هل عجزت المدن الجديدة عن تخفيف الضغط على الحواضر الكبرى؟

كشف التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات برسم 2023-2024 عن مجموعة من النقائص التي تعتري سياسة إنشاء المدن الجديدة، والتي اعتمدتها الدولة للتخفيف من الضغط السكاني والعمراني على المدن الكبرى ومواجهة التحديات المرتبطة بالنمو الديمغرافي.
وأشار التقرير إلى غياب إطار استراتيجي وقانوني واضح يحكم هذه المبادرات، مما أدى إلى خلق تجمعات حضرية تعاني من ضعف التخطيط وغياب التكامل مع التوجهات الوطنية لإعداد التراب، وهو ما يستدعي إعادة تأهيل شاملة لهذه المدن.
وسلط المجلس الضوء على التحديات المرتبطة بالمدن الأربع الجديدة، وهي تامنصورت، تامسنا، الخيايطة، والشرافات
. هذه المدن، التي أنشئت لتستوعب أعداداً كبيرة من السكان وتخفف الضغط على المدن الكبرى، تم إنشاؤها خارج سياق المخطط الوطني لإعداد التراب الصادر سنة 2002، والذي لم يتضمن توصيات بإحداث مدن جديدة.
المبادرة اعتمدت بشكل رئيسي على استغلال الفرص العقارية دون الأخذ بعين الاعتبار دراسات اقتصادية واجتماعية لضمان جدوى هذه المشاريع.
كما أن غياب إطار قانوني خاص بالمدن الجديدة، حسب التقرير، أدى إلى التعامل معها كأنها مشاريع تجزئات عقارية عوض أن تكون مدناً متكاملة الوظائف، مما أدى إلى تعقيدات ديموغرافية واقتصادية واجتماعية لاحقاً.
وأبرز التقرير أن إطلاق مشاريع المدن الجديدة لم يرافقه التزام واضح بخطة استراتيجية تحدد الأهداف العامة والجدول الزمني للإنجاز، مما أثر على النتائج المحققة.
فعلى الرغم من استثمارات الدولة الكبيرة في البنية التحتية لهذه المدن، إلا أن عدد السكان لم يصل إلى المستويات المتوقعة.
وأكد المجلس الأعلى للحسابات في تقريره، أنه بنهاية 2023، بلغ مجموع سكان المدن الأربع 169 ألف نسمة فقط، وهو ما يمثل 17% من الهدف المخطط له وهو مليون نسمة.
ووفقا للتقرير، فإنه على صعيد الوحدات السكنية، تم إنجاز 71,486 وحدة فقط، وهو ما يمثل 20% من الهدف الأولي المحدد بـ 350 ألف وحدة، فيما كان نصيب مجموعة التهيئة العمران حوالي 36% من هذه الوحدات.
إجمالي الاستثمارات التي تم إنجازها في المدن الجديدة بلغ 24.4 مليار درهم، حسب المصدر ذاته، أي ما يعادل 58% من الميزانية الإجمالية المقررة لهذه المشاريع والبالغة 42.2 مليار درهم.
على الرغم من ذلك، تعاني هذه المدن من ضعف في تجهيزاتها العمومية، إذ تم إنجاز 169 مرفقاً فقط من أصل 659 مبرمجاً، بنسبة إنجاز لا تتعدى 26%، وبنسبة تشغيل بلغت 23%، حسب مضمون التقرير.
وتابع المصدر ذاته في تقريره، أن مخزون الأراضي والوحدات غير المسوقة التابعة لمجموعة التهيئة العمران في المدن الجديدة بلغ حوالي 5.9 مليار درهم، مما يعكس ضعف الإقبال عليها نتيجة التحديات التنموية والخدمية التي تواجهها.
التقرير أشار إلى اعتماد آليات استثنائية لتجاوز العقبات القانونية المرتبطة بتعمير هذه المدن، حيث تم إطلاق مشاريعها بناءً على تصاميم أساسية وضعتها مجموعة التهيئة العمران، لكن هذه التصاميم لم تكن مدرجة ضمن الوثائق القانونية للتعمير، مما أثر على استدامتها.
