المشير الميداني الجديد لباكستان: رمزية في خضمّ الأزمة

الكاتب : الجريدة24

24 مايو 2025 - 10:04
الخط :

كمل ماديشيتي- أستاذ مساعد بجامعة ريشيهود وزميل زائر بمؤسسة الهند في نيودلهي

في 20 ماي 2025، منحت الحكومة الباكستانية أعلى رتبة عسكرية في البلاد –المشير الميداني- لقائد الجيش الحالي، الجنرال عاصم منير، وهي المرة الثانية فقط في تاريخ باكستان التي يُمنح  فيها هذا اللقب، حيث كانت الأولى من نصيب أيوب خان في ستينيات القرن الماضي.

وعلى الرغم من فخامة المراسيم في إسلام أباد، إلا أن توقيت هذا القرار وسياقه يكشفان عن  القلق الداخلي والإخفاقات الاستراتيجية في باكستان، أكثر مما يعكسان أي نصر عسكري حقيقي.

إذ بدلا من الاحتفال بانتصار تاريخي، تأتي ترقية منير كمحاولة من المؤسسة العسكرية لإخفاء الإخفاقات العملياتية الأخيرة، وتعزيز قبضتها على السلطة، وتثبيت سياسة العداء المستمرة اتجاه الجارة، الهند.

مشير ميداني صاغته الأزمات لا الانتصارات

في العادة، يتم منح لقب المشير الميداني للجنرالات الذين قادوا أممهم لانتصارات تاريخية أو أبانوا عن حنكة استراتيجية متميزة، إلا أن ارتقاء منير يأتي في وقت تضررت فيه مصداقية الجيش الباكستاني بشكل كبير، لا سيما نتيجة التداعيات المترتبة على عملية “سندور” الأخيرة التي نفذتها الهند. يبدو أنها ترقية تم تصميمها لرفع  المعنويات داخل الصفوف العسكرية، وتشتيت انتباه الرأي العام المُحبَط عن سلسلة من الاخفاقات المُهينة.

تواجه باكستان أزمات على عدة جبهات. فالاقتصاد يعاني من تضخم مرتفع وديون متراكمة، فيما تستمر التمردات في أقاليم مثل بلوشستان وخيبر بختونخوا، كما أصبحت سلطة الجيش التقليدية موضع تحدٍ غير مسبوق من قبل احتجاجات شعبية متزايدة. هذا وقد أدى سجن رئيس الوزراء السابق عمران خان وما تبعه من اضطرابات إلى تعميق الشعور بعدم الاستقرار.

في هذا السياق، تبدو ترقية منير أقرب إلى مناورة لتعزيز سلطته الشخصية منها إلى مكافأة مستحقة. ويأتي هذا في وقت تواجه فيه سيطرة المؤسسة العسكرية على الرواية الوطنية، وإحساسها بالحصانة، تهديدات قوية.

الخطاب والتصعيد: من الأقوال إلى العنف

لم تتسم قيادة منير بالابتكار العسكري، بل بحملة مستمرة من الخطاب المعادي للهند والاستفزازات المتكررة.  فمنذ أن تولى المنصب خلفًا لسلفه، وجّه منير انتقادات متكررة لاتفاق وقف إطلاق النار مع الهند الموقّع عام 2021، معتبرًا أن السلام على الحدود يُفقد باكستان ورقة ضغط مهمة، وأن العنف "المُسيطر عليه" يُعد ضرورة استراتيجية. وقد شكل هذا التصور—الذي يرى في المواجهة أداة لإدارة شؤون الدولة—موقف باكستان تحت قيادته.

خطابات منير، التي تتشبع بنظرية "الأمتين" المثيرة للجدل، تجاوزت حدود الخطاب السياسي التقليدي.فهو يعتمد على الخطاب الديني لكسب التعاطف وتجييش المؤيدين، إلا أنه خطاب استغلالي، محشو بالطمع السياسي وجشع السلطة وخال من أي بعد روحي. وهذا الاستغلال البشع للشعارات الدينية لبلوغ مآرب شخصية وتبرير أعمال العنف، هو ما أدى إلى معاناة العديد من المسلمين، داخل وخارج باكستان.

