مجلة دعوة الحق- العدد 143
انحراف رجال الفكر قضية هامة ، وظاهرة معقدة ، تلفت نظر الباحث قصد فحصها وتبين ما يمكن فيها من إسرار ودوافع، وما يحيط بها من ملابسات
وقبل التعرض لذلك ، لابد من إيضاح معنى الانحراف الفكري قبل كل شيء، أنه ببساطة تخلى رجال الفكر عن مبادئه أو بعضها على الأقل، وتنكره لها بعد أن كانت أساس شخصيته
وجوهر الكيان الذي يبرز من خلاله في عالم الفكر ، وليس المراد بالانحراف هنا استبدال طرق بأخرى أو تعديل فلسفة خاصة ، أو الانتقال إلى موقع آخر من مواقع النضال الفكري
لأن هذا لا يسمى انحرافا ، وإنما هو مرحلة من مراحل العمل الفكري ، وصورة من صوره المتعددة.لانحراف كلمة تقترن بمعنى غير شريف عند انطلاقها ، يتبادر إلى أذهاننا أول ما يتبادر
كونه أتى عملا شائعا يأباه الشرق الرفيع، وتنبو عنه الطباع السليمة، إذا قال الله عز وجل (ومن الناس من يبعد الله على حرف)- والحرف والانحراف بينهما مشاركة- لا يفهم من ذلك إلا أنه مدخول في دينه وعقيدته
وعلى ذلك فكل تغيير يحث في صميم العمل الفكري، يدافع من الرغبة في تطوير أساليب العمل ، أو جنوح نحد التجديد و الطرافة، لا يدخل فيما نعنيه بالانحراف.
وهناك مسالة لابد من إزالة الالتباس العالق بها ، قبل المضي في شرح فكرة هذا الحديث ، تلك هي مسألة اختلاف الزوايا التي تنظر منها إلى انحرافات رجال الفكر ، ذلك أن ما يعد انحرافا لدى قوم معينين
لهم أنظمتهم الفكرية والعقائدية والمذهبية ، قد لا يعتبر انحرافا لدى قوم آخرين، يختنقون عنهم في هذه الأمور ، فبأي مقياس نقيس هذا الانحراف ؟
هل نقيسه بمقاييس مطلقة ، أو نقيسه بمقاييس مشتقة من النظام الفكري الذي ينتمي إليه رجل الفكر المنحرف ؟
هل إذا تمرد رجل فكر شيوعي ، واعتنق أفكارا مخالفة للشيوعية، تنظر إلى تصرفه من زواية المذهب الشيوعي، فنحكم أنه منحرف ، أو ننظر إليه من زاويتنا الخاصة ، متى كنا معادين للشيوعية ، ونقف منها على طرفي نقيض؟
أني أكاد أجزم بأن المقاييس المطلقة لا وجود لها، بل أنا جازم فعلا بأن كل شيء بنسبي في المحيط الإنساني العام ، ولذلك فأنا أنحى جانبا كل مقياس مطلق يستخدم في هذا المضمار
فلم يبق أمامي إلا ذلك المقياس النسبي المنتزع من صميم وجهة نظر خاصة إلى الأشياء عامة ، وإلى شؤون الفكر بصورة خاصة ، ووجهة النظر هذه، أما أن تكون وجهة نظري أنا ، بصفتي واحدا من مجموعة بشرية
لها فلسفتها الخاصة في الحياة، أو بصفتي الشخصية إذا كنت قد كونت لنفسي فلسفة خاصة ، وأما أن تكون وجهة نظر أولئك الذين إليهم ينتسب ذلك المفكر الذي يتخذ لنفسه منهجا آخر في التفكير .ونحن ملزمون بأن نأخذ بهذه أو تلك ، فآيتهما يجب أن نأخذ، وآيتهما يجب أن ندع في هذا المضمار؟.
