بين الجفاف والقروض.. هل تنقذ الحكومة الفلاح المغربي من تراكم الديون؟

في ظرفية وطنية موسومة بأزمات مناخية متوالية واختلالات إنتاجية متزايدة، حظي ملف الفلاحة الوطنية، وبالخصوص مديونية الفلاحين وإعادة تشكيل القطيع الوطني، باهتمام بالغ داخل قبة البرلمان، حيث شكل محوراً أساسياً لاجتماع لجنة القطاعات الإنتاجية بمجلس النواب، المنعقد يوم الأربعاء 18 يونيو 2025، بحضور وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، أحمد البواري، والرئيس المدير العام للقرض الفلاحي للمغرب، محمد فكرات، والنواب.
وخلال هذا الاجتماع، قدم فكرات معطيات دقيقة حول واقع المديونية الفلاحية، مشيراً إلى أن القدرة على السداد تدهورت بشكل واضح لدى عدد كبير من الفلاحين، نتيجة سبع سنوات متتالية من الجفاف والإجهاد المائي، مؤكداً أن البنك يتعامل مع هذه الوضعية بمرونة واقعية تراعي خصوصية كل حالة على حدة.
مشدداً في الوقت نفسه على أن مؤسسة القرض الفلاحي تبقى خاضعة لمراقبة مالية دقيقة من طرف بنك المغرب والمجلس الأعلى للحسابات، ما يفرض عليها احترام ضوابط التوازن المالي وعدم التساهل مع الحالات المتعمدة للمماطلة.
وأوضح المسؤول البنكي أن معالجة الملفات المتعثرة تتم عبر آليات مختلفة، تشمل إعادة الجدولة، وتأجيل سداد القروض، وتمديد آجال الأداء لفترات تصل أحياناً إلى سنة ونصف، كما يتم إعادة احتساب الفوائد بشكل يخفف من العبء المالي دون المساس بالتوازنات البنكية.
وأضاف أن البنك لا يكتفي بالدعم المالي، بل يواكب الفلاحين استشارياً وتقنياً من خلال تدخلات ميدانية ومواكبة فردية تهدف إلى تحسين المردودية وتثمين الموارد.
وفي سياق حديثه عن دور البنك في إنجاح البرامج الوطنية، شدد فكرات على أن القرض الفلاحي ليس هو الجهة التي تقرر الإعفاء من الديون، بل يضطلع فقط بدور أداة تنفيذية لقرارات الدولة.
مذكراً بأن عمليات الإعفاء شهدتها البلاد في 12 مناسبة سابقة، كانت دوماً تتم بتوجيهات ملكية وتحت إشراف وزارة الفلاحة، كما هو الحال اليوم في برنامج دعم مربي الماشية وإعادة تشكيل القطيع، الذي قال إنه يتم وفق تنسيق تام مع وزارتي الفلاحة والداخلية وباقي المتدخلين.
من جهته، أبرز وزير الفلاحة أحمد البواري أن الحكومة تعمل في انسجام كامل على تنزيل البرنامج الملكي الداعم للفلاحين، مشيراً إلى أن توزيع الدعم سيتم في إطار شفاف وتحت إشراف لجان مشتركة تضم وزارات الداخلية والفلاحة والمالية، وتشتغل بتنسيق مباشر مع الولاة والعمال لضمان التوزيع العادل والسريع للدعم.
وأكد الوزير أن الهدف الأسمى من هذه المبادرات هو تحقيق السيادة الغذائية والمائية، انسجاماً مع التوجيهات الملكية، مضيفاً أن دعم الفلاح يشكل حجر الزاوية في استدامة الفلاحة، لأن "استدامة الفلاحة لا يمكن أن تتحقق دون ضمان استدامة الفلاح".
