انقطاع الكهرباء يكشف العمق الاستراتيجي للتعاون الطاقي بين المغرب وإسبانيا

في مشهد يعكس تحوّلًا استراتيجيًا غير مسبوق في العلاقات الطاقية الإقليمية، برز المغرب كلاعب رئيسي في استقرار شبكة الكهرباء الإسبانية، عقب انقطاع واسع وغير متوقع للتيار الكهربائي ضرب مناطق مختلفة من جنوب البلاد، مطلع الأسبوع الجاري.
الحدث لم يكن عابرًا، بل سلط الضوء على بنية تحتية بالغة الأهمية ظلت لسنوات تعمل بهدوء في أعماق مضيق جبل طارق، قبل أن تنكشف أهميتها الاستراتيجية في لحظة طارئة، حاسمة.
وظهر الربط الكهربائي الذي يربط مدينة طريفة الإسبانية بالساحل المغربي، والذي انطلق تشغيله سنة 1997، في واجهة الأخبار الدولية كرمز للتكامل الطاقي العابر للحدود.
فحسب ما أفاد به موقع El Estrecho Digital، فإن هذا الربط البحري، المُدار من قبل شركة الكهرباء الإسبانية Red Eléctrica Española (REE) والمكتب الوطني المغربي للكهرباء والماء الصالح للشرب (ONE)، يمثل منذ سنوات إحدى الركائز الأساسية لأمن الطاقة في غرب البحر الأبيض المتوسط، ويؤمن قدرة إجمالية تبلغ حاليًا 1400 ميغاواط بعد مضاعفتها سنة 2006 ضمن مشروع REMO، في استجابة للطلب المتزايد.
وصممت الكابلات البحرية الثلاثة، الممتدة على مسافة 29 كيلومترًا تحت مياه المضيق وبعمق يصل إلى 620 مترًا، حسب التقرير، لتتلاءم مع البيئة البحرية، حيث تم دفنها ضمن خنادق بحرية وتغطيتها بألواح خرسانية لتقليل الأثر البيئي وضمان استمرارية الأنشطة الاقتصادية البحرية، كالصيد والنقل.
لكن هذا الربط لم يكن مجرد بنية تحتية احتياطية. فحين دخلت إسبانيا في دوامة انقطاع كهربائي غير مسبوق، تميزت فيه مناطق الجنوب الصناعي بالكثافة الاستهلاكية والانكشاف الحاد، كانت الاستجابة الآنية من الرباط هي ما جنب البلاد الأسوأ.
وبحسب ما عاينته الجريدة El Estrecho Digital، فقد قام المغرب، الذي كان حتى ذلك اليوم من مستوردي الكهرباء من إسبانيا، بتفعيل قدرة إنتاجية بلغت 38% من إجمالي إمكانياته الطاقية، وعكس مسار التدفق في ظرف ساعات فقط، ليبدأ في تصدير الكهرباء إلى الجار الشمالي الذي كان بحاجة ماسة إلى أي دعم تقني عاجل.
التدخل المغربي، وفقًا لصحيفة مونيداريو، لم يكن فقط إجراءً تقنيًا محضًا، بل اتخذ بعدًا سياسيًا واستراتيجيًا بالغًا، بالنظر إلى رمزية اللحظة ودلالة القرار.
واستجابت شركة الكهرباء المغربية العمومية بسرعة غير مسبوقة لطلب نظيرتها الإسبانية، حسب التقرير ذاته وتم تشغيل محطات توليد تعتمد على الفحم والغاز لتغطية النقص المفاجئ، ما ساهم في استعادة التوازن داخل الشبكة الإسبانية بشكل تدريجي، خاصة في أكثر المناطق تضررًا.
وبلغة الأرقام، فقد انتقل المغرب من استيراد 778 ميغاواط، حسب ذات التقرير، إلى تصدير 519 ميغاواط في غضون ساعات قليلة، وهي نسبة رغم تواضعها مقارنة بإجمالي الاحتياج الإسباني، الذي يتجاوز 10 آلاف ميغاواط، إلا أنها كانت حاسمة في تدارك الموقف ومنع اتساع رقعة الانهيار الكهربائي.
اللافت أكثر، أن هذه المناورة الاستثنائية لم تؤثر على استقرار الشبكة المغربية داخليًا، باستثناء انقطاعات محدودة ومعزولة، ما يعكس متانة النظام الكهربائي الوطني وقدرته على التعامل مع الضغوط العابرة للحدود.
ورغم أن التعاون الطاقي بين المغرب وإسبانيا ليس وليد اللحظة، فإن هذا الحدث كشف عن بُعد غير مسبوق في مرونته واتجاهاته المعكوسة، حيث أصبح بإمكان البلدين تبادل الأدوار من المصدّر إلى المستورد بحسب الحاجة، بعيدًا عن النمط التقليدي الأحادي الاتجاه.
وقد جاء هذا التطور بعد أن تغيرت معادلات الغاز في المنطقة، إثر توقف الإمدادات الجزائرية عبر الأنبوب المغاربي الأوروبي منذ 2021، بفعل الأزمة السياسية بين الرباط والجزائر.
ومنذ ذلك الحين، شرع المغرب في استيراد الغاز الطبيعي المسال من الأسواق الدولية، وتقوم إسبانيا بإعادة تحويله إلى غاز وضخه مجددًا عبر نفس الأنبوب، لكن من الشمال إلى الجنوب.
واعتبرت صحيفة "مونيداريو" الاسبانية، أن هذه الحلقة تمثل نموذجًا جديدًا لحوكمة الطاقة في المنطقة، حيث يتحول البحر من حاجز جيواستراتيجي إلى جسر تكنولوجي، وحيث يصبح التعاون بين الدول ضرورة استراتيجية وليس خيارًا.
وأشارت إلى أن الهامش المتاح للشبكة الكهربائية الإسبانية لا يتجاوز 2.8% مقارنة بالحد الأدنى الموصى به أوروبيًا والمحدد في 10%، ما يجعل الاعتماد على الربط مع المغرب أمرًا مصيريًا في أوقات الطوارئ.
في المقابل، لم يكن الحضور المغربي مجرد استجابة لأزمة خارجية، بل جاء مدعومًا برؤية طاقية بعيدة المدى أعلنت عنها وزيرة الانتقال الطاقي ليلى بنعلي، والتي أكدت أن المغرب يطمح إلى بلوغ 52% من قدرته الإنتاجية من الطاقات المتجددة بحلول عام 2026، مقابل 42% حاليًا، مع مواصلة تطوير مشاريع الهيدروجين الأخضر ومحطات إعادة التغويز، مثل تلك المزمع إنشاؤها في الناظور غرب المتوسط.
بهذه المقومات، يؤسس المغرب نفسه كشريك لا غنى عنه في أمن الطاقة الأوروبي، ويعيد رسم ملامح الجغرافيا الطاقية في غرب المتوسط، حيث تتبدد الفوارق، وتُبنى استراتيجيات مرنة، قابلة للتكيف مع الحاجة والمصلحة المشتركة.
ولم يكن حدث انقطاع الكهرباء، مجرد عطل عابر، بل مؤشر قوي على أننا أمام مرحلة جديدة من التعاون الإقليمي، يعاد فيها تعريف الحدود، ويتقدم فيها التضامن على الانغلاق، والاستباق على الارتجال.