أن تقييم حركات رجال الفكر الأجانب عنا ، لو أنه استند إلى فلسفتنا أو وجهة نظرنا الخاصة ،فكان ذلك عائقا كبيرا يحول دون فهم الآخرين ، ووضعهم في المنازل التي يستحقونها
وعلة ذلك أن من حق كل جماعة أن يكون لها تفكيرها ومقاييسها وفلسفتها، وليس من اللازم أن تكون مخطئة في ذلك، لكونها تخالف ما عندنا من مأتي الفكر، وعليه فينبغي أن ينظر إلى الانحراف الفكري بمنظار الفلسفة الفكرية التي يتحرك رجل الفكر داخلها ، باعتباره تجسيما حيا لبعض المبادئ ، ومنتميا إلى حضارة معينة تعطيه مكانته الخاصة في نطاق الفكر القومي.
ونحن قد نفرح كثيرا إذا ما وجدنا رجل فكر يبتعد عن إيديولوجية نعتبرها من جهة نظرنا خاطئة أو لا تتفق ومزاجنا العقلي على الأقل ، ليقترب من اتجاهنا الفكري أو المذهبي ، ولكن هذا لا يمنع من اعتباره منحرفا خان قضية طالما دافع عنها ووقف من ورائها
ويكاد يكون من المقطوع به أن استماتة رجل فكر في الدفاع عن مذهبه أندى عاش من أجله زمنا، أدل على الخلق العالي وصلابة الشخصية. والمفكر السريع التحول في آرائه ومبادئه، لا يستحق أن يكون موضع ثقة لا بالنسبة إلينا ولا بالنسبة إلى غيرنا
إننا نحتقر الجندي الذي يترك صفوفه لينظم إلى صف العدو، حتى لو كان هذا العدو هو نحن، وأن كان ذلك لا يمنعنا من استغلاله والانتفاع به على نحو من الأنحاء.
قد يعترض معترض فيقول:أـعتبر أولئك الذين تركوا عقائد قومهم ليعتنقوا عقيدة أحسن وأرقى منحرفين؟
هؤلاء الفرس والروم والهنود والصينيون الذين أساموا هل هم منحرفون؟ وأولئك الوثنيون والمجوس وعبدة الطاغوت الذين تحولوا إلى المسيحية هل هم منحرفون؟
وجوابي على هذا الاعتراض،أنه يخلط بين شؤون الفكر الخالص ، وبين شؤون العقيدة الدينية، والفارق بينهما أن العقيدة فيها من العناصر الجماعية أكثر ما فيها من العناصر الفردية ، على حين أن الفكر بالعكس من ذلك
هذا علاوة على كون عنصر العاطفة والشريرة يلعب في العقيدة الدينية الدور الأول، في الوقت الذي يتجلى فيه العاطفة والغريزة عن هذا الدور للعقل في حياة الفكر والعاطفة لا تحتمل النقاش، وقد تكون غير قاطعة للتعليل
أما العقل فالعلة هي الدعامة المنطقية التي يرتكز عليها ، وبناء على ذلك ،فالتحول الفكري عن المبادئ الفكرية يقوم على أساس اختيار
وما دامت الاتجاهات العقلية تكاد تتوازن من حيث ما تتقاسمه من حسنات وسيئات ، في حين أن العقيدة الدينية عندما تمس الناحية العاطفية لا يبقى أمام من يواجها اختيار في أخذها بطريقة غريزية أو كالغريزة
ومع الاختيار توجد المسؤولية،وبمقتضى المسؤولية يكون التحول عن المبادئ الفكرية الأساسية انحرافا.
