمنح حوارا للمجلة رغم الجهد الجهيد الذي بذلته للقاء به خلال زيارته للرباط نهاية التسعينات ان لم تخني الذاكرة ..بكيت بحرقة ذاك الوقت.

الآن تركت الصحافة تقريبا وارتاح قليلا من ضغط الاتصالات والمجاملات والأحداث المتلاحقة ..منذ حوالي سنة انهيت علاقتي بسيدتي التي قضيت فيها أزيد من 32 عاما..فراق صعب علي، لكنه جاء بالاتفاق والتراضي بكثير من المودة.تشغلني اليوم  أمور أخرى أهمها الكتابة  وترك اثر طيب في قلوب الناس لنعبر ما تبقى من الحياة بسلام

بعد كل هذه السنوات من العمل الصحفي، هل هناك حلم لم تحققيه بعد؟

سعيت أن أعمل في الظل رغم ان الصحافة عالم أضواء..كنت أسعى دائما إلى أن اخلص في عملي وأقدم مادة جيدة بجهد ومثابرة

بحكم الضغط الذي يخلف العمل الصحفي.. ما هي العادات اليومية التي تحافظين عليها للحفاظ على التوازن النفسي والذهني في حياتكِ؟

التوازن صعب أحيانا قد تأخذك المهنة عن العائلة وبعض الالتزامات الخاصة لكن الوعي بأهمية العائلة ومسؤولياتها كان دوما حاضرا..لعلني فشلت في أشياء ونجحت في اشياء أخرى.. أظن حصلت على النصاب القانون وخرجت بأقل الأضرار الممكنة..الآن أعيش حياة جديدة اتدارك فيها اشياء لم امنحها قبل وقتا كافيا أهمها العناية بنفسي..

ناذرا ما يلج الصحافي عالم التأليف وإصدار الابحاث العلمية. لكن سميرة مغداد استطاعت أن تصدر مؤخرا كتابا سمته "شيء مني"، ما مضمون الكتاب؟
شيء مني عنوان يختزل مضمون الكتاب. هو ترجمة لأحداث وانفعالات ذاتية عشتها وخضت فيها في مسار حياتي المهنية والانسانية.
هي تجرية إنسانية تهم تجربتي في الممارسة الاعلامية ضمن الصحافة الوطنية من قبيل جريدة "المساء" و"الجريدة الأولى" وبعض الجرائد الوطنية الأخرى لاسيما الفترة الفاصلة بين 2005 إلى 2024..
تضمن الكتاب شهادة على مرحلة انتقالية عشتها، لاسيما عند صعود الإسلاميين الحكم والنقاشات التي كانت تعج بها الساحة السياسة بلمسة أدبية، بعدما قمت بتجميع مقالات نشرتها بالصحافة الوطنية..

ما النصيحة التي تقدمينها للشابات الطموحات اللواتي يرغبن في دخول عالم الصحافة؟

لا توجد نصيحة جاهزة  أقدمها للصحفيات الشابات  ..لكل مسارها واختياراتها في الحياة، وأظن أن جيل اليوم له وعي اكبر بالمهنة اتحدث عن جيل دارس وله تكوين اكاديمي ..ونحن اليوم قد نستفيد من وضوح الرؤية لديهن واهدافهن المحددة..أعتقد أن جيل اليوم محظوظ اكثر بهذه الطفرة الإلكترونية ووجود إمكانيات واسعة للاختيار، فقط يجب استحضار القيم والتعامل بصدق ،ولعل الشيء الأساسي هو الانخراط في بناء شخصية مهنية قوية بعيدا عن التنميط أو التسطيح..المرأة لابد أن تؤسس لنفسها اسما محترما ومكانة تليق بعطائها دون احساس بأنها اقل عطاءا أو تميزا من زملائها الرجال وتعمل باستمرار على تطوير نفسها

هل هناك لحظات شعرتِ فيها بالتقصير تجاه أسرتك بسبب ضغوط العمل؟

شعرت فعلا ذات مرحلة بنوع من التقصير اتجاه ابنتي التي كانت تحتاج دعمي وحضوري  اكثر خاصة في فترة المراهقة التي لم تكن سهلة  ابدا لكنني حاولت تدارك الوضع بوعي مني والاعتراف بالتقصير ومواكبة احلامها وتطلعاتها..على كل حال تفعيل لغة المحبة كانت دائما حاضرة في حياتي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ..

كيف يمكن للصحفي أن يكون قريبًا من قضايا الناس دون أن يفقد مهنيته أو ينحاز بشكل مفرط؟

الصحافي يجب وعليه أن يكون مع قضايا الناس لأنها مهمته الأساسية هو شاهد على العصر ومؤرخ يومي للتحولات الحياتية ..هو الملاحظ والمراقب الذي يغذي بأفكاره وكتاباته كل المجتمع ويلهم أصحاب القرار ..هذا اذا نحن تحدثنا عن معنى الصحافي الحقيقي أما اليوم فنشهد كائنات صحافية عجيبة تزبد وترعد لصنع البوز..البقاء للأصلح الذي يحمل هاجس  التنوير وإصلاح المجتمع

تواجه المقاولات الصحفية الكثير من الاكراهات، حتى أن بعضها لم تعد تجد مصدرا لدفع أجور الصحافيين والنفقات الجارية.. ما المطلوب في نظرك للتعامل مع تحديات التمويل؟

بصراحة ليست لدي رؤية بخصوص ما يجب عمله لتمويل المقاولات الصحافية، خاصة وأن الاكراهات كثيرة وحاسمة أولها الخط التحريري الذي يميز كل مؤسسة إعلامية..البحث عن المستشهرين حق مشروع واساسي لكن حين يتحكم المال في الخط التحريري أو المحتوى الإعلامي اليوم،  نصبح أمام أزمة حقيقية قد تمس بقيم الديمقراطية وحرية التعبير والقيم الكونية التي قد تتلاشى ارضاءا لأجندات معينة فيتحول الصحافي مجرد أداة للاستهلاك وطالب معاشو ارضاءا لموالين الشكارة ..القضية شائكة جدا لذا لابد من التفكير في صيغ جديدة طموحة وملتزمة للإعلام تتبناها مؤسسات مواطناتية  قوية همها بناء المواطن والوطن

كيف يمكن للصحفي أن يتعامل مع الأخبار الزائفة والتضليل الإعلامي في عصر السوشيال ميديا؟

السوشل ميديا للأسف سوق عشوائي مفتوح ينضب بالأكاذيب والزيف والتفاخر الخاوي..والصحافي لابد أن ينمي قدارته المعرفية باستمرار ويكون في مستوى الرقمنة والذكاء الاصطناعي والا فاته الركب

يحتاج الصحافيون اليوم إلى فطنة إلكترونية والمام تام بالتقنيات والاطلاع الجيد وتنوع مصادر الخبر حتى لا يصبح ضحية خبر زائف وأفضل الطرق التواصل مباشرة مع مصدر الخبر الحقيقي والتحقق منه

آخر الأخبار