وفي إطار تأمين الدعم وتنظيم القطاع، كشف البواري عن إرساء منظومة رقمية متقدمة لترقيم إناث الأغنام والماعز، تعتمد حلقات إلكترونية بتقنية الترددات الراديوية، تسمح بتتبع دقيق للحيوانات من الولادة إلى البيع، وتمنع إعادة استخدام الحلقات أو التلاعب بها، كما يواكب هذه الآلية نظام معلوماتي متكامل لتسجيل المعطيات وتتبعها بشكل آمن، مما يضمن دقة الإحصاء وشفافية الدعم.
وفي معرض تفاعله مع النواب البرلمانيين، أشار الوزير إلى أن الحكومة بصدد إحصاء شامل للقطيع الوطني من الأغنام والمعز والأبقار والإبل، لامتلاك قاعدة بيانات دقيقة تساعد في اتخاذ قرارات عقلانية مستقبلا.
في إطار النقاش البرلماني العميق الذي طبع أشغال لجنة القطاعات الإنتاجية، لم يتردد عدد من النواب في إثارة قضايا اعتبروها جوهرية لإنصاف الفلاح المغربي، لا سيما الفلاحين الصغار والمتوسطين الذين تضرروا بشكل بالغ من تداعيات الجفاف وغلاء الأعلاف وارتفاع كلفة الإنتاج.
ودعا النائب البرلماني محمد سيمو، عن فريق التجمع الوطني للأحرار، إلى تشديد المراقبة على المجازر السرية التي تُذبح فيها إناث الأغنام، خاصة في المناطق القروية، مشدداً على أن استمرار هذه الظاهرة يهدد توازن القطيع الوطني ويعيق جهود إعادة بنائه.
واعتبر أن ضعف آليات التتبع والرقابة يشجع على ممارسات تضر بالثروة الحيوانية، داعياً إلى تفعيل إجراءات زجرية موازية لإصلاح الأعطاب البنيوية التي يعانيها القطاع.
من جانبه، طالب النائب منصف الطوب، عن حزب الاستقلال، بإعفاء الفلاحين الصغار والمتوسطين من الديون بشكل كامل، بالنظر إلى ما وصفه باستمرار المعاناة لسبع سنوات متتالية دون تحقيق انتعاش فعلي على أرض الواقع.
وشدد على ضرورة تبني آلية جديدة للدعم، قائمة على تبسيط المساطر وتيسير ولوج الفلاحين إلى التمويل، مع ضمان مواكبة قبلية وبعدية لهم لتحقيق النجاعة المرجوة من البرامج الحكومية.
كما دعا نواب آخرون إلى إعادة النظر في علاقة القرض الفلاحي بالفلاحين، مطالبين بمزيد من الليونة والتفهّم في معالجة الملفات المتعثرة، ومقترحين إدماج آليات دعم فني وتقني موازٍ للتمويلات البنكية، لتمكين الفلاح من أدوات الصمود، وليس فقط من قروض تثقل كاهله في ظل ظروف إنتاجية قاسية.
وبخصوص الإشكاليات المتعلقة بتوزيع الأعلاف وأسعارها، أكد البواري أنها ستُربط بعدد رؤوس الماشية المسجلة لدى كل كساب، مؤكداً أن اللجان المحلية ستعمل على ضمان استفادة كل من يستحق، دون إقصاء، وفق معايير دقيقة.
كما كشف أن الحكومة تتابع بشكل دقيق مؤشرات أسعار المواد الأساسية لضمان التوازن بين مصلحة الفلاح والمستهلك.
ويعكس هذا اللقاء البرلماني، حجم التحديات التي تواجه القطاع الفلاحي في المملكة، لكنه يكشف في الوقت نفسه عن إرادة مؤسساتية حقيقية، تجمع بين الرؤية الملكية والدعم الحكومي والانخراط المؤسساتي، لتهيئة شروط الصمود وتحقيق أمن غذائي مستدام، في مواجهة تحديات أصبحت بنيوية وليست ظرفية فقط.