العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(15)‎

الكاتب : الجريدة24

17 مارس 2025 - 10:20
الخط :

أمينة المستاري

سعر المال: ببن قوة التعاون وخطر تفكيك القيم

يعتمد المال على مبدأين عالميين: قابلية تحويل عالمية، فهو قد يحول الأرض إلى ولاء والعدالة صحة...كما أنه بمثابة "ثقة عمياء" يمكن شخصين من التعاون في أي مشروع.

هذه المبادئ مكنت الغرباء من التعاون في التجارة والصناعة، لكن الجانب المظلم لهذه المبادئ أنه يستبدل القوانين الإنسانية بقوانين باردة للعرض والطلب ويشرذم التقاليد المحلية والعلاقات الحميمية...

فالمال حاول اختراق حواجز كالشرف والولاء والأخلاق التي كانت تعتبرها المجتمعات غير قابلة للبيع...وتم بيع كل من هذه المبادئ ، كما أننا نثق في المال أكثر من ثقتنا في البشر أو المجتمعات أو القيم المقدسة...

وبنفاذ العملة نفقد الثقة وحين يحطم المال سدود المجتمع والدين والدولة فالعالم يصبح في خطر وسوق كبيرة بلا رحمة.

يعتمد الناس على المال لتسهيل التعاون مع الغرباء، لكنهم يخافون إفساد القيم الإنسانية، فقد دمر المال السدود الجماعية التي عرقلت حركة المال، لكنهم بنوا سدودا جديدة لحماية المجتمع والدين والبيئة من عبودية قوى السوق. فقد تمكن المحاربون الوحشيون والمتعصبون الدينيون والمواطنون المهتمون من دحر التجار الحاسبين وإعادة تشكل الاقتصاد.

فمن المستحيل توحيد البشر كعملية اقتصادية صرفة، فرغم دور الذهب والفضة في اندماج الثقافات لتشكيل قرية عالمية، كان هناك دور مهم للفولاذ.

الإمبراطورية...توحيد الشعوب وإعادة تشكيل الهوية

يسرد الكاتب قصة الإمبراطورية الرومانية وحربها ضد المدينة الجبلية الصغير بشمال ايبيريا "نومانتيا" التي سكنها السلت المحليون، فروما كانت سيدة البحر الأبيض المتوسط، وقهرت الإمبراطورية المقدونية والسلوقية وأخضعت المدن اليونانية  وحولت قرطاح إلى أنقاض محترقة، لكن جنودها انسحبوا أمام النومانتيين الذين عرفوا بحبهم للحرية وتضاريسهم الوعرة.

تم تكليف الجنرال شيبيو أيميليانوس لقمع النومانتيين، يحكي هراري، لكنه لم يقاتلهم فقط حاصرهم حتى تمكن الجوع منهم بعد أكثر من سنة، وقام النومانتيون بإحراق بلدتهم وانتحر أغلبهم حتى لا يصبحوا عبيدا للرومان.

تحولت نومانتيا إلى رمز للشجاعة ميغيل دي سيرفانتس مؤلفه "الدون كيشوت" ، وأبدع الرسامون رسومات عن الحصار، وألف الشعراء الأشعار عن مدافعيها، وتولت أنقاضها إلى "نصب تذكاري" سنة 1882م، وكانت الكتب المصورة بالإسبانية في الستينيات والسبعينيات تتحدث عن آل جاباتو البطل الإيبيري الخيالي الذي قاوم الطغاة الرومان...

فأصبح النجوم النومانتيون  المتحدثون باللغة السلتية المندثرة رموزا إسبانية  للوطنيين من الإسبان، وهم أيضا أتباع مخلصين للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، أيضا القانون الإسباني الحديث مستمد من القانون الروماني، وكذا السياسة والمطبخ والمعمار...لم يبقى شيء من أطلال نومانيتيا وقصتها وصلتنا بفضل كتابات المؤرخين الرومانيين.

سقطت معظم الثقافات أمام جيوش إحدى الإمبراطوريات، وأدخلت في طي النسيان. لكن تسقط الإمبراطوريات أيضا في نهاية المطاف، لكنها تترك موروثات غنية ودائمة.

يعرف يوفال هراري الإمبراطورية بكونها نظام سياسي له خاصيتان هامتان، يجب أن تحكم عددا من الشعوب لكل منها ثقافتها وإقليمها المنفصل. للإمبراطورية حدود مرنة وشهية مفتوحة لابتلاع المزيد من الدول كل مرة دون تغيير هويتها ، بعكس الحاضر.

