"لحظة قبل الكون"..تظاهرة فنية بصيغة المؤنث بالرباط

منذ 24 شتنبر الماضي، تحولت مدينة الرباط إلى جوهرة فنية رائعة من خلال استضافتها البينالي الأول للفن المعاصر تحت شعار "لحظة قبل الكون".
ويتعلق الأمر بأبرز تظاهرة ثقافية في سنة 2019، تستثمر أبرز المعالم الفنية والثقافية في عاصمة المملكة، لتتحول إلى منصة تجمع بين الواقع والخيال في خدمة حرية الإبداع.
وحسب المنظمين، يروم هذا البينالي تبني قراءة جديدة للفن الجميل من أجل إعادة كتابة تاريخ الفن بلا حدود من خلال القصص والخبرات والخيالات التي تتلاقى لإرساء أسس فن شامل ومتباين وعالمي.
تم تصميم بينالي الرباط كأرخبيل: الجزء الرئيسي، أي المعرض الدولي، مخصص حصرياً للفنانات، في حين تحرص الأجزاء الأخرى، في شكل بطاقات بيضاء وبرامج ذات صلة، على مراعاة مبدأ التكافؤ والمساواة.
وهكذا، جمع هذا المعرض الدولي المخصص للفنانات 64 فنانة ومجموعة فنية من 27 جنسية مختلفة وتخصصات متعددة. ومن بينهن فنانات تشكيليات ورسّامات (منى حاطوم، إيتيل عدنان، خديجة طنانة، مارسيا كور، زليخة بو عبد الله...)، ونحاتات (سارة فافريو، إكرام قباج)، وسينمائيات ومصورات فيديو (تالا حديد، هليدة بوغريط، حبيبة جهنين...)، ومخرجات مسرحيات ومصممات رقصات وفنانات الأداء (بشرى ويزكان، سيفرين شافرييه...)، ومصورات (ديبورا بنزاكين، منى جمال سيالة) وفنانات رقميات (نزيهة مستاوي) ومعماريات (بلاك سكوير، مانثي كولا، زها حديد، ماريا مايو...).
وحسب عبد القادر دماني، مؤرخ الفن والفيلسوف والمندوب العام ومصمم البينالي، فإن هذه التظاهرة الثقافية ستعالج موضوعين أساسيين هما "تجاوز الحدود الجغرافية في الفن" و"تكريم المرأة" من خلال تمثيلية أوسع. وذلك لأن الأمر يتعلق، في رأيه، بحدث يهم "جميع النساء اللائي يحققن التوازن ويرسمن لنا عالماً نستحقه بفضلهن".
وفي حوار خصّ به "بوان أفريك"، أوضح السيد دماني أنه من خلال أبحاثه أدرك أن النساء هن اللائي حققن التوازنات التي مكنت المجتمعات من الصمود أمام اختبار الزمن. وفي هذا الصدد، أكد أن "النساء شرط لا بد منه في وجود أي عالم، ويجب أن نعترف بذلك ونضعهنّ في دائرة الضوء".
خديجة طنانة، الينبوع الغامض أو الجسد بدون طابوهات
من بين النساء المبدعات اللائي شاركن في البينالي، الفنانة التشكيلية خديجة طنانة، من مواليد تطوان، أستاذة جامعية ومسؤولة محلية منتخبة سابقة كنائبة عمدة فاس ومكلفة بالثقافة بين سنتي 1983 و1992.
وفي سنة 1993، اعتزلت السياسة، دون التخلي عن التزاماتها، لتكرّس نفسها للفن التشكيلي. وأعربت هذه الفنانة العصامية عن فخرها الكبير ورضاها بمشاركتها في هذه التظاهرة التي تسلط الضوء على الإبداع النسائي، مضيفة في تصريح لمجلة "باب" أنه "بما أنني كنت مستبعدة دائماً من الأنشطة الفنية والثقافية بالمغرب بحجة أن أعمالي جريئة ومستفزة أحياناً، فإن تواجدي في البينالي يمثل بالنسبة لي اعترافاً بإبداعي".
وتعالج أعمال خديجة طنانة التصويرية والتشخيصية مكانة المرأة وتهتم بشكل خاص بالجسد الذي يهيمن عليه الجنس والإثارة الجنسية. كما تتناول مواضيع الموت، والهجرة السرية، والانتفاضة، لكن مسألة الجسد تبقى دائما حاضرة في صميم مقاربتها.
