مصالحة الاتحاديين: هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟

لا شك أن ادريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كان يعلم وهو يطلق مسلسل المصالحة التنظيمية داخل بيت "الوردة"، أن الخطوة ستلاقي معارضة شرسة من طرف العديد من أقطاب الحزب داخـل المكتب السياسي خصوصا، من بين الطامحين إلى منصب الكتابة الأولى. لشكر كان يعلم أن المصالحة لا تخدم مصالح العديد من القيادات اليوم، التي ساندت لشكر في عملية التخلص من معارضيه بعد المؤتمر الوطني التاسع، ولاسيما تيار المرحوم أحمد الزايدي.
وقبل الحديث عن الرهانات التنظيمية الحالية داخل حزب "الوردة" لا بعد من تحليل الوضع داخل "الاتحاد الاشتراكي" منذ انتخاب ادريس لشكر كاتبا أولا، لا على المستوى التنظيمي أو على المستوى الانتخابي. صحيح أن لشكر انتصر على معارضيه في الحزب، سواء خلال محطة المؤتمر الوطني التاسع وما تلاها من صراعات انتهت بخروج حزب "البديل الديمقراطي" الذي لم يحصل على وصل التأسيس، أو خلال محطة المؤتمر الوطني العاشر التي انتهت بانتصاره على مجموعة من القيادات ممثلة في حسناء أبو زيد وعبد الكبير طبيح وكمال الديساوي..
لكن هذا الانتصار كان بأي ثمن؟ النقابة الموازية للحزب وهي "الفيدرالية الديمقراطية للشغل" تراجع حضورها ولم تعد ضمن النقابات الأكثر تمثيلية، بفعل انتقال الصراع السياسي داخلها والذي حسمه ادريس لشكر لصالح مؤيديه (مجموعة فاتيحي) ضد معارضيه (مجموعة عبد الرحمان العزوزي)، والتي انتهت بتأسيس نقابة جديدة من رحم النقابة الأم.
أما على المستوى الانتخابي والذي لا يعدو أن يكون سوى انعكاسا للوضع التنظيمي لكل حزب، فإن الانتخابات التشريعية لسنة 2016 والأولى في عهد ادريس لشكر، عرفت تراجعا لم يسبق للاتحاد الاشتراكي أن عاشه على مستوى النتائج، واتضح حينها الكتلة الناخبة لحزب الاتحاد الاشتراكي التي كانت تصوت له في كل استحقاقات انتخابية قد اندثرت لعدة عوامل.
فالأرقام التي حملتها نتائج الاستحقاقات التشريعية، في المدن الكبرى مثيرة للدهشة. ووفق الإحصائيات الرسمية، فإن فدرالية اليسار الديمقراطي، المشكلة من 3 أحزاب يسارية، حصلت في انتخابات 7 أكتوبر الجاري، في المقاطعات الثماني بمدينة الدار البيضاء، على 20.597 صوتا، و"الاتحاد الاشتراكي" على 9322 صوتا. أما في الرباط التي كانت تعد معقلا لحزب الوردة منذ 1963 ولم يسبق له أن خرج خاوي الوفاض من المقاعد منها كما حصل في هذه الانتخابات، فقد حازت فدرالية اليسار على 11.945 صوتا، بينما "الاتحاد" 2768 صوتا. وفي سلا جاءت الفدرالية الأولى مقارنة مع حزب "الوردة" من خلال 11.945 صوتا مقابل 2768 صوتا. الأمر نفسه حصل في القنيطرة حيث حصدت الفيدرالية: 4061 والاتحاد على 6480 وفي فاس حصدت الفيدرالية 5918 صوتا، في حين حصل الاتحاد الاشتراكي على 4184 صوتا. الوضع نفسه سجل على مستوى دائرة طنجة أصيلة، حيث حازت الفيدرالية على 3178 صوتا، و"الاتحاد" على 827 صوتا ونفس السيناريو حصل في مراكش ووجدة. فما الذي تعنيه هذه النتائج؟
لماذا نقارن الاتحاد مع الفيدرالية؟ لأن الأخيرة تعد هي المنافسة الأولى للحزب على مستوى الحواضر الكبرى، والتي ظل الاتحاد الاشتراكي محافظا على موقعه فيها عند كل الانتخابات. صحيح أن ادريس لشكر تمكن من إعادة تنظيم الحزب وعقد العديد من المؤتمرات الإقليمية وعمل على تجديد هياكله وهياكل قطاعاته الموازية، لكن الثمن كان هو إقصاء العديد من معارضيه، وهو الأمر الذي ساهم فيه أنصاره بشكل كبير حتى يخلو لهم المجال من أجل الوصول إلى مناصب المسؤولية بشكل سلس.
