الكتابة هي وسيلة لحفظ المعلومات عبر رموز مادية، بدمج نوعين من الإشارات: الأرقام وإشارات كتبت في لوح، تمثل الناس والحيوانات والسلع والأراضي...ومكن ذلك من حفظ بيانات أكبر مما يمكن لدماغ بشري أن يتذكر أو جينو أن يشفر.
اقتصرت الكتابة في مراحلها الأولى على الوقائع والأرقام، يقول هراري، فلم يكن هناك قراء كثر، لذلك استخدمت فقط في حفظ السجلات الضرورية، وأولى الرسائل التي وجدت كتب فيها: "استلم 29086 مكيالا من الشعير خلال 37 شهرا. بتوقيع كوشيم"، ويرجح أن يكون كوشيم اسم شخص. لم تكن هناك كتابات فلسفية أو شعر، بل اقتصر الاستخدام على وثائق مالية ، ما جعل الكتابة نظاما جزئيا خارج نطاق اللغة المنطوقة، ومه ذلك بقيت أيضا قوائم كلمات من تلك الفترة.
من جهة أخرى، اختلفت الكتابة الإنديزية عن السومرية، إذ لم تعتمد على الألواح الطينية أو الورق، بل بربط عقد من حبال رفيعة ملونة سميت "كويبو" صنعت من الصوف أو القطن، وربطت في كل حبل عقد مكنت من تسجيل بيانات حسابية لجمع الضرائب ...وبلغت قمة ذروتها مع حضارة الأنكا( البيرو، الإكوادور، بوليفيا، جزء من الشيلي والأرجنتين وكولومبيا) . كان "الكويبو" فعالا ودقيقا جدالدرجة أن الإسبان، بعد غزوهم لأمريكا الجنوبية، استخدموه بمساعدة مختصين، لكنهم ألغوه لاحقا خوفا من التلاعب والخداع من طرف السكان الأصليين، واستبدلوه باللاتينية لحفظ سجلات الإمبراطورية ومع مرور الزمن، فقدت نماذج "الكويبو" وضاع فن قراءته.
أما الكتابة اللاتينية والهيروغليفية فقد كانت أكثر شمولية، حيث لم تقتصر على تسجيل الضرائب، بل استخدمت في تدوين اللغة المنطوقة، مثل ال قصائالعاطفية والكتب التاريخية والنصوص القانونية...
مع مرور الوقت، أدرك سكان ما بين النهرين الحاجة إلى تدوين أمورتتجاوز الحسابات والبيانات، فأضيفت رموز جديدة، مما أدى إلى تطور الكتابة المسمارية إلى نظام كتابة كامل، استخدم لإصدار المراسيم الملكية وكتابة النبوءات والمراسلات الشخصية، وبعد ذلك، ظهرت الكتابة الهيروغليفية، ثم قام الصينيون بتطوير كتابة كلية أخرى سنة 1200 ق.م، وكذا أمريكا الوسطى حوالي 500-1000 ق.م، واتخذت أشكالا متعددة وبمهام جديدة ( الشعر، التاريخ، الطبخ...) إلا أن استخداماتها ظل في حفظ البيانات الحسابية.
في البداية، يشير هراري، انتقلت أعمال مثل التوراة والإلياذة شفهيا عبر الأجيال قبل أن يتم تدوينها. غير أن سجلات الضرائب والبيروقراطية المعقدة نشأت مع ظهور أنظمة الكتابة الجزئية، وهو ما أدى إلى تحديات جديدة مع تزايد كمية المعلومات المكتوبة والمحفوظات. فإذا كانت عملية تخزين المعلومات في الدماغ يسهل تذكرها، فكيف يمكن التعامل مع آلاف الألواح الطينية والسجلات الملكية؟ لهذا، يستنتج يوفال هراري، أنه كان لا بد من تطوير وسائل لتنظيم البيانات كالترقيم أو الفهرسة وتصوير المستندات وخوارزميات الحاسوب...وثبت أن أمورا كهذه أصعب من اختراع الكتابة.
تعلم الكتاب القدماء استخدام الفهرس والمعجم والتقويم والجداول الزمنية...لكن في الإدارة كان لا بد من الفصل بين أنواع السجلات لتسهيل الوصول إليها عبر تخصيص أدراج تصنيفها وفق نظام معين يمكن تعديله وإعادة ترتيبه حسب الحاجة.
يشير يوفال نوح هراري إلى أن البيروقراطية تتطلب إعادة برمجة العاملين فيها، حتى يتوقفوا عن التفكير كبشر عاديين ويبدأوا بالتفكير كموظفين ومحاسبين لأداء عملهم، وحتى لا تختلط السجلات وتتمكن المؤسسات من تقديم الخدمات التي تطلبها شركتهم أو حكومتهم بكفاءة.
ومن هنا، يرى المؤلف أن التأثير العميق لنظام الكتابة لم يكن فقط في توثيق المعلومات، بل في تغيير الطريقة التي يفكر بها البشر ويرون بها العالم، وفسح المجال أمام التفكير التجزيئي والمنظومات البيروقراطية.
لغة الأرقام
بمرور القرون، اختلفت الطرق البيروقراطية لمعالجة البيانات عن الطريقة التي يفكر بها البشر طبيعيا، وقبل القرن 19 تم اختراع نظام كتابة جزئية جديد لتخزين ومعالجة البيانات الرياضية، وهي الأرقام من 0 إلى 9، حيث يقول هراري أنها من اختراع الهندوس قبل أن يجد العرب النظام الحسابي عند غزوهم للهند، فأدركوا فائدته ونقحوه ونشروه عبر الشرق الأوسط وأوربا وبعد إضافة إشارات الجمع والطرح والضرب ظهرت أسس التدوين الحديث للرياضيات، ليصبح اللغة المهيمنة عالميا "نظام رياضي" يستخدم لمعالجة البيانات على مستوى الدول والشركات والمنظمات...بغض النظر عن اللغة التي تتكلم بها كل دولة.
ويبذل الخبراء جهدهم لترجمة الأفكار كالفقر والسعادة...إلى أرقام "خط الفقر" "معدل الثقة"، وانتقل نظام الكتابة الرياضي إلى نظام أكثر ثورية وهو نظام ثنائي محوسب يتكون من إشارتين 0 و1 فقط، فكل الكلمات التي تكتب في لوحة المفاتيح مكونة من الإشارتين داخل الحاسوب.
لكنها ليست نهاية القصة، فمجال الذكاء الاصطناعي يسعى لخلق نوع من الذكاء القائم على النظام الثنائي للحواسيب. وربما مجموعة من أفلام الخيال العلمي تتحدث عن يوم يتخلص نظام الكتابة الثنائي من ربقة البشرية وعند محاولة البشر استعادة التحكم يرد النظام بمحاولة محو الجنس البشري.