أمينة المستاري
عبئ الرجل الأبيض
حرص الأوربيون دائما على اكتساب المعرفة ووصفها بالتقدمية والمؤسسات ذات الأثر الإيجابي، ويؤكد هراري أنه لا يجب إنكار فضل الإمبراطوريات الأوربية سواء في مجال الآثار أو علم النبات ...
واستفاد السكان المحتلون من فوائد "التقدم"، يقول هراري، من ناحية الطب، التعليم ... واعتبر الإمبرياليون أن إمبراطورياتهم كانت مشاريع إيثار لصالح الأعراق غير الأوربية، وعلى قول روديارد كبلنج: " عبء الرجل الأبيض".
يقول الكاتب أن الحقائق تكذب هذه الأسطورة، فقد كان الإثراء الهدف الأساسي للحكام، وعاش السكان المحتلون المجاعة (البنغال الكبرى)، لكنه يستطرد بالقول أن القصتين "الاستغلال وقصى الرجل الأبيض" لا تتطابقان مع الواقع بشكل تام، فلا يمكن وصف هذه الإمبراطوريات لا بالخيرة ولا بالشريرة.
لقد غيرت العالم بسبب تعاونها الوثيق مع العلم، هذا العلم الذي استعمله الإمبرياليون لمآرب أخبث، فبعد إثبات تفوق الأوربيون على باقي الأجناس اعتقدوا أنهم يمتلكون الحق في السيطرة عليها.
يسرد الكاتب قصة اللغات وأصل الحضارات المتحدرة من الآرية، وكيف زاوج البريطانيون والفرنسيون والألمان بين النظرية اللغوية حول الآريين وبين نظرية دارون في الانتقاء الطبيعي،
وافتراضهم أن الآريين لم يكونوا مجرد مجموعة لغوية بل كيانا بيولوجيا أي عرقا، بخصائصه، وبعد تزاوجهم مع السكان المحليين فقدوا معظم تلك الخصائص وتراجعت مثابرتهم وعقلانيتهم وتراجعت حضارات الهند وبلاد فارس نتيجة ذلك، في الوقت الذي حافظ الآريون في أوربا على نقائهم العرقي، ولذلك استحقوا احتلال العالم.
يصف هراري هذه النظريات بالعنصرية، والتي أصبحت مع مرور الوقت مرفوضة من طرف العلماء والسياسيين، لكنه ينبه إلى استبدال جبهة القتال الآن ب"الثقافوية" فلم يعد القول الآن "إنه في دمهم" بل يقال "إنه في ثقافتهم"، إنه خطاب الأحزاب اليمينية الأوربية التي تعارض هجرة المسلمين.
يفسر هراري الفرق بين الجملتين من خلال إدراج مثال الجبهة الفرنسية الوطنية والحزب الهولندي من أجل الحرية...
التي تميل للقول أن الثقافة الغربية تتميز بالقيم والديموقراطية والتسامح في حين تعتبر الثقافة الإسلامية تراتبية متعصبة وكارهة للنساء...
وبما أن المهاجرين المسلمين لا يريدون تبني القيم الغربية فلا يجب السماح لهم بالدخول خشية إثارة الصراعات الداخلية والتسبب في تآكل الديموقراطية والليبرالية الأوربية.
وتغدى تلك الحجج الثقافوية بدراسات علمية تسلط الضوء على صدام الحضارات والفروق الأساسية بين الثقافات المختلفة، فيما يشرح علماء الأحياء أن الاختلافات البيولوجية بين السكان في عصرنا هي اختلافات تافهة.
يخلص الكاتب إلى أن العلم زود المشروع الأمبريالي بالمعرفة العلمية والمبرر الأيديولوجي والأدوات التقنية التي مكنت من غزو العالم. ورد الغزاة الجميل بدعم المشاريع الغربية ونشر الطريقة العلمية في التفكير في أقاصي الأرض، وبدون ها الدعم لم يكن للعلم أن يتقدم.
ورغم ذلك، يضيف هراري، فالعلم والإمبراطوريات صعدت بمساعدة عوامل أخرى أيضا، ألا وهي: الرأسمالية .