لقد كان النتائج السلبية لهذه المرحلة من تاريخ الحزب، تهمــيش النـقاش والاجتهاد الفـكري، والتركيز على الصراعات الذاتية داخل التنظيمات ما انعكس أخلاقيات التنظيمي الحزبي وضوابــطه، والأدهــى مــن ذلــك، أن استفــحال هــذه المظاهر، لم يصــب بالعقــم هـوية الــحزب اليـسارية وحسب، بــل وقــد أفــقده المــناعة إزاء الاختراقات الخارجية.
لا شك أن هذه المعطيات الموضوعية بالإضافة إلى أخرى ذات بعد ذاتي مرتبط بالطموحات المستقبلية لادريس لشكر، تحكمت في إطلاقه مسلسل المصالحة بين أبناء البيت الواحد، والتي تعد المخرج الوحيد من أجل عودة الغاضبين إلى حزب "الوردة" ومساهمتهم في عودته بشكل أقوى إلى الساحة السياسية، بل الوضع الذي أصبح عليه الآن والذي لا يجعل منه سوى تابعا لتنظيم سياسي آخر مهيمن. لكن هذه المصالحة تواجه اليوم بمقاومة شرسة ممن يطمحون إلى خلافة ادريس لشكر.
إن تحليل هذا الوضع يجب أن يتم عبر وضع خريطة المستفيدين وغير المستفيدين. على رأس لائحة المستفيدين نجد أحمد رضا الشامي، المعين حديثا رئيسا للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي تروج أنباء منذ فترة على عودته للحياة الحزبية من بوابة "الاتحاد الاشتراكي"، لاسيما وأن المصالحة تستهدف أساسا التيار الذي كان محسوبا عليه وهو تيار المرحوم احمد الزايدي، ويمكن أن يشكل هذا الوضع منفذا أمامه من أجل قيادة الحزب في الفترة المقبلة.
وفي لائحة غير المستفيدين عدد من حلفاء لشكر في صراعاته التنظيمية السابقة، والطامحين إلى منصب الكتابة الأولى والذين نجد من بينهم عبد الكريم بنعتيق ومحمد بنعبد القادر والحبيب المالكي. فعلى سبيل المثال صرح بنعبد القادر في لقاء حزب بأنه "يجب القطع داخل الإتحاد مع الحلقة المفرغة من إنتاج الغاضبين ثم المصالحة وانتظار غاضبين جدد"، في تعليق له على مبادرة المصالحة. المعارضون لمسلسل المصالحة داخل الاتحاد الاشتراكي لا يقفون عند هذا الحد، وإنما يمتدون حتى إلى عدد من التابعين لهم والمستفيدين من مرحلة ما بعد المؤتمر التاسع للحزب في تبوء مواقع المسؤولية.
مع ذلك، لم يعد أمام ادريس لشكر من أجل إرجاع الحزب إلى سكته الصحيحة سوى مصالحة الحزب مع مناضليه واستقطاب أطره المنزوية إلى الوراء، لتحولات سياسية أكبر من رهانات الحزب التنظيمية الداخلية، والمرتبطة أساسا بحاجة البلاد في سياق بلورة مشروع تنموي جديد إلى أطر سياسية متمكنة وقادرة على إنتاج سياسات عمومية جديدة من شأنها استقطاب المواطنين إلى المشاركة في الانتخابات التشريعية المقبلة.