أمينة المستاري
مثالية التقدم
لم تؤمن الحضارات البشرية بالتقدم إلا بعد ظهور الثورة العلمية. فقد كان يعتقد أنه من المستحيل أن تتغلب معرفة الإنسان على المشاكل الأساسية في العالم.
ومع مرور الوقت بدأ العلم بحل مشاكل غير قابلة للحل، اقتنع الكثيرون بأن البشرية يمكنها التغلب على أي مشكلة من خلال الحصول على معرفة جديدة وتطبيقها، فلم تكن الأمراض والفقر والحروب...مصير البشرية المحتوم بل كانت ببساطة ثمار جهلنا، يقول هراري.
يقدم هراري مثلا على الفقر، الذي اعتبر في العديد من الثقافات جزءا لا مفر منه من عالمنا الغير مثالي. ويعد مشكلة تقنية قابلة للعلاج، والفكرة الشائعة هذه الأيام أن السياسات المعتمدة على أحدث النتائج في مجال الهندسة الزراعية والطب وعلم الاجتماع باستطاعتها القضاء على الفقر، والذي ينقسم إلى نوعين: الفقر الاجتماعي، الفقر البيولوجي هذا الأخير أصبح من الماضي في العديد من الدول.
مشروع جلجامش
بقيت المشكلة الأهم في المشاكل البشرية الغير قابلة للحل كمشكلة الموت نفسه. سلمت معظم الديانات والإيديولوجيات أن الموت هو مصيرنا المحتوم. وحولت معظم الأديان الموت ليكون المصدر الرئيس لمعنى الحياة، وعلمت العقائد الناس أن يتصالحوا مع الموت ويعقدوا آمالهم على الحياة الآخرة.
يحكي هراري قصة أقدم أسطورة "جلجامش" في حضارة سومر القديمة، بطلها الملك جلجامش الذي استطاع هزيمة أي شخص في المعركة. وعند وفاة صديقه إنكيدو جلس قربه لأيام حتى رأى دودة تخرج من أنف الميت، أصيب بالهلع وقرر ألا يموت أبدا، وفكر في طريقة يهزم فيها الموت، فقام برحلة إلى نهاية الكون، فقتل أسودا وحارب الرجال العقارب ووجد طريقه إلى العالم السفلي وهناك حطم عمالقة أورشنابي الحجريين ومراكبي نهو الموتى ...لكنه فشل في مسعاه وعاد خاوي الوفاض، لكنه عاد بحكمة أنه يجب أن يتقبل فكرة الموت كمصير للإنسان ويجب أن يتعايش معه.
بالنسبة للعلماء، يضيف هراري، فالموت ليس مصيرا محتوما، بل مشكلة تقنية فقط : نوبة قلبية، سرطان، عدوى... وكل مشكلة تقنية لها حل تقني، ويتم العمل على إيجاد بعض الحلول لهذه المشاكل، والعلماء مشغولون بفحص الأنظمة الفسيولوجية والهرمونية والوراثية المسؤولة عن المرض والشيخوخة، ويطورون علاجات ثورية وأدوية وأعضاء صناعية ستطيل الحياة وربما تقهر الموت، حسب هراري.
يشير هراري إلى أن المشروع الرائد للثورة العلمية هو منح الحياة الأبدية للبشرية، حتى لم بدا قتل الموت هدفا بعيد المنال، يؤكد يوفال، ولكن حققنا بالفعل أشياء لم يكن من الممكن تصورها قبل بضعة قرون.
فقد كان الأطباء يجهلون كيفية منع العدوى ووقف تعفن الأنسجة حتى أواخر القرن 19، وكان بتر العضو بدون تخدير هو الحل خوفا من الغرغرينا، خاصة في الحروب(معركة واترلو) ، وفي القرنين اللذان تليا المعركة أنقذت الحقن والعمليات الجراحية المعقدة من مجموعة من الأمراض التي كانت قديما تعتبر حكما بالإعدام، وقفز بذلك متوسط العمر من 25 إلى 40 سنة ثم إلى 67 سنة و80 سنة في العالم المتقدم.
وكان الأطفال أكثر فئة تتعرض للموت، بسبب تعرضهم لأمراض الديفتيريا والحسبة والجدري، فيموت 150 من كل 1000 طفل قبل بلوغ 15 سنة في أنكلترا في القرن 17، أما اليوم فيموت 5 من بين 1000 في سنتهم الأولى وسبعة فقط قبل سن 15 سنة.
يشير يوفال إلى أن المهندسون الوراثيون نجحوا في تمديد متوسط عمر دودة الربداء الرشيقة إلى 6 أضعاف، وتساءل هل ينجح ذلك مع الإنسان العاقل؟ يضيف أن خبراء تقنية النانو نجحوا في تطوير نظام مناعة تقني-حيوي يتكون من ملايين الروبوتات النانوية، التي ستسكن أجسامنا وتفتح الأوعية الدموية المسدودة وتحارب الخلايا السرطانية وتعكس عمليات الشيخوخة. فمجموعة من العلماء يقترحون أنه بحلول 2050 سيصبح بعض البشر عصيين على الموت لكن ليسوا خالدين، لأنهم قد يموتون بسبب بعض الحوادث (مشروع جلجامش).
الصاحب المتلاف للعلم
يعتقد البعض أن العلم والتقنية يحملان الإجابات لجميع مشاكلنا، لكن العلم يتشكل بالمصالح الاقتصادية والسياسية والدينية. يشير يوفال هراري إلى أن العلاقة مع العلم مكلفة للغاية، فالعالم يحتاج لمختبرات وأنابيب ومواد كيميائية ومساعدين...والخبير الاقتصادي يحتاج لأجهزة كمبيوتر ويحتاج عالم الآثار لأموال من أجل السفر لأراض بعيدة...
ويضيف أن العلم حقق عجائب خلال 500 سنة الماضية بفضل تمويل الحكومات والشركات للبحث العلمي، ومكنت هذه الأموال من معرفة كوكب الأرض ورسم خارطة الكون...ويرى أن معظم الدراسات العلمية تمول لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو دينية( تمويل البعثات الجغرافية حول العالم في القرن16 من أجل احتلال أراض جديدة...ولم يتم صرف قرش من أجل دراسة سيكولوجية الطفل.)
كذلك بالنسبة لدراسة الفيزياء النووية في الأربعينات من القرن 20، فقد حدسوا أن دراستها ستمكنهم من تطوير أسلحة نووية...فالعديد من العلماء يشتغلون بدافع الفضول العلمي المجرد ولا يدركون دائما المصالح السياسية والاقتصادية والدينية، ومن المستحيل تمويل العلوم المجردة غير المتأثرة بهذه المصالح.
يستطرد هراري بالقول أن العلم قد يفسر ما يوجد في العالم وكيف تعمل الأشياء وماذا يمكن أن يحدث في المستقبل، لكنه لا يملك أي مطامح لمعرفة كيف يجب أ يكون المستقبل، فالأديان والإيديولوجيات وحدها التي تسعى للإجابة على هذه الأسئلة.
ثم يخلص الكاتب إلى القول أن البحث العلمي يزدهر فقط بتحالف مع دين أو أيديولوجية ما.