أمينة مستاري
فسر هراري في النقطة المتعلقة ب" التاريخ والبيولوجيا" كلمة التاريخ بكونها "ناتجة عن ثقافات لا تتوقف عن التغير والتطور، والتي بدورها عبارة عن تنوع الوقائع المتخيلة التي اخترعها العاقل وتنوع ناتج كأنماط سلوك."
فالثورة الذهنية هي اللحظة التي استقل فيها التاريخ عن علم البيولوجيا، فقد حلت الروايات التاريخية بدل النظريات البيولوجية لتفسير تطور الإنسان، لكن ذلك لا يعني أن الحضارة الإنسانية مستثناة من القوانين البيولوجية، فجينوم العاقل يشكل قدرته الجسمية والعاطفية والذهنية، وهناك اختلاف أقل مقارنة مع النسانات.
يؤكد هراري أن الاختلاف يمكن أن يحدد في حالة وجود مقارنة في مجموعة تتعدى 150 فردا، وكلما ارتفع العدد ظهرت الاختلافات جلية، والفرق الحقيقي بين العقلاء والشنابز هو الصمغ الأسطوري الذي جعل الإنسان أستاذ الخلق.
العاقل يحتاج إلى مهارات أخرى زيادة على صنع الأدوات واستخدامها، وذلك بفضل التعاون مع أعداد من الغرباء بشكل ثوري( صنع رأس نووي يحتاج لتعاون بين غرباء من العالم، بداية من عمال يستخرجون اليورانيوم الخام إلى علماء الفيزياء الذين يكتبون المعادلات الرياضية لوصف تفاعلات الجسيمات دون الذرية).
يستخلص هراري في الأخير البيولوجيا تضع الثوابت لسلوك وقدرة الإنسان العاقل، ويأخذ التاريخ مجراه في حدود هذه الحلبة البيولوجية التي تسمح للعقلاء بلعب ألعاب مذهلة، بل وابتكار الخيال لخلق ألعاب أكثر تعقيدا يقوم بتطويرها كل جيل، لذلك يجب وصف التطور التاريخي لأفعال العقلاء بدل الارتكان للقيود البيولوجية.
ولفهم طبيعة الإنسان وتاريخه ونفسيته، ينصح المؤلف باستغوار عقول أسلافنا الصيادين الجامعين، وقت عاشوا كمزارعين ورعاة ثم كعمال حضريين وموظفي مكاتب، والعودة عشرات آلاف السنين التي مارسوا فيها الصيد والجمع.
يزعم علم النفس التطوري المتنامي يجادل في كون خصائص الإنسان الاجتماعية والنفسية الحالية تشكلت خلال عصر ما قبل الزراعة الطويل، وكون أدمغة الإنسان تكيفت مع حياة الجمع والصيد، تدل عليها عادات الأكل والحياة الجنسية...وتفاعل أدمغتنا مع البيئة الحالية التي تمنحنا موارد مادية وحياة أطول من أسلافنا لكنها تشعرنا بالاكتئاب والضغط، ولفهم السبب يجب استقصاء عالم الصياد الجامع.
يقوم هراري بمقارنة بين العادات الغذائية لأسلافنا وتلك في المجتمعات الحالية حيث ترتفع نسبة الإصابة بالسمنة، فاستقرار غريزة التهام الطعام العالي السعرات في جيناتنا يجعل الانسان العاقل يعيش مع ثلاجات مليئة بالأكل، وهو ما يطلق عليها المؤلف نظرية "جين الالتهام"، كما يدرج نظرية أخرى وهي أن جماعات الجامعين لم تكن تتكون من أسر نووية تتمركز حول أزواج أحاديي الشريك، بل عاشت في مجتمعات تشاركية تكون المرأة حرة في علاقاتها الجنسية وتنجب الأطفال الذين يتشارك كل الرجال في تربيتهم.
يؤكد هراري أن هذا البناء الاجتماعي كان سائدا بين أقرب أقرباء الانسان العاقل " الشنابز والبونوبوات" بل هناك ثقافات في عصرنا هذا تمارس فيها الأبوة الجماعية كهنود باري، والطفل هو نتيجة حيوانات منوية تحرص المرأة على معاشرة رجال كثر أثناء حملها حتى تجتمع في الطفل ميزات الرجال الذين عاشروها.