وانحراف رجال الفكر ، لا يشمل الناحية النظرية وحدها ،بل هو يمتد حتى إلى ناحيتهم العملية ، فقد تكون آراء رجل الفكر التي يدعوا إليها قويمة واضحة مشرقة، ولكن بعض مواقفه العملية مما لا يصدر عن هذه لآراء
ولا يلتقي معها حول مبدأ من المبادئ، فالموقف العملي الذي اتخذه سارتر من الغزو الصهيوني ببعض البلاد العربية سنة 67 يتناقض مع نظرياته في حرية الشعوب كما لا تنسجم مع بعض مواقفه العملية الأخرى المتفقة مع آرائه المتحررة
والجدير بالذكر أن الموقف العملي المفكر ليس من شأنه أن يبقى نظامه الفكري على قيمته الذاتية ، متى كان مكذبا له غير صادر عنه
ولا سبيل إلى الفصل بينهما ، طالما كانت مواقف رجل الفكر العملية ينظر إليها غالبا على أنها الترجمة العملية لأفكاره ومبادئه ، فإذا هي كانت مناقضة لها ، كان صاحبها معرضا لآن يخضع لتقييم جديد
يمس بنيته الفكرية في الصميم، ولئن كانت الناحية الفكرية لاتعني إلا النابهين من المثقفين، لكونهم يملكون الاستعداد الكافي للتجاوب معها ، فإن الناحية العملية تقع في متناول الجماهير
على تفاوتها في مستوياتها الفكرية، فإذا هي كانت – أي الناحية العملية – مضطربة متناقضة ، مع المبادئ الفكرية ، أفسدت السمعة التي يمنع بها رجل الفكر لدى أولئك الذين لا تصله بهم إلا أو هي الصلات ولأسباب.
واقتران السمو الفكري بالانحطاط العلمي يحمل بعض الدلالات ، فهو يدل بصورة قاطعة على أن رجل الفكر لا يملك الشجاعة الكافية لإعطاء أفكاره صفة مجابهة الواقع، فهو يلتمس الوسائل للإخلال بها
والفرار منها ،متى رأى أن الوفاء لها عمليا يضيع عليه عدة مكاسب، ويعرضه لامتحان يحتاج اجتيازه إلى قدر من التضحية ونكران الذات
وهو يدل على استهتاره واستهانته بالآثار التي يمكن أن تنجم عن مواقفه المخيبة للآمال ، فهي إذا كانت تصادف عادة من يتصدى لشرحها وإيضاح التناقض الكامن فيها
فإنها لابد أن تستغل بكيفية أو بأخرى من طرف من يرون مصلحة من ورائها ،معتمدين على الشهرة التي يتمتع بها رجل الفكر لدى جماعات واسعة النطاق ، كما أنه يدل على أن أفكاره أضخم ما تتحمله شخصيته العملية ، فهو يصارع بالتصور والخيال
ويأتي ضروبا من البطولات الذهنية ، فإذا احتاج الأمر لأسباب ما لاتخاذ موقف عملي، أمكنك أن ترى الغار الذي يحمل جبلا في صورة كاريكاتوريو..
بعد هذه المقدمات نتساءل :لماذا ينحرف بعض رجال الفكر؟
إن الانحراف الفكري ليس خاصا بعصر من العصور ، وإنما وجد في كافة العصور ، ووسط جميع الأنظومة الفكرية ، وفي جميع مستويات الحياة العقلية ، من المثقفين العاديين ، إلى قادة الفكر وأرباب القلم
وقد ظهر بمظاهر وأزياء مختلفة ، حسب أحوال البيئات ، وملابسات الأزمنة والأمكنة ، فهو يظهر تارة بمظهر التجديد ، واستحداث أطراف أنماط البحث وأساليب التفكير
وتارة يظهر بمظاهر الثورة على الماضي والإنفاق من تقاليده العتيقة ، قصد استشراف أفاق المستقبل ، ويظهر تارة أخرى بمظاهر الشعبية والنزول إلى مستوى الجماهير
قصد إتاحة الفرصة لها كي تقرأ وتعلم ، أو بمظهر مهاجمة الفكري الرجعي بالذهاب إلى أقصى البار كرد فعل ضد المراكز العقلية المتخلفة ، أو بمظهر الغيرة على الحياة العقلية المتخلفة ، بالعمل على تلقيحها بعناصر أجنبية تهبها القوة ، وتجدد فيها دوافع الحياة
من حيث يراد بذلك تغطية هذه الحياة من حيث العقلية بمستوردات الفكر ، حتى تنهيهم معالمها، وتندثر أصالتها ، وكثيرة هي المظاهر والأزياء التي يظهر بها لانحراف الفكري ، الذي لا أعرف انحرافا أشد منه خطورة على شخصية الأمة.
