أكاديميون: الخطاب السياسي فقد عمقه والنخبة استبدلت الفكر بالتراشق

في ظل تحولات مجتمعية وسياسية متسارعة يشهدها المغرب، عادت إلى الواجهة بقوة إشكالية النخبة، بعد أن غدت محل مساءلة عميقة حول أدوارها، ومستوى حضورها في الفضاء العمومي، وقدرتها على التأثير في مجرى التحولات، بدل الاكتفاء بموقع المتفرج أو الناقد من الهامش.
وسلطت ندوة علمية نظمتها مؤسسة الفقيه التطواني مساء أمس الثلاثاء، الضوء على هذا الموضوع الحيوي من خلال طرح إشكالية "النخبة المغربية في زمن التغيير: من صناعة القرار إلى أزمة التأثير"، بمشاركة عدد من الباحثين والمفكرين والفاعلين الحقوقيين، الذين أجمعوا على أن النخبة المغربية، بمختلف مكوناتها السياسية والثقافية والحقوقية، تعيش أزمة بنيوية عميقة، فقدت خلالها بوصلة التأطير والتوجيه، وباتت عاجزة عن التفاعل مع الديناميات الاجتماعية النشيطة.
أول المداخلات كانت من المحلل السياسي محمد شقير، الذي وصف الوضع الراهن للنخب السياسية في البلاد بالعقيم تنظيريًا، حيث غابت عنها القدرة على إنتاج مفاهيم وأسس فكرية تؤطر الممارسة السياسية، مقابل تزايد الخطاب الشعبوي والتراشق الكلامي الذي لا يقدم حلولًا ولا يبني رؤية.
وأكد شقير أن غياب التأطير الفكري من طرف النخب، وفشلها في مواكبة التحولات المجتمعية، وعلى رأسها حراك 20 فبراير، ساهم في تمييع الحياة السياسية، كما أدى إلى اتساع الهوة بين هذه النخب وفئات واسعة من المجتمع، خاصة فئة الشباب التي أصبحت تنظر إلى الشأن السياسي بنوع من الريبة واللامبالاة.
وأضاف أن هذا الانفصال التام بين النخب والحركات الاجتماعية يكرّس عجزًا هيكليًا في الفعل السياسي، داعيًا إلى ضرورة إعادة تشكيل النخب وتجديد خطابها وآليات تواصلها، وتحويل الأحزاب إلى كيانات مواطِنة قادرة على مواكبة المجتمع بدل الاكتفاء بأدوارها التقليدية.
من جانبها، رصدت الناشطة الحقوقية جميلة السيوري ما وصفته بانحسار في الخطاب الحقوقي داخل المغرب، حيث أضحت النخبة الحقوقية تميل أكثر إلى خطاب الدولة، تحت مبررات الحفاظ على الاستقرار وتفادي الفوضى، ما أضعف من نَفَسها الإصلاحي.
وأوضحت أن التفاعل مع المرجعية الدولية في مجال الحقوق بقي مشروطًا بخصوصية محلية فضفاضة، ما نتج عنه ازدواجية في الخطاب الحقوقي، حالت دون انتقاله إلى أداة فعلية للتغيير البنيوي.
وأضافت أن المجتمع المدني أصبح يتحرك ضمن هامش ضيق، يسعى للتوازن بين المطالبة بالتغيير وتجنب الصدام مع السلطة، وهو ما أفرغ العمل الحقوقي من روحه النضالية، داعية إلى إنتاج نخبة حقوقية جديدة، مستقلة فكريًا وتنظيميًا، تتقاطع مع هموم الشارع وتنتصر لمطالب الإصلاح السياسي الشامل، وتقطع مع الطابع التقني الذي طغى على العمل الحقوقي المعاصر.
في ذات السياق، قدّم المفكر والباحث سعيد بنكراد قراءة سيميائية عميقة لتحولات النخبة المغربية، منبهًا إلى أن النقاش حول أزمة النخبة لا يمكن فصله عن سقوط مفهوم "الرأي العام"، الذي كان مرتبطًا تاريخيًا بمجتمع مثقف يقرأ وينتج المعرفة.
وأشار إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تدمير هذا المفهوم، مفرّقةً بين "الرأي" العام الذي يبنى على التفكير، و"الرأي" بمفهومه الشائع اليوم، الذي يتأسس على انطباعات سطحية وأحكام عامة لا تعكس عمقًا معرفيًا أو تحليلًا رصينًا.
واعتبر بنكراد أن الرأي في هذا السياق بات عدوًا للعلم والمعرفة، وأن الفضاء الرقمي سهّل عملية تدمير كل أشكال التفكير النقدي الجماعي، ما جعل النخبة الحقيقية تنزوي في الهامش، لصالح صعود ما يسمى بالمؤثرين، الذين يفتقدون لأي عمق معرفي أو مشروع ثقافي، ومع ذلك صاروا يحتلون صدارة النقاش العمومي.
وأبرز بنكراد أن هناك تحولًا عميقًا في لغة الفعل العمومي، حيث تم التخلي عن مفاهيم النضال والصراع الطبقي والمثقف العضوي، لصالح مفردات مستوردة من الخطاب الرأسمالي، مثل "الشركاء الاجتماعيين" و"المتعاونين"، ما أدى إلى إفراغ الفعل السياسي والاجتماعي من مضامينه الحقيقية.
وأشار إلى أن هذا التحول يعكس محاولة منهجية لتغيير أسماء الأشياء دون تغيير الواقع نفسه، مما أدى إلى سقوط العديد من المفاهيم الكبرى التي كانت تؤسس للوعي الجماعي.
كما أكد الباحث أن غياب رأي عام خاص بالمثقفين، وتشتتهم بين الأحزاب والمنظمات، حال دون بروز نخبة فكرية قادرة على بلورة موقف جماعي أو قيادة مشروع مجتمعي واضح، ما عزز من سيولة المشهد الثقافي والاجتماعي، وجعل كل شيء قابلًا للتغير في كل لحظة دون ثوابت.
وفي خلاصة مداخلته، بيّن بنكراد أن النخبة الثقافية التقليدية أُقصيت تدريجيًا لفائدة "الخبير"، الذي يقدم معرفة محايدة لا تتورط في السياسة، عكس المثقف الذي كان دائمًا فاعلًا سياسيًا وفكريًا.
واعتبر أن هذا التحول من المثقف إلى الخبير ليس بريئًا، بل يعكس رغبة في تسطيح النقاشات العمومية، وتحويل المعرفة إلى منتج تقني خالٍ من البعد القيمي أو السياسي، وهو ما يُرضي السلطة أكثر من أي شيء آخر.
بهذا الطرح الجماعي، يتأكد أن النخبة المغربية، بمختلف تجلياتها، تمرّ من مرحلة مأزومة، تجعل من إعادة التفكير في أدوارها وشرعيتها وموقعها في المجتمع أمرا ملحا.