أمينة المستاري
النظام المتخيل وإغراق الذاكرة
تخصص العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية جزءا كبيرا من جهودها لفهم كيفية اندماج النظام المتخيل في نسيج الحياة اليومية.
يشير الكاتب إلى وجود ثلاثة عوامل رئيسية تمنع الناس من إدراك أن النظام المتخيل مجرد تصور ذهني وليس واقعا ملموسا:
العامل الأول: هذا النظام متجذر في العالم المادي إذ يمكن حتى نقشه على الحجر، فالاعتقاد الغربي بالفردانية يقوم على فكرة أن قيمة الإنسان تنبع من داخله وليس مما يراه الآخرون فيه.
في العمارة الحديثة تقفز الخرافة من الخيال لتتشكل في واقع ملموس، حيث تقسم المنازل إلى غرف مستقلة، ويحضى الأطفال بمساحتهم الخاصة، ما يعزز فيهم الشعور بالاستقلالية. وهذا عكس ما كان سائدا في العصور الوسطى
حين كانت قيمة الشخص تتحدد حسب مكانته في الهرم الاجتماعي وآراء الآخرين وكانت منازل النبلاء نادرا ما تحتوي على غرف خاصة.
العامل الثاني: يتمثل في كون النظام المتخيل يشكل رغبات الأفراد، فرغم رفض معظم الناس أن يحكم هذا النظام حياتهم، إلا أنهم يولدون داخل منظومة سابقة لوجودهم، تتشكل رغباتهم بناء على الأساطير.
ففي الغرب تهيمن أساطير كالرومانسية والقومية والرأسمالية والنزعة الإنسانية على تشكيل الرغبات...لكنها في واقع الأمر "عميل مزدوج" يأخذ تعليماته من أساطير الحاضر ومن أساطير القرن 19 و20والنزعة الاستهلاكية .
على سبيل المثال، أصبح قضاء العطلة في الخارج أمرا شائعا، وهو ما لم يكن موجودا في مصر القديمة حيث أنفق المصريون ثروتهم على بناء الأهرامات وتحنيط أجسادهم
لكنهم لم يفكروا في الذهاب للتسوق في بابل أو قضاء عطلة تزلج في فينيقيا، أما اليوم فالناس تصرف أموالها في العطلات في الخارج لإيمانهم بأساطير النزعة الاستهلاكية الرومانسية.
تخبرنا الرومانسية أنه يجب أن تكون لدينا تجارب مختلفة ونفتح أنفسنا للعواطف ونختبر أنواعها من العلاقات ونجرب أصنافا من المأكولات ونطرب لألحان مختلفة من الموسيقى..
والسفر لأراض بعيدة لاختبار ثقافات وعادات الآخرين وسماع خرافات الرومانسية.
تروج النزعة الاستهلاكية الحديثة، يقول هراري، لفكرة أن السعادة تكمن في استهلاك أكبر عدد من المنتجات والخدمات، فإذا افتقدنا منتوجا فنحتاج لشراء آخر.
مما يؤدي لتزاوج بين الرومانسية والنزعة الاستهلاكية، وهو ما أسس لصناعة السياحة الحديثة التي تبيع الخبرات كمنتج أساسي.
العامل الثالث: يتمثل في الطبيعة الجمعية للنظام المتخيل، فلو أقنعت الملايين من الغرباء للتعاون معك، يصبح هذا النظام واقعا مشتركا، وهذا ما يدفع للتفريق بين ما هو "موضوعي" و" ذاتي" و"جمعي".
وهذا ما يميز الظواهر "الموضوعية" كالانبعاث الإشعاعي، فهو ليس خرافة ولا يتأثر بالمعتقدات البشرية، وبين الظواهر الذاتية التي تعتمد على معتقدات فردية، والظواهر الجمعية التي تقوم على التوافق بين عدد من الناس
وبوفاة الفرد أو تغيير معتقداته لا يغير من الأمر بخلاف وفاة مجموعة أفراد أو تغييرهم معتقداتهم فإن ظاهرة جمعية تختفي وتتحور، كالقوانين، المال، الآلهة والأمم ...