هذا التنوع الثقافي والمرونة الإقليمية منح سمات فريدة للإمبراطوريات، فهي وحدت مجموعات عرقية ومناطق بيئية متنوعة تحت مظلة سياسية واحدة. هذه السمات هي التي تعرف بها الإمبراطوريات، ويجب أن يحكم الإمبراطورية إمبراطور استبدادي، ولا يهم إن كانت الإمبراطورية صغيرة من حيث الحجم والسكان كالإمبراطورية الأزتيكية التي حكمت قبائل و شعوبا (مساحة أقل وسكانا أصغر)، في حين أن الإمبراطورية اليونانية كانت قد أخضعت أنظمة سياسية عديدة "دول المدينة".

يخلص الكاتب إلى أن الإمبراطوريات اعتبرت أهم سبب لتقليص التنوع البشري وطمست خصائث فريدة للشعوب مشكلة منهم مجموعات جديدة أكبر بكثير.

امبراطورية الشر؟

يضف المؤلف الإمبريالية بكونها تحتل المرتبة الثانية بعد الفاشية في لائحة "الكلمات السيئة"، يقول هراري، وتنتقد الإمبراطوريات لكونها لا تصلح لحكم شعوب على نحو فعال، وهذا يعتبره المنظور التاريخي هراء، كما أنها لا يجب أن توجد لكونها محركات شر تنتج الدمار والاستغلال وهذه العبارة تعتبر إشكالية معقدة.

ويرى الكاتب أن الإمبراطورية تعتبر أكثر أشكال التنظيم السياسي شيوعا في العالم خلال 2500 سنة الماضية، اعتبرت من أشكال الحكومة المستقرة سياسيا، لكنها سقطت لسببين إما الغزو الخارجي أو الانشقاق داخل النخبة الحاكمة.

بالنسبة للشعوب بقيت معظمها خاضعة لأسيادها من الإمبرياليين وهضموا من قبل الإمبراطورية الغازية حتى اضمحلت ثقافاتهم، ولم يعن تدمير الإمبراطورية استقلال الشعوب الخاضعة لها،

فقد ملأت الامبراطورية جديدة الفراغ بعد انهيار أو تراجع الإمبراطورية القديمة كمثال الشرق الأوسط الذي عرف تطورا من عهد الإمبراطورية الآشورية في القرن 8 ق.م إلى الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية في منتصف القرن 20 م، واختفى  منذ زمن طويل الآراميون والعمونيون والفينيقيون والموابيون... من الشعوب التي غزاها الآشوريون.

أما بالنسبة لليهود والأرمن والجورجيون، يقول يوفال نوح هراري أنهم يدعون كونهم من سلالة شعوب الشرق الأوسط القديمة، لكنها مجرد استثناءات تثبت القاعدة وحتى هذه الادعاءات تحتوي على مبالغة إلى حد ما.

الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لليهود المعاصرين تدين للإمبراطوريات التي عاشوا في ظلها خلال  الألفيتين الماضيتين أكثر ما تدين لتقاليد مملكة يهودا القديمة. فلو ظهر الملك داود في كنيس يهودي متشدد في القدس الحالية سيكون حائرا من مشهد أشخاص يرتدون ثيابا شرق أوربية ويتحدثون بلهجة ألمانية ولعم تأويلات لا نهاية لها للتلمود، لغياب كل ذلك في يهودا القديمة.

يتطلب بناء إمبراطورية والحفاظ عليها إبادة السكان والقمع القاسي لمن تبقى منهم ( غزو الرومان لاسكتلندا سنة 83 م قوبل بمقاومة من قبائل كالدونية فقام الرومان بتدمير البلاد، وبعد عرض السلام لقب الرومان ب"أشرار العالم" واعتبرهم لصوصا وقتلة يأتون على الأخضر واليابس باسم السلام).

ورغم ذلك لا يمكن القول أن الإمبراطورية لا تترك شيئا ذا قيمة  فهو بمثابة رفض لمعظم الثقافة الإنسانية، فقد استخدمت أرباح الغزو لتمويل الحصون والجيش وأيضا لتمويل الفلسفة والفن والعدل والأعمال الخيرية.

فقد منحت غنائم الإمبريالية الرومانية القديس أوغسطين وشيشرون...الوقت للتفكير والكتابة، ومكنت مداخيل استغلال المغول للهنود من بناء تاج محل ...

هناك ميراث إمبراطوري في غالبية الثقافات الحديثة، ففي وقتنا الحالي هناك من يتحدث ومن يحلم ويفكر باللغات الإمبراطورية كلغة هان، ويتواصل سكان القارتين الأمريكيتين الإسبانية والبرتغالية والفرنسية والإنجليزية، أما المصريون فيتكلمون العربية مرتبطين  بالإمبراطورية العربية التي غزت مصر وقضت على الثورات..

آخر الأخبار