فاجعة البرنوصي تفضح هشاشة واقع التشرد وتعيد الملف إلى واجهة النقاش العمومي

رغم كل الشعارات المرفوعة والمبادرات المعلنة، لا تزال ظاهرة التشرد في مدينة الدار البيضاء تتفاقم بشكل يثير القلق، ويضع السلطات المحلية والمؤسسات الاجتماعية أمام مسؤولية متجددة، تتجاوز منطق التدخل الموسمي أو الحلول الظرفية إلى ضرورة بلورة رؤية استراتيجية شاملة، قادرة على معالجة الأسباب العميقة لهذا الوضع الإنساني المعقّد.
فالمشاهد اليومية التي تؤثث شوارع العاصمة الاقتصادية، من أشخاص يفترشون الأرصفة، إلى مجموعات تتخذ من الحدائق العمومية والمقابر مأوى مؤقتًا، لم تعد تثير الشفقة فقط، بل تحوّلت إلى مصدر قلق مشروع لدى المواطنين، نتيجة ما تفرزه من سلوكيات غير متوقعة، ومن تهديدات حقيقية للسلم الاجتماعي.
وقد أعادت الفاجعة المؤلمة التي شهدها حي القدس بمنطقة سيدي البرنوصي هذا الملف إلى واجهة النقاش العمومي، بعدما أقدم شخص في وضعية تشرد على ارتكاب جريمة بشعة في حق سيدة وطفلتها الصغيرة، بالقرب من مسجد لالة فاطمة الزهراء، في حادث خلّف صدمة قوية داخل الحي وأثار ردود فعل واسعة في أوساط الرأي العام المحلي.
وانتقلت المصالح الأمنية على وجه السرعة إلى مكان الجريمة، تحت إشراف النيابة العامة المختصة، حيث تم فتح تحقيق قضائي للكشف عن ملابسات الحادث وتحديد دوافعه.
كما جرى نقل جثتي الضحيتين إلى مستودع الأموات لإخضاعهما للتشريح الطبي، في وقت تتواصل فيه التحريات الأمنية لتحديد هوية الجاني وما إذا كان يعاني من اضطرابات نفسية، أو كانت له أية علاقة سابقة بالضحيتين.
هذه الواقعة، وإن كانت فردية من حيث التنفيذ، إلا أنها كشفت عن عمق الأزمة البنيوية التي يعيشها ملف التشرد في المدينة، خاصة مع غياب استراتيجية مندمجة تُعنى بهذه الفئة الهشة، وتجمع بين المقاربة الوقائية، والدعم النفسي، والتأطير الاجتماعي.
فوفقًا لما عاينته الجريدة 24 في عدد من المناطق بالعاصمة الاقتصادية، فإن انتشار المتشردين لم يعد مقتصرًا على بعض الأحياء الهامشية، بل أصبح يشمل قلب المدينة ومحيط المرافق العمومية الكبرى، وحتى الفضاءات القريبة من المدارس والمصحات والمقابر، حيث يعمد عدد منهم إلى افتراش الأرض في وضعيات مأساوية، تعكس حجم المعاناة اليومية التي يعيشونها في غياب المأوى والرعاية الصحية والمواكبة الاجتماعية.
كما سجلت الجريدة خلال جولاتها الميدانية، وجود عدد من المشردين في وضع نفسي وسلوكي خطير، حيث تظهر عليهم علامات الاضطراب العقلي، أو آثار تعاطي مواد مخدرة، وهو ما يجعلهم في أحيان كثيرة عرضة لانفلاتات خطيرة قد تمس سلامتهم وسلامة المارة.
وقد عبّر عدد من المواطنين الذين التقتهم الجريدة عن تخوفهم من تحول هؤلاء الأشخاص إلى مصدر تهديد، خاصة في الأحياء التي يزداد فيها عدد المتشردين خلال الفترات المسائية، حيث تسود حالة من التوجس والخوف، لا سيما بين النساء والأطفال.
وفي تصريحات متطابقة، دعا عدد من سكان المدينة إلى تدخل فوري من طرف السلطات المختصة لإيجاد حلول فعلية لهذا الوضع، عبر خلق مراكز إيواء دائمة ومجهزة، وتوفير برامج تأهيل نفسي ومهني لهؤلاء الأشخاص، بدل تركهم نهبًا للشارع وما يحمله من مخاطر يومية.
كما أشار مواطنون من حي درب لوبيلا، المجاور لمقبرة أهل فاس، إلى أن المقبرة تحولت إلى مأوى مفتوح لعدد من المتشردين الذين يمكثون بها ليلاً ونهارًا، ويستغلون حرمتها لممارسة سلوكيات غير لائقة، ما أثار امتعاض الساكنة المجاورة التي لم تعد تشعر بالأمان، وعبّرت عن استيائها من غياب أي تدخل يضع حدًا لهذا الوضع الذي وصفوه بـ"الانفلاتي".
وفي الوقت الذي تُرفع فيه رهانات كبرى على المدينة، خاصة استعدادًا لاحتضان تظاهرات رياضية دولية مثل نهائيات كأس العالم 2030، التي يرتقب أن تحتضن الدار البيضاء جزءًا منها، تعالت أصوات فاعلين جمعويين ومهتمين بالشأن المحلي للمطالبة بوضع معالجة جذرية وشاملة لهذا الملف، ليس فقط حفاظًا على الصورة الحضارية للمدينة، ولكن أيضًا كحق إنساني بديهي لفئة وجدت نفسها في الهامش، ودون سند، ودون رعاية.
ويؤكد هؤلاء أن المقاربة الأمنية وحدها غير كافية، وأن المطلوب اليوم هو تدخل مندمج بين مختلف الفاعلين، يجمع بين الجانب الاجتماعي، الصحي، النفسي، والتربوي، من أجل إعادة إدماج المشردين في الحياة العامة، وتمكينهم من حقوقهم الأساسية في الكرامة والعيش الكريم.