فاس: رضا حمد الله
لم تتبقى إلا ساعة لآذان المغرب في ذاك اليوم من أكتوبر. الأم وابنتها عادتا لتوهما بعد تعب طال ساعات في جمع محصول الزيتون في الفدان المتوارث. والحمار يتقدمهما وصلا إلى المنزل قبل أن ينزلا حمولته تكلفت الابنة بإفراغها في مكان إلى حين جمع كل المحصول. أما فجلست على حجرة على مرمى حجر من الباب، لأخذ قسط من الراحة قبل الدخول.
كانت منهكة سنها وقد أوشكت على السبعين، لا يسمح لها بتحمل كل هذا التعب. لكن ظروفها تحتم عليها العمل والكد فيه ولو ارهقها ذلك. لو كان هناك من ينوب عنها، لما اتعبت نفسها في سن تحتاج فيها إلى الراحة. ابنها الوحيد مستهتر لا يهتم ولا يبالي لهمومها وتعبها. يومياته بين غرفته ومتجر الدوار. لا يعمل وينتظر مصروفا يوميا مرهقا لجيب أم ثقبته عوادي الزمن وظروفها. لا دخل لها غير ما تجنيه من محصول زيتون، لا يكفي مصروفا لشهرين. عبثا تحاول تنمية دخلها بتربية وتسمين الأكباش والعجول.
الابن يزيد الأم عبئا، اتكاليته ملت تحملها وهو غير مهتم بآلامها وتحملها. زاد خموله منذ غادر السجن بعد إنهاء عقوبته المحكوم بها. قضى 15 سنة في السجن بعدما كان قتل أخته الكبرى. مدة لم يستوعب فيها الدرس، ولم يأخذ من خطئه عبرة تفيده، فيشمر عن ساعديه ويطوي صفحة الماضي بكل سلبياتها ويكتب حروف الجد في صفحة بيضاء ناصعة جديدة.
في ذاك المساء أحس بوصولهما، وخرج من غرفته لا ليحييهما على تضحياتهما، بل ليطلب حقه مما جمعاه دون أن يشقى أو يتعب في جمعه. استأذن من أمه وتوجه لحيث يخزن المحصول ماسكا كيسا بلاستيكيا حاول ملأه بالزيتون. كل يوم يملأ مثيله يبيعه في متجر الدوار، ويكسب من ذلك مالا ينفقه في شراء السجائر والقمار، حتى إذا حل الصباح، عاد لينام بغرفته.
عبثا حاولت الأم منعه، وحفزته على الاعتماد على نفسه. لكنه تحداها مطالبا بحقه في الإرث مما تركه والده من أرض وغلة. أمسكت بظهره وحاولت جره كي لا يملأ الكيس. لقد ملت أنانيته. لكنه استدار ودفعها بشكل فقدت معه توازنه لتسقط على رأسها الذي ارتطم بالجانب من جدار. لم يكتفي بذلك، بل وشرع في ركلها حتى وهي تئن من شدة الألم. وأكثر من ذلك جلس على ركبتيه وأكثر من لكماته إلى وجهها ولم يكف إلا بعدما شلت حركتها وقل أنينها.
صراخها سمعته ابنتها، وحدها التي كانت عليها بعدما تحامت عليها الظروف وابن عاق. كانت تغسل رجلاها، لما تناهى لمسمعها أنين أمها. خرجت مسرعة فوجدته ما يزال يعتدي على أمهما. جرته إلى الخلف واشتبكا. كانت أقوى منه. ولما أحس بالهزيمة انسحب وغادر. ظنته لن يعود. لكن فراره لم يكن إلا للتسلح. غاب دقائق وعاد في اللحظة التي كانت فيها أخته تحضن أمهما التي كانت في غيبوبة. كانت تبحي وتستنجد بالجيران ليساعدوها لحمادلها إلى المستشفى البعيد.
لم تنتبه لعودته وتربصه بها. اما هو فقد العدة للتخلص منها. تسلح بأداة رادة وعاد. واستغل وضعها ليضربها ضربة قوية على رأسها. كانت كافية لشل حركتها وتحاشي مقاومتها. كان يحس بقدرتها على هزمه.
تطاير دمها ورش المكان وتحول لباسها وأمها إلى لوحة بلون الضياع. لم يرحمهما حتى وهما في حالة احتضار. واصل ضربهما بالأداة إلى أن تيقن من وفاتهما في لحظة كان فيه بعض الجيران حلوا بالمكان. لا أحد منهم تجرأ عليه. كان كثور هائج. يهدد كل من يقترب منه. بعضهم كان قد اتصل بمصالح الدرك، لكن حضورهم سيطول. المركز الترابي بعيد عن الدوار بعشرات الكيلومترات. وبالتالي فشل حركته وإيقافه سيكون صعبا.
عبثا حاول شباب الدوار محاصرت، لكنه تمكن من الفرار إلى غابة مجاورة رغم ملاحقتهم له. فراره وكثافة أشجار الغابة وإسدال الليل خيوطه، صعب عمل عناصر الدرك التي حضرت بعد ساعة ونصف. كانت الأم وابنتها جثتين هامدمتين صورتا ونقلا لمستودع الأموات في ظروف صعبة. الطريق المتربة المؤدية إلى الدوار، صعبة الولوج على العربات بعدما جرفا مياه الأمطار جزء منها. نقل الجثتين ووصول الدرك كانا صعبين وأخرا التدخل.
لم يكن ممكنا البحث عنه في الغابة ليلا. رابطت عناصر الدرك التي حضرت بتعزيزات مهمة، في الدوار حيث أكرمهم السكان كعادتهم. قضوا الليل هناك تحسبا لأي طارئ وخوفا من عودته وانتقامه. لكنه لم يعد. وفي الصباح تطوع شباب مع عناصر الدرك وتفرقوا مجموعات مسلحة بالعصي تحسبا لمقاومة منه، وانتشروا في الغابة. قضوا ساعات إلى العصر، ولم يجدوا له أثرا كان على دراية ومعرفة بكل المسارب والطرق الممكنة للاختباء.
كان لا بد من الاستعانة بالكلاب المدربة ومروحية. لكن البحث لم يسفر عن نتيجة، ليعود الجميع أدراجهم في انتظار يوم جديد ومجهود مضاعف في بحثهم عنه. وتكررت العملية في اليوم الموالي، وطال البحث ساعات إلى الظهيرة، لما حدد مكانه اختبائه.
خطة محكمة وضعتها عناصر الدرك للسيطرة عليه. ورغم ذلك قاومهم وأصبب اثنين منهم وشاب بالدوار، بجروح نتيجة رشقه الجميع بالحجارة، لكن عناصر أنزلتهم المروحية قريبا منه، تمكنت من السيطرة عليه ليعتقل ويقتاد لمركز الدرك حيث حقق معه واعترف بكل المنسوب إليه ليحال بشكل مباشر على الغرفة الجنائية التي أدانته بالسجن مدى الحياة عقوبة لن ينهيها ولن يغادر بعدها السجن. حتى خارج أسواره، لم يتبقى له من حبيب يحضنه ويقبل بأنانيته، بعدما قتل أمه وأخته وقبلهما أختا أخرى. جميعهن أجهز على حقهن في الحياة.