العمل عن بعد يحرك نقاش التقنين ويقلق الأجراء

يشهد سوق الشغل في المغرب تحولات عميقة فرضتها الطفرة التكنولوجية العالمية، وعلى رأسها بروز الذكاء الاصطناعي واعتماد أنماط جديدة من التشغيل، من بينها العمل عن بعد، الذي بات خيارًا واقعًا في كثير من القطاعات، بعدما أثبت نجاعته خلال أزمة جائحة كورونا.
هذا النمط الذي لم يكن متداولًا على نطاق واسع قبل 2020، أصبح اليوم واحدًا من أكثر المواضيع إلحاحًا على طاولة النقاش التشريعي والنقابي، بالنظر إلى الإشكالات التنظيمية والقانونية التي ما تزال تحيط به.
وقد وجّه النائب البرلماني عن الفريق الاستقلالي علال العمروي سؤالًا شفهيا إلى وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات حول الإجراءات المتخذة لتأطير العمل عن بعد، في ظل تنامي اعتماده من طرف المؤسسات والإدارات.
وأكد النائب البرلماني أن هذا الشكل الجديد من العمل، ورغم أهميته، ما زال يفتقر إلى منظومة قانونية واضحة تحفظ التوازن بين حقوق العاملين ومصالح المشغّلين، خاصة أن التجربة أثبتت وجود فراغ تشريعي يتيح تجاوزات قد تضر بالفئات الأضعف في معادلة الشغل.
ويُعرّف العمل عن بعد باعتباره كل نشاط مهني يُنجز خارج مقرات المؤسسات أو الإدارات، ويعتمد بشكل كلي على وسائل الاتصال الحديثة، سواء تم ذلك من مقر سكنى الأجير أو من مكان آخر يُتفق عليه مع المشغّل.
إلا أن تنامي هذا النمط من التشغيل، دون تأطير قانوني دقيق، أثار مخاوف نقابية وشغلية متزايدة، دفعت بعدد من البرلمانيين إلى المطالبة بتسريع ورش مراجعة مدونة الشغل لتواكب هذه التحولات الجديدة.
النائب عن حزب الأصالة والمعاصرة أحمد التويزي، انضم بدوره إلى المطالبين بتقنين العمل عن بعد، مشيرًا في سؤال شفهي إلى ضرورة تنظيم هذا النمط بما يضمن إدماجه بشكل مستدام في هيكلة سوق الشغل الوطنية.
وهو ما يتقاطع مع مواقف المركزيات النقابية التي شددت على أن الإبقاء على العمل عن بعد في وضعه الحالي يمنح الأفضلية للمشغّلين على حساب الأُجراء، ويكرس غموضًا قانونيًا لا يصب في مصلحة الطرف الأضعف في العلاقة التعاقدية.
وسبق أن أكد وزير الإدماج الاقتصادي والتشغيل، يونس السكوري، أن الوزارة منكبة على مراجعة شاملة لمدونة الشغل، ومن المنتظر أن ترى هذه المراجعة النور في شهري شتنبر أو أكتوبر المقبلين.
وأوضح الوزير مؤخرا خلال ندوة صحفية أن العمل عن بعد سيكون ضمن محاور هذا التحديث التشريعي، بهدف وضع ضوابط تنظيمية واضحة تحكم هذا النمط المستجد من التشغيل، وتراعي مصالح جميع الأطراف.
كما أشار الوزير إلى أن هذه الخطوة تأتي في سياق أوسع يشهده سوق الشغل، يتمثل في التأثير المتسارع للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، حيث أضحت 80% من المهن التقليدية بحاجة إلى تطوير جذري، وهو ما يحتم إعادة التفكير في العلاقة مع العمل، والقطع مع النظرة الكلاسيكية للتشغيل.
وشدد على ضرورة اعتماد رؤية استراتيجية تسمح للمغرب بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي دون أن يشكل ذلك تهديدًا حقيقيًا لمناصب الشغل، بل بوصفه أداة لتعزيز الكفاءة والابتكار.
وفي الاتجاه ذاته، دعا السكوري إلى إصلاح هيكلي لمنظومة التكوين المهني، من خلال استغلال قدرات الذكاء الاصطناعي لمواكبة الشباب الباحثين عن العمل، حيث سيتم قريبًا إطلاق مرصد رقمي يوفر مدربين افتراضيين لمساعدة هؤلاء الشباب على إعداد سير ذاتية متميزة، وفهم أعمق لمتطلبات السوق، وتوجيههم نحو مسارات مهنية مناسبة.
في ظل هذا السياق، يبدو أن المغرب مُقبل على مرحلة جديدة في التعامل مع تحديات الشغل، حيث لم تعد المهن التقليدية ولا أساليب التشغيل الكلاسيكية قادرة على مجاراة التحولات المتسارعة في عالم أصبح فيه الذكاء الاصطناعي والعمل المرن جزءًا لا يتجزأ من مشهد الاقتصاد العالمي.
ويبقى نجاح هذا التحول رهينًا بمدى قدرة التشريع الوطني على مواكبة الواقع الجديد، وتحقيق التوازن المطلوب بين الابتكار وحماية الحقوق.