وللتغيير في أي نظام متخيل يجب تغيير وعي مليارات من الناس بمساعدة منظمة معقدة كحزب سياسي أو حركة عقائدية أو طائفة دينية...أي تغيير نظام متخيل بنظام متخيل بديل وحين نهرب من سجن للحرية فإننا نجري باتجاه ساحة أوسع لسجن أكبر.
يقدم الكاتب فكرة إغراق الذاكرة كمشكلة تواجه الأنظمة الاجتماعية المتخيلة، وبقدم مثلا بلعبة كرة القدم التي تتطلب معرفة قواعد اللعبة من طرف الفريقين، رغم أن البشر ليس لديهم جينات كرة القدم بل أفكار متخيلة
فإذا تشاركها الجميع فيمكنهم لعب الكرة، وبإمكان كل فرد أن يخزن قواعد اللعبة في دماغه، بخلاف أنظمة التعاون الضخمة التي تتضمن ملايين البشر وتتطلب تخزين ومعالجة كميات هائلة من المعلومات، أكبر مما يمكن لأي دماغ بشري.
بالنسبة للمجتمعات الضخمة كالنمل والنحل، تعتبر مستقرة وقادرة على التكيف لأن معظم المعلومات التي تحتاجها للبقاء مشفرة جينيا، أما البشر فنظامهم الاجتماعي متخيل
لا يستطيعون حفظ المعلومات الضرورة لتشغيله بصنع نسح من جينومهم وتمريرها لذريتهم، بل عليهم بذل مجهود للحفاظ على القوانين والعادات والأخلاق وإلا سينهار النظام الاجتماعي.
من الأمثلة التي يوردها هراري، قانون حمورابي الذي قسم الناس إلى سادة وعامة وعبيد، هذا التقسيم لم يكن طبيعيا أو موروثا جينيا، ولولا احتفاظ البابليين بهذه "الحقيقة" في عقولهم لتوقف مجتمعهم عن العمل
وعند تمرير حمورابي جيناته لطفله لم تكن مشفرة بقانونه الذي وضعه، فهو لقنه وتم تمريره من جيل لجيل عن طريق التعلم والتلقين وليس عبر الجينات.
مع تطور الإمبراطوريات تزايدت الحاجة لإنتاج كميات هائلة من المعلومات المتعلقة بالإدارة والضرائب وجرد بالإمدادات والسفن وتقاويم الأعياد...
وخزن الناس تلك المعلومات في أدمغتهم، لكن الدماغ البشري محدود في قدرته على حفظ تلك البيانات، ولو بالنسبة لأصحاب الذاكرة الحديدية، أيضا لأن البشر يموتون وتموت أدمغتهم، ورغم نقل المعلومات من دماغ لآخر فعملية النقل تميل للتشوه والضياع، والأهم أن الدماغ البشري تكيف لتخزين ومعالجة أنواع محددة من المعلومات فقط.
مع فجر الثورة الزراعية، ظهر نوع آخر من المعلومات وهي الأرقام، فلم يحتج الجامعون للتعامل مع البيانات الحسابية، ولم تتكيف أدمغتهم لتخزين ومعالجة الأرقام، لكن في مملكة ضخمة فالبيانات الحسابية كانت بالغة الأهمية
فقد كان إلى جانب تشريع القوانين وحكي القصص عن الأرواح الحامية كان لا بد ممن يجمع الضرائب وفرضها على آلاف البشر، وجمع بيانات عن مداخيل الناس وممتلكاتهم والمتأخرات والديون...
فأضيفت ملايين البيانات التي يجب أن تعالج ويحتفظ بها ولكون الدماغ البشري غير قادر على فعل ذلك ،انهار النظام واستمرت الشبكات الاجتماعية صغيرة وبسيطة لآلاف السنين بعد الثورة الزراعية.
يضيف هراري، أنه تم تجاوز هذه المشكل في عهد السومريين ببلاد الرافدين، ما بين 3500ق.م و3000 ق.م، باختراع نظام صمم للتعامل مع الكميات الضخمة من البيانات الحسابية بنظام "الكتابة".