ومهما تعددت تلك المظاهر والأزياء ، فإن مردها جميعا إلى مجموعة من العوامل ، منها وجود رجل الفكر في بيئة مختلفة اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، وقد يبدو هذا السبب غريبا للوهلة الأولى، ولكن تزول الغرابة إذا نحن عرفنا أن الإقطاعية الفكرية غالبا ما توجد في مثل هذه البيئة، مثلها في ذلك مثل إقطاعية اقتصادية السياسة وغيرهما من ضروب الإقطاعيات ، حيث تستبد الأقلية الممتازة على الأكثرية الجاهلة المختنقة، وتعيش على حسابها
وتستغل غفلتها عن حقوقها وانحطاط وعيها السياسي والاجتماعي ، لتدعيم مكانتها المادية والمعنوية ، المثقف الكبير في الوسط المتخلف تنين ضخم وغول مفترس ، لا يملأ بطنه أي شيء
فمهما أعطى من الفرص، وتهيأ له من الإمكانيات ، فإنه لا يريد أن يشبع، ولا أن يحس بالكفاية ، وإنما يطلب دائما المزيد ، في شراهة لا تعرف التوفيق عند حد من الحدود
وليس معنى هذا أن كل رجل فكر في هذا الوسط يعتبر تربة صالحة بدور الانحراف، لما تقدمه من فرص التسلق الاجتماعي السريع للمغامرين والمستقلين والانتهازيين
فإذا لم يوجد عند رجل الفكر عاصم من ضمير يقظ وأخلاق عالية ، وقع في شراك الانحراف لا محالة ، وهذا هو السر في أن المثقفين المنحرفين في مثل هذا الوسط يكونون الأغلبية الساحقة داخل الوسط المثقف،ويبقى التزهاء معدودين على رؤوس الأصابع.
ومنها وقوع طائفة هامة من رجال الفكر تحت تأثير رجال السياسة، بحيث يسخرونهم لأغراضهم، ويتخذون من أقلامهم وسائل فعالة في التأثير على الجمهور سواء عن قصد – من طرف رجال الفكر- أو بدون قصد-
وما استولت السياسة على الفكر بهذه الطريقة إلا وأفسدت عليه أمره ، وحطمت قيمه ومثله هي ، ونقلت إليه عدوها فأصبح يراوغ ويدجي وينافق، ويسمى الأشياء بغير أسمائها
وبعمد إلى أسلوب المغالطة واللف والدوران، وهذا هو الانحراف في أبشع معانيه ، ومتى أصبح رجال الفكر متخلفين بأخلاق رجال السياسة، ضاعت الحقيقة ، أو توارت تحت حجاب كثيف من المراوغات يقصد بها إلى التضليل والتمييع والخروج بالأشياء عن طبائعها، ومن تم يتحولون إلى بهلوانيين ودجالين، ينشرون البلبلة في الأفكار ، ويزيفون العقول الناشئة عن جادة الصواب.