وبالنسبة لتظاهرة البينالي، تخيلت خديجة طنانة عملها "الينبوع الغامض" الذي يصبح فيه بطن الأنثى، أصل "الكل"، مصدراً للحياة والوهم، للعلوم والمغالطات، وللواقع والخيال. وفي هذا الصدد، أوضحت السيدة طنانة أنه "لإنجاز هذا العمل الفني، استلهمت الفكرة من موضوع المعرض" لحظة قبل الكون"، وهو موضوع عميق وفلسفي. لجأت إلى مخيلتي لإخراج عمل يمثل الكائن قبل ولادة الكون".
صفاء الرواس، ضوء يبرز الأحجام
شهد البينالي، أيضا، حضور صفاء الرواس، الفنانة المغربية التي تعيش وتشتغل بمسقط رأسها، تطوان، في حين تسافر أعمالها عبر المغرب وحول العالم.
ومع مرور السنين، تعزز تعبيرها وذاع صيتها، لاسيما لدى متاحف الفن المعاصر. حيث تصمم عموماً أعمال فنية بالأساس على البياض، تاركة للضوء إبراز الأحجام.
وفي هذا الصدد، أكدت صفاء الرواس أنه "عندما قدم لي مندوب البينالي، عبد القادر دماني، مشروعه بدعوتي للمشاركة في هذه التظاهرة، أكد على نقطة مهمة من خلال توضيحه أنه لم يستدع الفنانات لكونهنّ نساء، بل لأنهن فنانات موهوبات".
وأضافت السيدة الرواس في تصريح لمجلة "باب" أن "هذا الأمر بدا لي عين الصواب، وأعتقد أن نجاح المعرض أثبت ذلك". في مشاركتها، قدمت صفاء الرواس معرضين: الأول في متحف محمد السادس في إطار البطاقة البيضاء لمحمد الباز تحت عنوان "التوسع"، والثاني في متحف الأوداية تحت عنوان "الهواء، الضوء وشيء بدون اسم".
وفي هذا الصدد، قالت السيدة الرواس إن "العملين الفنيين تم إنجازهما أساساً بشرانق الحرير التي اخترتها كعنصر طبيعي يستجيب لفكرة موضوع البينالي، "لحظة قبل الكون"، موضحة أنه في معرض "التوسع" الآلاف من شرانق الحرير، المرتبطة مع بعضها البعض بخيط شفاف ناعم، ترسم شكلاً عضوياً في الفضاء. وهذا التكرار للعنصر نفسه يخلق شعوراً بالامتلاء وهشاشة شديدة في الوقت ذاته.
وبالنسبة للعمل الفني "الهواء، الضوء وشيء بدون اسم" المعروض في متحف الأوداية، تقول السيدة الرواس إنها أرادت أن تقدم بشرانق الحرير شكلاً معمارياً من طبيعة صلبة، أي الدرج، لاستحضار فكرة ممر، من أسفل إلى أعلى، والذي يتحول إلى فضاء هش يطغى عليه الجوهر الدقيق والعضوي للشرانق.
هليدة بوغريط، عمل فني ضد "تغييب" النساء
هليدة بوغريط فنانة متعددة التخصصات تعيش وتشتغل بباريس. وبمناسبة البينالي، قدمت عملها الفني "إيمبلانو دي أريزانا" الذي أنجزته أثناء إقامتها في نيس سنة 2018. ومن خلال إعادة وضع الإنسان في قلب المنطقة، تتساءل هليدة بوغريط عن علاقة الإنسان بالعالم، معارضة ميله إلى الوصم.
وبالنسبة لها، يمثل بينالي الرباط عملاً فنياً ضد "تغييب" النساء في الفن. وقالت السيدة بوغريط في حوار خصت به مجلة "باب" (انظر الصفحة) أن "معيار النوع لاختيار الفنانين في مسار المتاحف يثير دائماً جدلاً كبيراً. واليوم، تعتبر دعوة السيد دماني الفنانات لهذا البينالي "لحظة قبل الكون" بمثابة فضاء للعرض بدون تحديات سوق الفن".
وحسب هليدة، فإن القيمة المضافة لهذا المشروع هي "إعادة قراءة تاريخ الفن الذي يتناول مسألة تحرير المرأة كموضوع محوري في الإبداع الفني، وخاصة في شمال إفريقيا حيث تبقى هذه المسألة مهمة للغاية".
وتهدف هذه التظاهرة البارزة، المخصصة حصرياً للنساء، إلى المساهمة في إعادة تعريف نماذج الفن وفتح نقاش حول مدى إلحاح الإبداع، من خلال تدارس الأسباب والانتفاضات واللحظات الحاسمة التي تدفع بالفنانين للمضي قدماً وصنع التاريخ.