العقيدة الرأسمالية
يطرح الكاتب تساؤلا حول دور وأهمية المال بالنسبة للإمبراطوريات وتعزيز العلم، وهل هو هدف لتلك المشاريع أم هو ضرورة محفوفة بالخطر؟
يضيف هراري أن مجلدات كتبت حول دور المال في تأسيس دول وتدميرها، وفتح آفاق جديدة واستعباد الملايين...لكن لفهم التاريخ الاقتصادي الحديث يجب فهم كلمة واحدة: النمو.
فالاقتصاد الحديث ينمو ويلتهم كل ما يجده أمامه. ويعود هراري لتاريخ الاقتصاد الذي ظل على حاله بنفس الحجم، فهو موضوع معقد بشكل مزعج، ويحاول شرح الأمر بمثال عن تعاملات بنكية يستخلص منها أن البنوك والاقتصاد ككل تبقى وتزدهر بفضل الثقة في المستقبل والتي تعتبر الداعم الوحيد لمعظم الأموال في العالم.
يتطرق مؤلف كتاب " العاقل" لحالة الاقتصادات الجامدة، والتي تم الخروج منها بظهور نظام جديد سموه "الائتمان" الذي يمكن من بناء الحاضر على نفقة المستقبل.
لكن يستطرد بالقول أن خذا الائتمان كان محدودا وواجه الناس صعوبة في تمويل أعمال جديدة، ولوجود عدد قليل من الشركات الجديدة فإن الاقتصاد لم ينم، بل وافترض الناس أنه لن ينمو أبدا، وبالتالي تحقق الركود.
ثم جاءت الثورة العلمية وفكرة التقدم التي تم تحويلها إلى مصطلحات اقتصادية. وأصبح الناس يثقون في كون الإيمان بأن الاكتشافات الجغرافية والاختراعات التقنية والتطوريات التنظيمية يمكن أن تزيد من مجموع إنتاج البشر وتجارتهم وثروتهم دون تدمير الطرق التقليدية.
وأقنعت فكرة التقدم الناس خلال 500 سنة الأخيرة في وضع ثقتهم في المستقبل، وبالتالي خلقت الائتمان، والحصول على قروض كبيرة وطويلة ومنخفضة الفائدة
ويوجز هراري الحديث عن تاريخ الاقتصاد العالمي مع آدم سميث، وفكرته الأكثر ثورية في تاريخ البشرية، بكون الرغبة الإنسانية الأنانية لزيادة الأرباح الخاصة تشكل أساس الثروة الجماعية هي أيضا ثورية من منظور أخلاقي وسياسي
أي بمعنى آخر يقول سميت أن الطمع جيد وحين أصبح أثرى فإنني أفيد الجميع، أي كلما زاد الدخل عن الحاجيات يمكن توظيف الفائض في توظيف أناس وزيادة العمل...
ففي العقيدة الرأسمالية الجديدة الوصية الأولى والأقدس يقول الكاتب: "يجب إعادة استثمار أرباح الإنتاج في زيادة الإنتاج".
لذا تسمى الرأسمالية بهذا الاسم لأنها تميز بين "رأس المال" و"الثروة" المجردة. ويشرح هراري الفكرتين مع تقديم أمثلة على ذلك.
وقد ظهرت فئة جديدة في العصر الحديث، النخبة الرأسمالية المكونة من رؤساء المجالس، تجار أسهم، صناعيين...ويقوم الكاتب بمقارنة بين النبلاء في العصور الوسطى مع النخبة الرأسمالية.
ومع مرور الوقت أصبحت الرأسمالية أكثر من عقيدة فقد تحولت إلى أخلاق أي مجموعة من التعاليم حول كيفية التصرف وتعليم الأبناء وطريقة التفكير والمبدأ الأساسي النمو الاقتصادي فهو الصالح الأسمى أو الخير الأسمى.
كان لهذه العقيدة تأثير عل العلوم الحديثة أيضا، تمول البحوث العلمية إما من طرف الدولة أو الشركات الخاصة، لكن مع طرح السؤال:
هل سيمكن المشروع من زيادة الإنتاج والأرباح وهل سينتج نموا اقتصاديا؟
فالعلم مكن من الاقتصاد البشري من النمو بفضل اكتشاف آخر مثلا محرك الاحتراق الداخلي، الخراف المهندسة وراثيا...