فاس: رضا حمد الله
عاش حياته يكد ويجد لبناء أسرة وفر لها كل حاجياتها. لم يبخل على زوجته ولا ابنهما الوحيد. كانا كل شيء في حياته. لأجلهما يمكن أن يفعل أي شيء يرضيانه ولا يخالف ما جبل عليه من أخلاق. كان نجارا ماهرا شهرته فاقت حدود قرية على مشارف الطريق الوطنية.
بدأ في ورشة صغيرة وطور مشروعه إلى أن أصبح أشهر نجار في المنطقة ومحيطها. وبزيادة شهرته زادت أرباحه. ثلاثة عقود عاشها كذلك يخدم كل الزبناء ولا يميز بين أحد منهم. لم يبرح المنطقة ولا فضل المدينة عليها حتى وهو في عمر الستين.
كان مرتاحا ومنسجما مع زوجته. ولماما ما تخاصما أو ساء تفاهما. ابنه أتم دراسته الجامعية بكلية الآداب بجامعة في مدينة مجاورة، وعاد للاستقرار معه ومساعدته في ورشته في انتظار الحصول على وظيفة يؤمن بها مستقبله.
الابن كان يسير الورشة في غيابه ويساعده في التنسيق مع الزبناء. ومنهم مطلقة أربعينية كانت مثيرة التردد على المحل. لم يكن الأمر ليثير شكه في البداية. لكن مع مرور الأيام بدأ يخال أشياء ستعكر صفو علاقته بأبيه.
كانت السيدة الأم لطفلين، تحرص كلما حلت بالمكان، على الانفراد بوالده. أمر لم يتقبله خاصة أنه تكرر مرارا. ذات مرة كان خارج الورشة. وبعودته شاهدها ماسكة يد والده بحميمية، وهما باسمين. وقف بعيدا يراقب الأمر.
صدمته كانت كبيرة وهو يرى أباه يمسك خديها بيديه في حركة لم يستسغها. لقطة جعلته يندفع ويسرع الخطو للوصول. لقد شك في وجود علاقة عاطفية بينهما. ولخوفه على تماسك الأسرة ومصيره وأمه، اندفع في رد فعله على المشهد.
طردها وقسى على والده بكلمات جارحة لمشاعره. عبثا حاول إقناعه أنها زبونة وفقط. لم يصدقه وواصل سب والده بشكل لم يعهده فيه. الأب اكتفى بمحاولة الإقناع تلافيا قبل أن ينسحب ويتوجه لمقهى مجاورة، متحاشيا مزيد النقاش الذي قد يؤدي لما لا تحمد عقباه.
سمعة الورشة في خطر في حال عاين زبناء نزاعهما أو علمهم باستغلال صاحبها للمطلقة.لم يترزن الابن وكشف السر لأمه ليتحول منزل الأسرة بالدوار المجاور، إلى ساحة لنقاشات ونزاعات لا تنتهي.
كل يوم تقريبا كان الاصطدام يتجدد. لا أحد منهم حكم لغة العقل على العاطفة والاندفاع. والنتيجة طرد الزوجة والابن من بيت الزوجية. ظلا بعيدا عنه شهرا غاب فيه الابن عن الورشة. رفض حتى الجواب على اتصالات والده الهاتفية المتكررة.
مرت الأيام ثقيلة بدقائقها على الأب. ندم على لقطة بريئة ومسك أبرأ لامرأة من عليها ويساعدها على إعالة أسرتها.تعرف عليها لما باعته بعض ما تملك من خشب أسرة وأرائك. كانت محتاجة لذلك. ولما علم بوضعها عطف عليها وساعدها.
لم يكن بينها أي شيء مثير للشكوك. وما إمساكه لوجهها، إلا مواساة كما لو كان واقفا مع ابنة ليست من صلبه. كان يعتبرها كذلك. لم يكلف الابن نفسه عناء التثبت مما يزكي شكه. ولا سمح للأب بالدفاع عنه وتبرير سلوكه.
وبقي التوتر سيد علاقة ابن بأب سرعان ما زادت بتزايد عدد أيام بعدهما عن بعض. ظلا على تلك الحالة. الأب يتصل تازة بالابن وثانية بزوجته. لكن لا أحد يجيب أو منحه فرصة ليدافع عن نفسه.
ذات صباح كان قد فتح باب الورشة لتوه ويستعد لمباشرة العمل واستقبال مستخدميها. وهو منهمك في ذلك، فوجئ بابنه يهاجمه. كل له كل الاتهامات، ورشق سمعته بكلمات نابية وجرح مشاعره كثيرا.
ضبط الأب أعصابه طويلا، محاولا الدفاع عن نفسه بتبرير علاقته بتلك المطلقة. لكن لا شيء نفع مع ابن مشحون بكراهية غير معهودة فيه. لكن قدرته على التحمل والصبر ستنقذ.
تبادل الأب مع ابنه عبارات السب والشتم. وزاد نزاعهما احتداما. والتهبت الأعصاب. اشتبكا لكن الغلبة كانت لابنه بنيته أقوى.
استسلم الأب وابتعد، محاولا الاحتماء بالورشة تلافيا للأسود. لكن الابن شرع في رشقه بالحجارة وكل ما تجده يمناه. الأب كذلك استعمل الطريقة نفسها لإبعاده وتخويفه ليتحول المكان لساحة حرب مفتوحة على كل الاحتمالات.
استمر التراشق دقائقا وفي لحظة سيسمع صراخ الأب. حجرة أصابته في رأسه ليتهاوى ويتلقى ثانية أصابته في قفصه الصدري وهو ساقط على ظهره. لم يكف الابن عن رشقه ولم يكتفي بذلك. استل سكينا كان يخفيه في جيبه، استعدادا لمعركة خطط لها. لم يرحم أبا ربى. ضربه في بطنه وعنقه ولم يتوقف إلا بعدما خمدت أنفاسه.
حين تجمع الناس كان الأب جثة هامدة والابن ما يزال في مسرح الجريمة واقفا. ظل كذلك حتى بعد حضور عناصر الدرك. ولم يبدي اي مقاومة. استسلم وصفد وترك في سيارة الدرك تحت حراسة عنصرين.
بعد استكمال إجراءات المعاينة ونقل الجثة لمستودع الأموات، نقل لمقر المركز القضائي للتحقيق معه. استمع إليه وسرد تفاصيله شكه في سلوك والده وتوتر علاقتهما. وكان لا بد من الاستماع للمطلقة شاهدة.
في المحضر حكت طيبوبة الأب ومساعدته لها كلما احتاجه أو زادت ظروفها تأزما. نفت أن تكون بينهما أي علاقة كيفما كان نوعها، إلا من علاقة إحسان وبر بها وابنيها. حقيقة ووجه بها الابن.
لم يجد غير البكاء. وضع يديه على رأسه وبكى طويلا. لقد قتل أباها بسبب شك أعمى بصره وبصيرته، وبعدما لم يمنحه فرصة للدفاع عن نفسه وتبرير سلوكه.