والأمر الخطير في القضية أن السياسة في عصرنا هذا بلغت من الدقة والتعقيد ومهارة الوسائل،إلى حد أنها تستطيع أن توقع عددا من رجال الفكر في أحابيلها، بحيث نتخذ منهم أبواق دعاية لها دون وعي منهم
فلها خلايا في مراكز العلام ، وفي رحاب الجامعات ، وبين أوساط الطلبة ، وفي دور النشر ، وفي جميع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، وتملك من الوسائل ما توجه به الرأي العام الثقافي ولاجتماعي
بحيث تصنع لرجال الفكر الأهداف والغابات والأفكار والمواضيع التي تريد لهم أن يجعلوها مجال اهتمامتهم،أقول هذا وأنا لا أعني طبعا وجوب استبعاد كل عنصر سياسي عن دائرة الفكر لأن هذا غير ممكن
فضلا عن أنه رأي خاطئ من أساسه ، فكل مثقف لابد أن يكون له اتصال بالجانب السياسي لبلاده ولبلدان العالم ليكون له فيه رأي ، وإنما الذي أعنيه هو وجوب بقاء الفكر فوق السياسة ، بحيث يخضعها لمقاييسه
ولا يخضع هو لمقاييسها ، أو يتركها تتصرف فيه على نحو استغلالي ، وإلا كانت النتيجة وقوعه في الانحراف ، وإن من شق الأمور أن يعرف الإنسان ماذا يريد رجال السياسة بتصليحاتهم ومواقفهم
وإلى أي مدى تنطبق عندهم الألفاظ على مدلولاتها ، فكثيرا ما يقولون :نعم ، وهم يريدون:لا ، أو العكس ، وكثيرا ما يعطون للألفاظ معاني مطاطة تتأرجح بين شتى الاحتمالات ، وكم يصافحون يدا وهم يشحذون السكين لقطعها
ويعلنون عن سياسة وهم يرون عكسها ، وفي هذه الحالات وأشباهها ، لا يدري الإنسان على أي معنى أو مضمون يحمل مواقفهم ، وليس هذا حاصلا بالنسبة إلى العاديين من الناس فقط
وإنما هو حاصل حتى بالنسبة لرجال الفكر الذين لهم علم ببواطن الأمور ، لماذا نجد جمهرة من قادة الرأي في أرويا وأمريكا منحازة لوجهة نظر إسرائيل؟
أليس ذلك بتأثير من الصحافة السياسية الصهيونية أو السائرة في ركابها ،حيث أخذت تلح على أفكار الناس وتطالعهم بسمومها يوما بعد يوم ، وتخاطبهم باللغة التي تنفذ إلى موطن الضعف في نفوسهم وعقولهم ؟
ولماذا استبدت عقدة الذنب بالشعب الألماني تجاه اليهود ؟أليس بوسائل الصهيونية وحيلها السياسية الماكرة؟
ومن عوامل هذا الانحراف ، طبيعة الصلة التي تربط اليوم بين الجمهور القارئ ورجال الفكر.
وبيان ذلك أن انتشار الطباعة ورواج الكتب والصحيفة والمجلة بين أكبر عدد ممكن من أفراد البشر ، إذا كانت له مزاياه لكثيرة التي لا تنكر ، فإن من سيئاته كونه خلق الدور الخطير الذي أخذت تلعبه الجماهير القارئة
في التأثير على رجال الفكر والقلم ، إذ كثيرا ما تستطيع أن تفرض أذواقها وميولها ونزعاتها عليهم ، عن طريق الإيحاء ، فتوجههم إلى ما يتفق وأهواءها ، فلا يشعرون إلا وهم منقادون لها فيما تحب وتكره ،
يعامل الرغبة في الفوائد الاقتصادية التي تنجم عن ذلك ، وبدافع من رغبة كل من المؤلف والناشر في إقبال المستهلك على البضاعة المطبوعة ، وهذا سر تحول عدد من رجال الفكر من التأليف إلى الصحافة أو السينما
وتخفف بعضهم من كثير من أعباء الفكر الثقيلة التي كانت ترهق أعصابهم ولا تغني جيوبهم ، وهذا لون آخر يقع الانحراف ، لا يقل بشاعة عن أي انحراف آخر يقع في حياة الفكر ، وإذا كنا نعرف مسبقا أن الكثرة الكاثرة اليوم
إنما تخطف الثقافة خطفا ، وتكتفي بقشورها دون لبابها مع العلم بأنها أي هذه الكثرة هي معقد الأمل عند الناشر ، اقتنعنا أن من أشق الأمور على رجل الفكر ، أن يبقى بمعزل عن التأثر بهذا الوضع الذي يحمل كثيرا من الوعود والمغريات.