إن خطابات منير الدينية ظاهريا، ليست سوى خطابات كراهية وعداء اتجاه الآخر المختلف، فعوض الرحمة والتعايش، يؤكد منير في خطاباته على وجود هوّة لا يمكن ردمها بين المسلمين ومعتنقي باقي الأديان، خاصة منهم الهندوس، كما أعلن أن شعار الجيش الباكستاني هو: "إيمان، تقوى، وجهاد في سبيل الله" —.

إن منير الذي يتغنى بهذه الشعارات، هو نفسه الذي قاد الجيش الباكستاني إلى تعذيب وخطف المسلمين في بلوشستان، حيث كان أغلب الضحايا من النساء والأطفال.

إنه القائد نفسه الذي يرفض كل مختلف، تماما كما تفعل داعش، والذي أبان عن قسوة رهيبة في تعامله مع اللائجئين الأفغانيين المسلمين الهاربين من الفقر والعنف، فقابلهم بعنف أشد منه وطردهم بطريقة شنيعة أدانتها مختلف المنظمات الإنسانية.

منير إذن يقتص من النصوص الدينية ما يريد ويستخدمها في شعاراته، وهو استغلال ممنهج للدين للوصول للسلطة والحفاظ عليها وتحقيق مطامعه السياسية.

هذا النوع من الخطاب، الذي يعيد إلى الأذهان حقبة الحكام العسكريين المتشددين السابقين مثل ضياء الحق، لا يُستخدم فقط لاستغلال الشروخ المجتمعية، بل أيضًا لتوفير غطاء أيديولوجي للوكلاء الإرهابيين.

إن هذا النوع من الخطاب، المليء بالاقتباسات الدينية، ليس من الدين في شيء، بل هو دريعة لافتعال حرب مع الهند. فالخطاب الديني لدى منير ليس سوى وسيلة لتبرير الحرب بالوكالة والإرهاب، وليس له أي علاقة بالجانب الروحي من الإسلام. إنه نداء إلى حرب دينية، يحمل في طياته طابعًا انقساميًا وتحريضيًا.

وقد عمل مناخ التحريض هذا، إلى تمهيد الطريق لمجزرة "باهلجام" الأخيرة في إقليم جامو وكشمير الهندي، حيث قُتل 26 سائحًا هندوسيًا -مدنيا-، لا لشيء سوى لكونهم غير مسلمين، في هجوم نفذته "جبهة المقاومة" -وهو الاسم الحركي الجديد لتنظيم ”عسكر طيبة" الإرهابي-.

ووفقًا للسلطات الهندية ومحللين مستقلين، فقد جرى التخطيط للهجوم وتنفيذه بعلم ودعم كاملين من المؤسسة الأمنية الباكستانية. ويشير الاستهداف المتعمد للمدنيين، واستخدام عناصر باكستانية ومحلية في آنٍ واحد، إلى جهد محسوب لإشعال التوترات المجتمعية وإثارة أزمة إقليمية. بالنسبة لمنير، فإن افتعال أزمة مع الهند يُعد وسيلة ملائمة لتوحيد أمة منقسمة وصرف الأنظار عن الإخفاقات الداخلية المتزايدة في باكستان.

ما وراء بريق الأوسمة

تحت سطح الأوسمة والألقاب، تبدو حقيقة القيادة العسكرية في باكستان أقل بريقًا بكثير مما تصوّره الروايات الرسمية. فبعد هجوم باهلجام، شنّت الهند عملية "سِندور" — وهي حملة سريعة ودقيقة دمّرت عدة معسكرات إرهابية وضربت عميقا داخل الأراضي الباكستانية.

