العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(16)

الكاتب : الجريدة24

18 مارس 2025 - 10:20
الخط :
أمينة المستاري
 
 الإمبراطوريات والعولمة

 تعد الإمبراطورية الأكادية لسرجون العظيم، حوالي 2250ق.م ، أول إمبراطورية تتوفر معلومات محددة بشأنها، فق غزا العالم من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط، ولم تدم طويلا بعد وفاته، وأصبح نموذجا يحتذى به وافتخر البابليون والآشوريون ...بغزوهم العالم أيضا، ثم جاء قورش العظيم من بلاد فارس واعتبر ذلك لمصلحة جميع الناس، وقال الفرس: " إننا نحتلك لمصلحتك" وأراد قورش أن تحبه الشعوب التي أخضعها وبكونهم محظوظين بتبعيتهم للفرس( كمثال السماح لليهود المنفيين في بابل بالعودة إلى وطنهم اليهودي وإعادة بناء هيكلهم وقدم لهم مساعدة مالية فاعتبر نفسه ملكا أيضا لليهود).

يقول هراري أن الإنسان العاقل تحول بفعل هذه النظرية إلى مخلوق كاره للأجانب، وقسم إلى "نحن وهم" فنحن أشخاص مثلك مثلي يشاركوننا اللغة والدين ...وكلنا مسؤولون عن بعضنا البعض لكننا غير مسؤولين عنهم، لا ندين لهم لا نريد أن نرى أيا منهم في أراضينا، فهم بالكاد "بر" أو "دنكا" بتعبير شعب الدنكا في السودان، وأعداؤهم هم " النوير" أي السكان الأصليون، أما كلمة "اليوبيك" فتعني الناس الحقيقيين.

تميل الأيديولوجية الإمبراطورية إلى أن تكون شاملة ، ورغم تشديدها على الاختلافات العرقية والثقافية بين الحاكم والمحكوم فقد استمرت بالاعتراف بالوحدة الأساسية للعالم بأسره، ومبادئ واحدة ومسؤوليات متبادلة بين جميع البشر الذين يعتبرون "عائلة كبيرة".

انتقلت الرؤية الإمبريالية الجديدة من قورش والفرس إلى الاسكندر الأكبر والأباطرة الرومان والخلفاء المسلمين ...إلى رؤساء الاتحاد السوفياتي والرؤساء الأمريكيين. وبررت هذه الرؤية وجود الإمبراطوريات وألغت محاولات التمرد ومقاومة الشعوب للتوسع الإمبراطوري.

اعتبرت الفترات الإمبريالية منذ ذلك عصرا ذهبيا للنظام والعدالة، في تناقض مع النظرة الغربية الحديثة بأن العالم العادل يتكون من دولة قومية منفصلة.

من الهيمنة إلى الاندماج

دمجت الإمبراطوريات العديد من الثقافات الصغيرة في عدد أقل من الثقافات الكبيرة، لانتشار الأفكار والسلع...بسهولة أكبر داخل حدودها، فكانت الإمبراطورية تنشر العادات والتقاليد والأعراف ...فكان التوحيد بمثابة نعمة للأباطرة.

بررت الإمبراطورية أعمالها بكونها ضرورية لنشر ثقافة متفوقة يستفيد منها المهزوم أكثر من الغازي. وكانت الفائدة كبيرة كإنقاذ القانون والتخطيط الحضري... فيما كانت الضرائب والتجنيد...محل شك ، واعتقدت النخب الإمبريالية أنها تعمل لرفاهية شكان الإمبراطورية.

اعتبرت الطبقة الحاكمة في الصين جيرانها ورعاياها الأجانب كبرابرة يجب أن تجلب لهم الإمبراطورية فوائد الثقافة، وأنيطت مهمة تثقيف الإنسانية للإمبراطور، وبرر الرومان سيادتهم بحجة منح البرابرة السلام والعدل...وشعر السوفييت أن من واجبهم تسهيل المسيرة من الرأسمالية نجو ديكتاتورية البروليتاريا الطوباوية، ويصر الأمريكيون على أن واجبهم تزويد العالم الثالث بفوائد الديموقراطية وحقوق الإنسان...ولو بنقل البضائع بواسطة الصواريخ وطائرات أف-16.

كان سهلا على النخب أن تتبنى الأفكار والمعايير والتقاليد من أي مكان وجدتها فيها، بدلا من التمسك بتقليد مقيد واحد. بعض هذه الإمبراطوريات سعى حكامها إلى تطهير ثقافاتهم والعودة إلى جذورهم، فيما الأغلبية الأخرى ولدت هجينة استوعبت الكثير من الشعوب الخاضعة لها كمثل فالثقافة الإمبراطورية العباسية كانت فارسية في جزء منها ويونانية في جزء آخر وعربية في جزء ثالث) .