وإن كان ذلك لم يمنع وجود مفكرين كانوا من قوة الشخصية والقدرة على الاكتفاء الذاتي ، بحيث اكتفوا بجمهورهم الذي تتحكم فيهم غالبا فكرة رواج الكتاب ، ونزعة إرضاء الجمهور الكبير القارئ.
وينبغي ألا ننسى أن هناك بعض رجال الفكر الذين ناضلوا من أجل الكلمة ، ولكن مجتمعاتهم لم تعترف لهم بالجميل ، وعاملتهم في شيء غير قليل من الإهمال واللا مبالاة ، الأمر الذي دفع بهم بعد أن أدركوا جزءا من نجاح إلى الثأر لأنفسهم بالانتقام منها
عن طريق تسخير الكلمة لابتزاز المال، والحصول على مكانة اجتماعية مرموقة ، وشهرة واسعة النطاق ، ولو كانت قائمة على أسس زائفة، أو عن طريق آخر ، وهو نبذ الكلمة نهائيا ، مع الاستعاضة عنا بوسائل أخرى ، أجدى وأنفع وأضمن في جلب المنافع العاجلة
وكان الأليق بهم أن ينظروا إلى مدى استعداد مجتمعاتهم للتجاوب معهم ، وإلى إمكانياتها وطاقاتها الفنية والفكرية ، ومن تم لا يطالبون بما ليس في استطاعتهم ، ويلتمسون لها العذر ، إذا هي فضلت عليهم المشعوذين الدجالين
وكل نافخ مزمار ، أو ضارب على عود ، أو راقصة في حلقة ، أو مهرج في سيرك ، هاهنا يذهب الفكر ضحية الأنانية وسوء التقدير والترقب المحمود النتائج العاجلة، وقياس رسالة الفكر بغير مقياسها الحقيقي
وتكون النتيجة تعرض القيم الفكرية لرجة عنيفة ، وإصابة طلاب الحقيقة و عشاقها الذين لا يخل منهم أي محيط ثقافي بخيبة أمل مريرة ، قد تزغزغ إيمانهم و ثقتهم ببعض المثل التي أغتنقوها من أعماق قلوبهم.
هذا وأن حياة الفكر في عصرنا هذا ، قد بلغت من التنوع والخصوبة وتعدد المذاهب والاتجاهات،ما من شأنه أن يفتح المجال واسعا أمام كل انتهازي أو دجال ، كي ينفث سمومه في الناس تحت شعارات وأنماط من الفكر مختلفة، تحمل الاسم البراق، والشارة المشرقة
هذا علاوة ما تتحمله لغة الفكر والوجدان من ضروب التأويل والتخريج، وما تساعد عليه من التلاعب بالألفاظ ، وألوان الرمز والتورية والإيحاء، وملئ ما بين السطور بالكلام الكثير الذي لا يقل صراحة فيقال ضمنا
وعلى كل فكرة دليل، وخلف كل وجهة نظر عبرة ، أ, أكثر، ولكل لفظة مجموعة من الظلال والمعاني الأساسية والجانية ، وهذا إذا كان من حسنات اللغة وخصوبة الدلالات ، فإنه فرصة تتاح لكل راغب في الدس والتآمر على قيم الناس العليا.
ولابد من كلمة تقال في التفرقة بين الانحراف، وتطور مواقف رجال الفكر في آرائهم ونظرياتهم،حتى لا تقع في التباس يجلنا لا نضع بينهما حدودا فاصلة ، ذلك أن الفصل بينهما قد يستعصى في كثير من الأحيان ، فتسمى التطور الفكري دون أن تتبين الحدود التي يقف عندها أحدهما ، لتبدأ منها حدود الآخر.