علاوة على ذلك، المخططات التوجيهية للتهيئة العمرانية، التي تعد الوثيقة الرسمية لفتح مناطق جديدة للتعمير، لم تشمل جميع المدن الجديدة عند إطلاقها، وهو ما أدى لاحقاً إلى إدماج مدينتي تامسنا والخيايطة في المخططات الجهوية دون رؤية مسبقة واضحة.
واستعرض التقرير أيضاً حالة مدينتي تامسنا وتامنصورت، حيث أبرمت اتفاقيات شراكة وتمويل ضمن مخططات الإقلاع والتنمية خلال الفترة 2013-2014 لتدارك التأخير في التجهيزات الأساسية.
وحسب التقرير فإنه في تامنصورت، تم تحديد مبلغ 1.357 مليون درهم كميزانية للإقلاع، خُصص 81% منها، أي 1.100 مليون درهم، لمشروع المركب الجامعي وحده.
بالنسبة لتامسنا، فقد بلغت الميزانية الإجمالية 538 مليون درهم، إلا أن تنفيذ هذه المشاريع واجه تأخيرات، حيث استمرت بعض المشاريع قيد الإنجاز حتى نهاية 2023، رغم مرور أكثر من عشر سنوات على إطلاقها.
وأشار المجلس الأعلى للحسابات، إلى ضعف التنسيق بين القطاعات الحكومية المختلفة، مما أثر على وتيرة إنجاز المشاريع.
وأوضح التقرير، أن التهيئة والبنية التحتية في هذه المدن تمتا تحت إشراف القطاع الوزاري المكلف بالسكنى، بينما أنجزت الوزارات الأخرى التجهيزات العمومية وفق برمجتها القطاعية المستقلة، مما أدى إلى تباينات في الإنجاز، لا سيما في ما يخص المؤسسات التعليمية والصحية.
وشدد التقرير، على أن غياب برنامج مشترك موثق بين مختلف الفاعلين العموميين ساهم في تباين المقاربات وتضارب الأولويات.
كما دعا إلى ضرورة وضع مخطط حكامة خاص بالمدن الجديدة، مع تحديد الأهداف الاستراتيجية، الآليات التنفيذية، وجدولة زمنية واضحة لتتبع الأداء.
وأوصى المجلس، أيضاً بتعزيز التنسيق بين الجهات المعنية من خلال تشكيل لجنة بين وزارية تحت إشراف رئاسة الحكومة للإشراف على هذه المشاريع، ولجان إقليمية وجهوية تحت رئاسة الولاة والعمال لضمان تنزيل القرارات على المستوى المحلي.
كما أوصى التقرير بوضع إطار قانوني خاص بالمدن الجديدة يحدد كيفية تخطيطها وتمويلها وحوكمتها، مع إدماج هذه المشاريع في المنظومة الحضرية الوطنية، وضمان احترام التوازن العمراني والاجتماعي.
ودعا المجلس إلى توفير الشروط اللازمة لتطوير المدن الجديدة من خلال تسريع إنجاز المرافق الأساسية وتحفيز الاستثمارات في المناطق الصناعية والتجارية، لضمان خلق فرص عمل وتنمية اقتصادية مستدامة.
على ضوء هذه التحديات، شدد التقرير على أهمية تأهيل المدن الجديدة الحالية عبر رؤية شاملة تتضمن إدماجها ترابياً ووظيفياً، مع تحسين خدمات التنقل الحضري، وضمان استدامة المرافق والتجهيزات عبر عقود تعاقدية واضحة بين الدولة والجماعات الترابية والفاعلين المعنيين.
كما أوصى بتأهيل الجماعات المحلية لتتمكن من تولي مسؤولياتها تدريجياً في إدارة هذه المدن وتقديم الخدمات الأساسية للسكان.
ويعكس التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات، الحاجة الملحة إلى إعادة صياغة منهجية تخطيط المدن الجديدة في المغرب، بما يضمن انسجامها مع التوجهات الوطنية للإعداد الترابي والتنمية المستدامة، ويدعو إلى وضع أسس واضحة للتخطيط والتنفيذ والتنسيق بين جميع الأطراف المعنية، بما يضمن تحقيق الأهداف التنموية والاجتماعية المرجوة.