زلة اخنوش.. فن السياسة و هفواتها

الكاتب : الجريدة24

17 ديسمبر 2019 - 05:00
الخط :

يونس فنيش

"إعادة الترابي"، في اللغة السياسية عند عامة الناس، تعني استعمال العصا لمن يعصى أوامر أو أهواء بعض "الأقوياء"... فهي إذن كلمة تحيي ذاكرة "ضحايا سنوات الرصاص"، كما ذاكرة "مظلومين و مظلومين" آخرين... و أما "إعادة التربية" فتعني إصلاح المنظومة التربوية عبر تعليم سليم منهجي علمي من أجل تكوين الناشئة أحسن تكوين مفيد للوطن و للمصلحة العامة، و للأجيال القادمة تلبية للشعار الجميل؛ إذن فالأمور واضحة وضوح الشمس وقت الظهر في فصل الصيف وسط الصحراء القاحلة.

لا شك أن الثقافة العامة و التجربة السياسية توفران الحنكة الضرورية لاختيار الكلمات المناسبة، بعد معرفة و إدراك معانيها العميقة و تأثيرها على الشعب أو المجتمع، وقت إلقاء الخطب السياسية الحزبية المفتوحة على العالم الرقمي الإلكتروني الذي لا رادع له، و لا سلطة منع تلجمه بتاتا، مهما كانت الإرادة متوفرة في هذا الإتجاه، و لو مع إعمال كافة الوسائل التشريعية القانونية المبتكرة المتاحة.

يقال في أوساط عامة الناس، أن فن الخطابة أمام الجماهير موهبة قد تكون في متناول كل أمي ذكي أو حتى كل جاهل على قدر من المكر، و قد لا تكون في متناول أكبر المثقفين العضويين أو أكثرهم معرفة و دراية بشؤون البلاد و العباد. ولكن هذا لا يعني أن لكل من تأتى له أن يخطب في تجمع جماهيري حزبي، مثلا، الحق في أن يطلق الكلام على عواهنه، لأن من المفروض أن يكون، على الأقل، على قدر من المعرفة، و لو طفيفة، بشؤون السياسة التي رغم كونها بطبعها تتجنب الحقيقة المحضة، إلا أنها تستوجب تجنب الإضرار بنفسية الشعب و المجتمع، و بمصلحة الوطن و المؤسسات.

لا يمكن في عصر الإنترنيت و زمن التوثيق الإلكتروني الرهيب أن ينكر، مثلا، مسؤول حزبي، يعني شخصية عمومية تمتهن السياسة، أمام العالم أجمع، كون حزبه، مثلا، يعتمد إغراء الفقراء و محبي الولائم بوجبات طعام فاخر لجلبهم إلى قاعات و فضاءات تجمعاته، رغم كون ولائمه تلك موثقة بالصوت الرنان و الصورة اليقينة؛ لا يمكن الإنكار في هذه الحالة.

و لا يمكن لمسؤول حزبي، مثلا، أن يستعمل كلمة "الترابي" في سياق معقد و أمام حضور جماهيري، في زمن الإنترنيت، كما لو كان رئيس دولة أو الآمر الناهي الوحيد الأوحد في بلد ما، ما وراء أدغال و أدغال.

يمكن لكلمة "الترابي" أن تستعمل ربما داخل أسرة صغيرة من طرف ربها في إطار محدود جدا في حالة ما أراد تقويم أطفاله الصغار لحثهم على عدم التهاون و الكسل مثلا. ولكن الآباء يعلمون أن "الترابي" شيء و "التربية" شيء آخر تماما.

الآباء يعلمون أن التربية شأن عظيم مستحب، ولكنه يقتضي العدل و العدالة و الإنصاف و رد الإعتبار للمظلومين أولا؛ لأن التربية تقتضي مصداقية المربي و استقامته و نزاهته؛ التربية شيء جميل شريطة أن يكون المربي موضوعيا؛ و إلا تمرد متلقي التربية و ثار و هاج و رفض. فالآباء لهم واجب و حق تربية أبنائهم، ولكن عليهم التأقلم مع متطلبات أبنائهم الذين يعيشون في زمن غير زمن آبائهم... التربية مهنة الأباء الذين عليهم إتقانها، و إلا فشلوا و ندموا على كل كلمة و كل جملة تلفظوا بها في غير محلها، و على كل فعل غير لائق أقدموا عليه أمام أنظار و أسماع أبنائهم. الآباء يعلمون كل ذلك، إلا أنهم قد يخطؤون في بعض الأحيان ولكنهم سرعان ما يتداركون و يصححون.

ولكن، أن تستعمل كذا كلمة فظيعة، "الترابي"، بأبعادها السيكولوجية الخطيرة و التواصلية الحادة القاطعة في خطاب غير موفق موجه للشعب من طرف مجرد رجل سياسة، مثلا، فهذا ما قد يعتبر استهتارا بالعلوم السياسية و القانونية و بالسوسيولوجيا، و تحقيرا للتقاليد و الأعراف الأصيلة المتجذرة في المجتمع، و استصغارا للسلطة الشرعية، و انتحالا للقوة المشروعة المتأصلة، و كل ذلك طبعا بدون موجب حق و الله أعلم.

و أما أن يفتي، مثلا، مسؤول سياسي، في خطاب جماهيري، بوجوب تحرك الأفراد و الجماعات "لإعادة الترابي" لكل مخل بالقانون، أو بالتقاليد، أو بالأعراف، خارج نطاق العدالة و القضاء، مثلا، فهذا ما قد يمكن اعتباره حث بين و تحريض واضح على الفوضى و العنف الشامل، لا قدر الله، و الله أعلم.

كلنا خطاؤون، و السياسيون أيضا، ولكن لابد من اعتماد ثقافة الصدق و الإعتراف بالخطأ كخطوة أولى لتصحيح المسار في أفق تحسين المردودية في ما يتعلق بإتقان اللغة السياسية.

جميل أن يتجنب السياسيون لغة الخشب، ولكن شريطة عدم تجاوز تلك الحدود التي تحفظ للشعب كرامته و تقي المجتمع من الفتنة. فكما هناك فرف شاسع بين الصراحة و الوقاحة، هناك أيضا فرق بين السلطة و التسلط.

يوجد في كوكب الأرض شعوب و شعوب؛ و أما الشعب العاطفي الفطن بطبعة فقد يتحمل سماع الحقيقة مهما كانت مرة، شريطة استعمال الكلمات اللينة المتحضرة المناسبة، ولكنه قد لا يقبل التهديد و الوعيد بلا سبب و بلا شرح و لا تفسير..

لا يمكن الدفاع على ما لا يمكن الدفاع عنه. ولكن مهما كان الخطأ تابثا، يمكن تداركه... أفليس الإعتذار من شيم الكبار..؟

آخر الأخبار