هناك فوارق بين الانحراف والتطور الفكري، أهمها أن الأول يتناقض مع المواقف والمبادئ المعهودة من رجل الفكر، أو هو يتناقض مع القيم الرفيعة التي قد تكون سائدة في محيطه الفكري، متى كان –أي رجل الفكر- منحرفا منذ أن دخل الحياة العقلية وأخذ يمارس الكتابة
فكانت جميع مواقفه وآرائه موضع شبهة ، إذا هي قيست بالاتجاهات الفكرية الوطنية ، التي برهن تقادم الأيام على أنها مصيبة ومفيدة وبناءة وهادفة، على حين أن التطور أن هو إلا استمرار لنفس الاتجاه القديم ولكن مع تغير في الأساليب والمناهج والطرق
وطرق الجوانب التي كانت بعيدة عن مجال التأمل من قبل، وتوخي استثمار الإمكانيات الفكرية والتوسع في مطارح النظر ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد الانحراف يتجه إلى أسفل ، إذ يعلن عن إفلاس رجل الفكر
وانحداره من المستوى الرفيع الذي كان يتحرك فيه، إلى مستوى وضيع قد يثير ضده زوبعة أو زوابع من غضب القيادة الفكرية ، الأمر الذي يجرده من شارات الامتياز التي كانت تربع صدره على حين أن التطور غالبا ما يكون إلى أعلى ،أي أنه تعبير عن نضج في الإمكانيات العقلية لرجل الفكر
وعروج بخصائصه ومميزاته ، إلى مكانة أرفع من سابقتها ،هذا بالإضافة إلى كون الانحراف لا يحمل مضمونا فكريا حقيقيا ، ولا يعتمد على فلسفة خاصة تبرره وتجعل وقوعه أمرا معقولا ، وإن كان المنحرفون من رجال الفكر يحاولون دائما أن يعطوا انحرافهم مشروعية مزيفة
ويلتمسوا له الأسباب من صميم الفكر زوار وادعاء ، وقد نجد منهم من لا يكلف نفسه حتى مجرد القيام بهذا التمويه ، وإنما يمعن في احتقار قرائه ، متخذا من شخصيته المعروفة منطقا يعتمد عليه ، عندما يقع في براثن الانحراف .
أما التطور الحقيقي فهو موقف فكري صميم ، له صلة بجميع الخلايا الحية في ذاتية رجل الفكر وبتأله العقلي ، من شأن التطورات المتقدمة عليه ، أ، تلقى عليه أضواء كشافة ، لكونه يقع منها موقع النتيجة من المقدمات
ويمت إليها بأقوى الصلات ، ولو أنك درست أشكال الانحراف الذي نعنيه ، لوجدت من وراء كل شكل ، أما عاملا سياسيا أو نزعة شخصية رخيصة أو تملقا لجمهور ، أو تعلقا ببدعة جديدة، أ, خيبة أمل مبررة، أ, ما هو من هذا القبل، وهذه كلها تعتبر بعيدة عن صميم الفكر ، ماد خلته إلا وخرجت به عن جادته ، وصيرته مسخا كسيحا ، فاقدا لصفات الفكر الأصلية ، في الوقت الذي ينطلق فيه التطور الفكري السليم من صميم الدوافع الفكرية الأصلية .