ليس من السهل التخلي عن التقاليد المحلية ومن الصعب أيضا تبني ثقافة جديدة ، فذلك يأخذ قرونا  قبل أن تأخذ بها النخبة الإمبريالية كجزء من "نحن"، وفقدوا فعليا ثقافتهم المحلية ولم يمنحوا دورا متساويا في العالم الإمبريالي بل استمرت الثقافة التي تبنوها في اعتبارهم برابرة، ويسرد الكاتب مثلا في هذا السياق من قصة المحامي موهنداس  كارامشاند غاندي وكيف منع من استقلال الدرجة الأولى في القطار باعتباره هندي رغم.

أحيانا لا يعود المهزوم يرى في الغازي على أنه نظام احتلال غريب ويرى الغازي رعاياه على قدم المساواة مع نفسه ويرى كل منهم الآخر "نحن" و"هم" على حد سواء. فمثلا منحت المواطنة لجميع الخاضعين لروما بعد قرون من الحكم الإمبريالي، يؤمنون بالرب المسيحي الذي تبنته الإمبراطورية ويتحدثون بلغتها ويعيشون وفق قوانينها، ونفس الأمر في الإمبراطورية العربية المشكلة من العرب والسوريين والبربر والإيرانيين...، فقد تبنى الخاضعين لها العقيدة الإسلامية واللغة العربية وطالب هؤلاء بنصيب متساو داخل الإمبراطورية، واعتبر الخاضعون عربا ثم دخل الجميع تحت لواء الإسلام ومن طرف حتى من ليسوا عربا(الإيرانيين والترك والبربر)، وتبنت الشعوب غير العربية الثقافة التي أنشأها المشروع العربي حتى بعد انهيار الإمبراطورية الأصلية وفقدان العرق سلكتهم كمجموعة عرقية.

ويمكن فهم انهيار الاستعمار على نحو مماثل، فالأوربيون غزوا العالم بذريعة نشر ثقافة متفوقة، وتبنى المليارات من الناس تلك الثقافة خاصة اللغات ، الإيمان بحقوق الإنسان، اعتماد إيديولوجيات...ثم في القرن العشرين، شنت المجموعات المحلية صراعات مضادة للاستعمار تحت راية تقرير المصير والاشتراكية وحقوق الإنسان وكلها باسم القيم ذاتها التي تبنوها في السابق.

الأخيار والأشرار في التاريخ

قسم المؤلف التاريخ لأخيار وأشرار، فأغلب الإمبراطوريات أسست على الدم، وحافظت على سلطتها بالحروب، لكن معظم ثقافات اليوم تستند إلى الموروثات الإمبريالية. فإذا كانت الإمبراطورية سيئة، يتساءل هراري، فما الذي نستنتجه عن أنفسنا؟

اعتبر الكاتب سعي بعض المدارس الفكرية والحركات السياسية لتطهير الثقافة الإنسانية من الإمبريالية لتحويلها إلى حضارة نقية أصلية إيديولوجية "ساذجة". ووصفها بالمحاولة "الماكرة" لتجميل النزعة القومية والتعصب ، فلا يمكن لأي ثقافة أن تدعي نقاءها، فجميع الثقافات إرث للإمبريالية والحضارات الإمبريالية، ولا يمكن لأي جراحة أكاديمية أو سياسية استئصال الموروث الإمبريالي دون قتل المريض.

فرغم غزو بريطانيا للهند وإذلال مواطنيها إلا أن الهنود تبنوا الأفكار الغربية كحقوق الإنسان وتقرير المصير، فقد خوحد البريطانيون الفسيفساء المربكة للممالك...وخلقوا وعيا وذنيا مشتركا وبلدا يعمل كوجدة واحدة، فما زالت الإنجليزية توحد دول شبه القارة الهندية، ويشرب الهنود الشاي الذي أدخلته شركة بريطانية إلى الهند لزراعته ويلعبون الكريكيت...

بعد أسئلة شائكة حول التراث الثقافي يخلص هراري للقول أنه يجب الاعتراف بالطبيعة المعقدة لمعضلة هل يمكن إنكار إرث الإمبريالية وإعادة بناء وضمان ثقافات "أصلية" ، وتقبل القسمة المبسطة للماضي إلى أخيار وأشرار التي لا تقود إلى أي مكان، ما لم نكن على استعداد للاعتراف بأننا نحذو حذو الأشرار.

آخر الأخبار