أما محاولات باكستان للرد، باستعمال  الطائرات المسيّرة والصواريخ، فقد تم اعتراضها أو تحييدها بشكل حاسم من قبل الدفاعات الهندية. وانتهى هذا التصعيد لا بانتصار باكستاني، بل بإجبار إسلام آباد على السعي لوقف إطلاق النار وفق الشروط الهندية.

وقد شكل هذا الحدث منعطفا حاسما في الدينامية الإقليمية، فقد عمدت باكستان لعقود من الزمن على التحصن وراء ترسانتها النووية للإفلات من العقاب، والمراهنة على التهديد بالتصعيد لردع أي رد هندي قوي على الإرهاب العابر للحدود.  إلا أن عملية سندور أبانت عن عزم جديد في نيودلهي.

إذ رفضت الهند الانصياع للابتزاز النووي، وردت بقوة عسكرية مدروسة كشفت  نقاط ضعف قدرات الردع التقليدية والاستراتيجية لباكستان.  وقد قدم هذا الرد رسالة واضحة: لن تسمح الهند باستعمال الظل النووي كغطاء للإرهاب الموجه ضد مواطنيها.

ورغم هذه الانتكاسات، أطلق عسكر باكستان –تحت قيادة منير- حملة دعائية ضمت عروضا عسكرية احتفالية وأغرقت الإعلام بروايات الأمجاد.  وتمثل ترقية منير إلى مشير ميداني اللحظة التتويجية لهذه الحملة: حركة رمزية تهدف لإظهار القوة، ولو أن الحقائق على أرض الواقع تحكي قصة فشل استراتيجي ومصداقية آفلة.

السلطة، والدعاية، و السوابق

إن الترقية-الذاتية لمنير تظهر تطابقا محرجا مع المشير الميداني الأول لباكستان، أيوب خان، الذي كافأ نفسه باللقب بعد حرب 1965 المدمرة مع الهند. كما هو الأمر بالنسبة لأيوب، فإن ترقية منير ليست مكافأة على الإنجاز، وإنما محاولة لإعادة كتابة سردية الهزيمة والحفاظ على وهم التفوق العسكري. أما الفرق الجوهري فيتجلى في تراجع أيوب عن القيادة المباشرة، بينما يستمر منير في ممارسة سيطرة رمزية وعملية، معمقا أكثر سيطرة العسكر على الساحة السياسية بباكستان.

إن ترقية منير ليست مجرد شأن داخلي، بل هي إشارة إلى استمرار زواج عسكر باكستان  بعقيدة العداء والتهور، عوض التفاعل البناء. فخطاب منير المشحون بالكراهية، واستعداده لافتعال النزاع، وتواطؤه مع الإرهاب العابر للحدود، يشكلون تصعيدا خطيرا في وقت لا يسمح للمنطقة بتحمل المزيد من عدم الاستقرار.

إن رد الهند على الاستفزازات الأخيرة –المدروس والحازم في آن- فضح ضعف عسكر باكستان وأشار إلى أن الهجمات على المدنيين الهنديين لن تمر بدون رد. عوض الدفع نحو إصلاح أو مراجعة للذات في روالبندي، تشير ترقية منير إلى أن الجنرالات في باكستان عازمون على التعلق بقواعد اللعبة القديمة من إنكار ومراوغة.

إن ترقية الجنرال عاصم منير إلى مشير ميدائي ليست احتفالا بتميز عسكري، وإنما مؤشر إلى نظام عسكري وسياسي غير قادر على مواجهة إخفاقاته. طالما تتم مكافأة الاستفزاز، وتجنب المحاسبة، فإن حلقة الاستفزاز والانتقام ستسمر. الاستقرار يتطلب ربط السلطة بالمسؤولية- لا أن تحتكر السلطة من قبل الجيش الذي يفتعل الأزمات للحفاظ على سلطته. إن السجل المقلق للجيش الباكستاني يتحدث عن نفسه- ولم يعد بإمكان العالم أن يشيح بنظره بعد الآن.

آخر الأخبار