ويمكن لرجل الفكر أن يتوب بعد انحرافه ، ليعود إلى قواعده، ويستأنف أداء رسالته ، إلا أ، هذه التوبة تحمل في تضاعيفها عدة مشاكل قد لا تبرز عند النظرة الأولى ، ذلك أن التوبة هنا معناها تراجع عن موقف كان قد اتخذ
والتمست له أسبابه أو تركت دون أن تذكر ، والتراجع يعني سحب ورقة كان رجل الفكر يلعب بها ، بعد أن تبين له بطلانه أو انكشاف حقيقتها ، والتوبة بعد الردة لا تمر دون أن تخلف في نفس التائب بعض العقد النفسية التي قد لا يكون هناك سبيل إلى تجنبها
وهذه العقد قد تحمل رجل الفكر التائب على بعض الغلو والتطرف ، فيما يستأنف من نشاطه الفكري ، كي يقنع نفسه بأنه تطهر من شوائب ردته ، وليقنع الآخرين بأنه وفي لمبادئه القديمة ، سليم الطوية
بعيد عن مواطن الشبهات التي أحاطت به ، كما من شأن هذه التوبة أن تجعله يشعر بالحفيظة تجاه الآراء المنحرفة التي كان قد أعلن عنها باللسان أو بالقلم ، ولا سبيل له إلى إزالتها أو محوها ،لأنها دخلت في ذمة التاريخ
وسجلت فصلا من فصول حياته الفكرية، وهي إلى ذلك تدل على نوع من التناقض في المواقف ، يسئ كثيرا إلى شخصية رجل الفكر ، وبصمه بوصمة تقيله الوطأة على نفسه ، تلقى ظلالها على كل أعماله وكتابته... كما تحمل هذه التوبة هذا المغزى ، وهو أن الانحراف ليس من طبع رجل الفكر المنحرف ، وإنما هو مكتسب وطارئ عليه
لأن المنحرفين بحكم طباعهم التي فطروا عليها لا يتوبون غالبا ، بل هم يركبون رؤوسهم ، ويتمادون في ضلالهم البعيد ، لكونهم أضعف من أن يغيروا طباعهم أو فاتهم الوقت المناسب لتغييرها وصارت إلى نوع من التحجر والتقولب النهائي الذي قد يستحيل تذويبه وإعطاؤه شيئا من المرونة
ومع هذا لا يعزر عن بالنا أن هناك بعض رجال الفكر المنحرفين الذين يلج بهم العناد ، وتتميز رؤوسهم بصلابة تجعلها لا تلين أمام رادع أو وازع ، ولذلك فهم يستمرون في غيهم وانحدارهم المسف ، بالرغم من اقتناعهم بأن السبيل الذي هم سائرون فيه يفضى إلى طريق مسدود .
والمجتمعات التي يظهر فيها هذا النوع من الانحراف ، هي تلك التي تتسامح مع رجال الفكر ، إذ تمكنهم من حرية التعبير غالبا ، ومن ثم فإن منهم من يستخدم هذه الحرية استخداما سيئا ، عن قصد أو غير قصد
فيستعملها في جميع الاتجاهات ، على حين أن المجتمعات التي تشدد الخناق على حرية الفكر يقل فيها الانحراف الفكري وأن لم ينعدم، وذلك لوجود أنظمة وقوانين صارمة تحدد لرجال الفكر المجالات التي يجب ألا يتجاوزها
وترسم لهم المقاصد والأهداف التي يجب ألا يحيدوا عنها ، معتقدة أنها بذلك تقي نظامها الذي اختارته لنفسها من الرجات والاهتزازات الهدامة ، إلا أنها لا تستطيع أن تقضي على الانحراف الفكري بصفة نهائية
ولا أن تقصيه عن مسرح الحياة العقلية ، بدليل ظهور بعض المنحرفين في هذه المجتمعات ، ولو على ندرة ، وفي فترات متباعدة ، ذلك أن الضغط على حرية الفكر، ومحاولة صب الناس في قالب واحد، على اختلاف قاماتهم الفكرية ، من شأنه أن يخلق بعض الانفجار
وأن يدفع ببعض المكبوتين إلى المغامرة بالتنفيس عن صدورهم ، لا أنهم يكونون حينئذ كمن يتنفس تحت الماء ، فلا تلبث أصوانهم المتمردة أن ترتد إلى حناجرهم لتختنق فيها ، ويعود كل شيء إلى سيره العادي .