رضا حمد الله
تركته بجانب الوادي بين الحياة والموت، وعادت أدراجها للمنزل الطيني المجاور بتلك القرية الجميلة أسفل الجبل الشامخ، في ليلة قائظة هجرها فيها النوم. ما أن ولجته حتى أمطرها والدها الكفيف الذي كانت تشاركه العيش وحيدين بعدما تفرقت السبل بباقي أفراد العائلة، بأسئلة دقيقة حول حركة غير عادية أحس بها وسر خروجها ومكوثها طويلا خارجا. بسرعة أقنعته بابتداع رواية صدقها، قبل أن تدنو منه وتلامس يديه مقبلة إياهما.
غالبتها الدموع وهي تمسك بهما بحرارة، حتى سمع الأب نحيبها وتحسس دموع عينيها، دون أن يقتنع بمبررات بكائها حاولت بها تغطية شمس الحقيقة. بكت حسرة على مصيرها ولأنها ستترك أبا حنونا دون من يرعاه ويرأف به، وهي التي كانت له السند في مرضه وبعد فقدانه نعمة البصر دون البصيرة. كانت تنظف بيوت الناس لتطعم الأب وتوفر دواء علاجه، كي يبقى نبراسا منيرا لبيت أظلم بهجران الجميع لأسواره.
مرت عليها ساعات الليل، طويلة وثقيلة وهي تفكر مليا فيما حدث في تلك الليلة الحالكة وبحثا عن منفذ تنجو منه مما ينتظرها من ألم أكبر مما عاشته. بفارغ الصبر انتظرت انبلاج النور من نافذة ضيقة لتنير غرفتها المظلمة بنفس حلكة حياتها وما ينتظرها من ظلمة أكبر. كانت تعتقد أنها تخلصت من جزء حاجب للنور في حياتها، لكنها ما زادتها إلا حلكة.
شكل ذاك الذي تركته قرب الوادي يواجه مصيره ويقربها عائليا، نقطة قاتمة في حياتها. صبرت طويلا لساديته وجبروته طمعا في يوم تتخلص فيه من استغلاله المتواصل لها ماديا وجنسيا، بعدما يئست من ردعه رغم الشكايات المتعددة التي تقدمت بها للسلطات. لكنها تخلصت منه إلى الأبد بعدما حول حياتها جحيما اعتقدت أنها انعتقت منه بالإجهاز عليه، لكنها في الحقيقة، قتلت بذور الصبر فيها وأجهزت على ما تبقى قوة تحمل في جسدها. لا الحياة أنصفتها ولو بزواج تنعتق فيه من عنوسة طالت، ولا ذاك المتجبر تركها لحالها بعدما حول جسدها مفرغا لمكبوتاته الجنسية رغم أن له زوجة موشكة على وضع ابنهما الثاني.
قبل ساعات من ذلك عاد من سفر بعيد وعوض أن يقصد منزله القريب، تسلل إلى منزلها تحت جنح الظلام كعادته، ودلف لغرفة نومها دون أن يحس الأب بحركة قدميه. كان منهكا واسترخى فوق سرير نومها في انتظار حلول الوقت الذي ينقض فيه على جسدها ليفترسه كما اعتاد منذ سنين عاشرها فيها معاشرة أزواج بدون عقد نكاح ورغم قبولها بعلاقتهما على مضض خوفا من الفضيحة أو أي رد فعل منه يفضح سرها وهي الفتاة المعروفة بحسن سلوكها. كان يمني النفس بليلة حمراء، لكنها تلونت بدمه.
كعادته ضاجعها دون رضاها وبعنف، ونام. أما هي فجلست قربه ترسم خارطة طريق التخلص منه وقطع وريد تجبره. فكرت مليا في حل سلمي دون جدوى، قبل أن يستقر قرارها على الإجهاز عليه. ولأجله أعدت العدة وتسلحت بأداة فلاحية محلية الصنع تستعمل في الحفر والحرث، لتحفر رأسه. استغلت نومه وهوت عليه بضربتين متتاليتين وبكل ما أوتيت من قوة لم يتركا له فرصة الوقوف للدفاع عن نفسه. رفع رأسه إلى أعلى وهوى مغشيا عليه.
لم تكن بمقدوره الانتفاضة وهو على السرير والدم سائح من رأسه ينشر فوق الغطاء لوحة نهايته، رغم قوته البدنية التي طالما استغلها للي يديها وتخويفها، ما استغلته لتكبيل يديه ورجليه، قبل جره خارج الغرفة والبيت على مسافة مهمة لتتخلص منه وهو بين الحياة والموت على مشارف الوادي، دون أن تخمد فورة الغضب في فؤادها وهي ترميه بالحجر كما لو كانت ترجم شيطانا وهو الذي لبس لباس الشياطين في علاقته بها.
كانت شبه متيقنة أنه لن يعيش، لذلك عادت أدراجها مطمئنة لنهاية كابوس في حياتها، حتى أنها لم تمحو دمه المتخثر ولا أثر الجر. فقط غسلت إيزار السرير ونظفت بقع الدم بالغرفة، وجالست أباها قبل أن ينام وتقضي بقية الليل في انتظار الصبح ومصير كانت تعي ضبابيته. لقد تحملت الكثير من جبروته وقتلت من أجل تعيش بعيدا عن سطوته ولو في زنزانة باردة بنفس برودة مشاعرها اتجاه الرجال الذين لم تعرف منهم سواه رجلا استباح جسدها دون رضاها ولا رغبتها.
في الصباح كان عون السلطة في طريقه لمقر القيادة، لما رأى شيئا قرب الوادي على مسافة قصيرة من الطريق. توجه إليه وفوجئ بوجود إنسان مكبل اليدين والرجلين وعليه أثر عنف ظاهر. تعرف عليه بسرعة لأنه من أبناء الدوار، فربط الاتصال بالقائد والدرك وشاع الخبر وتجمع عشرات الناس لمعرفة ما وقع في قرية هادئة غير مألوفة فيها مثل هذه الجرائم. كان جليا أن قتل، لكن من يكون قتله؟. سؤال لم تجد عناصر الدرك صعوبة في الجواب عنه.
آثار الجر واضحة من المنزل للوادي حيث بقع الدم باقية، والكلاب المدربة قصدت منزلها من أول وهلة. الأب مكفوف لا قدرة له على القتل والجر، والابنة مشتبه فيها أولى لم تتعب المحققين بسين وجيم. اعترفت بكل شيء وكيفية وظروف قتله وسردت تفاصيل ما عانته معه من استغلال طيلة سنوات لم ينصفها فيها أحد رغم تشكيها المستمر للسلطة والعائلة.
صفدت تلك الفتاة القروية واقتيدت لمقر الدرك وبحث معها وأعيد تشخيص الجريمة وأحيلت على الوكيل العام الذي أودعها السجن قبل انطلاق مسلسل محاكمتها الذي انتهت حلقاته بإدانتها بعقد من الزمن سجنا عقوبة تقضيها في انتظار إنهائها بعدما أنهت كوابيس قريب لذع جسدها وافترسه، فيما انتهت حياة الأب الكفيف حسرة على ما وقع ومصير ابنة لا مثيل لها في الوفاء والتضحية ونكران الذات.