فمؤيدو هذه النظرية يعتبرون أن ارتفاع نسبة الطلاق والخيانات الزوجية...ناتجة عن إجبار البشر على العيش في أسر نووية وعلاقات أحادية لا تتناسب مع البرمجة البولوجية ، فيما يرفض هذه النظرية عدد كبير من العلماء، ويعتبرون أن الأسر النووية هو سلوك بشري أصلي، وأن ميل الرجال والنساء لتملك شركائهم هو النمط السائد والمعقول.
يعود يوفال نوح هراري للتأكيد على أهمية الرجوع لحياة أسلافنا بين فترة الثورة الذهنية قبل 70 ألف سنة والثورة الزراعية قبل 12 ألف سنة. ويؤكد هراري أن هناك مسلمات قليلة بهذا الخصوص، وأن هذا الجدل بين أصحاب النظريتين يستند على أدلة واهية حيث لا يوجد سجلات مكتوبة، ويضيف بشر ما قبل الزراعة لم يعيشوا في عصر حجري بل في عصر خشبي نظرا للأدلة التي عثر عليها فمعظمها خشبي.
يقارن الكاتب حياة الصيادين الجامعين وأخلافهم الزراعيين والصناعيين على مستوى الأدوات المستعملة، العادات الغذائية، العلاقات العاطفية والجنسية...ويتحدث عن الوفرة في الفترتين وصعوبة فهم عقائد وطقوس الصيادين الجامعين الغابرين، وهو نفس الأمر بالنسبة لعالم الاجتماع ومؤرخ المستقبل عند محاولة وصف العالم الاجتماعي لمراهقي القرن 21 حيث لن يكون لديه سوى البريد العادي، فيما ستضيع الرسائل النصية والمحادثات الهاتفية...
الحل يراه هراري في فحص مجتمعات الجامعين الحديثة بالملاحظة الأنثروبولوجية، لكن بشرط أن يكون الاستنباط عن المجتمعات العتيقة حذرا، لأن كل هذه المجتمعات تأثرت بالمجتمعات الزراعية والصناعية، ومن المخاطرة افتراض أن ما يصح عليهم كان صحيحا قبل عشرات آلاف السنين. ثم أن مجتمعات الجامعين الحديثة تمكنت من البقاء في مناطق مناخها صعب وتضاريسها قاسية "صحراء كلهاري" وكثافة سكانية كبيرة، فقد تقدم نموذجا مضللتا لفهم مجتمعات عتيقة في مناطق خصبة وادي نهر يانجتسي" وذات كثافة سكانية أقل، وهذا له آثار بعيدة المدى على الأسئلة الرئيسية حول حجم وبنية الجماعات البشرية والعلاقات بينها.
إضافة إلى أن مجتمعات الصياد الجامع تختلف حتى في المنطقة الواحدة، في اللغة مثلا والدين وقواعد السلوك والعادات...كما كان في منطقة أديليد بجنوب أستراليا، حيث عاشت عدة عشائر تنحدر من أب واحد واتحدت فيما بعد على أساس إقليمي صارم، في حين أعطت بعض القبائل بشمال أستراليا أهمية للنسب الأمومي وهوية الشخص القبلية المعتمدة على "طوطمه" بدلا من إقليمه.
هو تنوع ثقافي وعرقي للصيادين – الجامعين، وكان حوالي 8 ملايين جامعا منقسمين لآلاف القبائل ولديهم لغات وثقافات اعبر إرثا للثورة الذهنية، وتمكن من لديهم نفس التركيب الجيني ويعيشون في ظروف بيئية متشابهة أن يخلقوا وقائع متخيلة مختلفة جدا، تبدت على شكل قيم ومعايير سلوك مختلفة.
يقدم هراري احتمالات وأمثلة على اختلاف جماعات الجامعين في اللغة والسلوك والتوجه الديني والسياسي، والعلاقات السوية لجماعة والغير سوية كالمثلية لجماعة أخرى...ويخلص إلى أن الجدالات حول نمط الحياة الطبيعي أضاعت نقطة رئيسية وهي أنه ومنذ الثورة الذهنية لم يكن هناك نمط واحد لحياة العقلاء الطبيعيين بل اختيارات ثقافية من باقة إمكانات متعددة ومذهلة.