جرائم مؤنثة..خنقت الجوع في أبنائها

الكاتب : الجريدة24

13 أغسطس 2022 - 05:00
الخط :

رضا حمد الله

اقترب آذان فجر ليلة رمضانية لم تذق فيها طعم النوم. قضتها شاردة تفكر فيما هي فيه والألم المعتصر فؤادها على برودة مشاعر زوج مستهتر تناسى أنه الموكول له الإنفاق والرعاية. تصوم ليل نهار، لم تأكل في 3 أيام متتالية. ليست مضربة عن الطعام، لكنه غير موجود قليله، فبالأحرى كثيره وما لذ وطاب منه ومما يمكن أن تشتهيه ويملأ بطون من بالبيت.
جلست القرفصاء وأسندت ظهرها لحائط منزل متداع في المدينة العتيقة. قربها رضيعتها خرجت للوجود من رحمها قبل أيام، ولم تهيء لها أين وبما تعيش، كما لإخوتها الثلاث أحدهم قضى الليلة مع جدته بمنزل غير بعيد بالحي، والآخران تتضور أمهاءهما جوعا. لا حيلة لها لتدبر بما تطعمهما. لا مدخول لها ولا مهنة تكسب منها، حتى جسدها لم يعد بالطراوة المغرية وإن فكرت في كسب غير حلال.
الثلاجة فارغة وأمعاء أبنائها، ولا حيلة لها لملء الرفوف والبطون. كل الحلول غير ممكنة، فلا العائلة رأفت لحالها أو حتى علمت ما بها أو سألت عنها، ولا أحد يغامر بقرضها مالا يذوب جزء من المشاكل في زمن لم يعد فيه للتكافل والتضامن موضع ثابت بيننا في مجتمع غارق في أنانيته وفوضاه وعبثية الحياة. حتى الزوج لا يكترث بما هي فيه، إلا لإرواء عطشه الجنسي كلما انتصبت غريزته. الزواج بالنسبة له، وهكذا يبدو، حضن يأويه ورحم للإنجاب يفرغ فيه مكبوته.
لم يعد الزوج للمنزل في تلك الليلة وقبلها بأيام لم يسأل فيها عنها وأبنائهما، ولا تعلم أين يوجد. كل ما تعلمه أنه سيعود لما يحتاج جسدها. لقد اعتادت عليه هكذا سلوك واستهتار. لا ينفق ولا يسأل إلا لما تحركه غريزته. أمثاله كثيرون فهو ليس حالة نادرة في واقع استثنائي. أسرتها لم تعد كما حلمت بها وهي تقبل بارتباط عاطفي وزوجي مع زوج فقد العمل وفرط في بذور العطف والحب والمسؤولية.
هذا ما كانت تفكر فيه وشغل بالها كل الليل، لحد الشرود طويلا لم تستفق منه إلا ورضيعتها تصرخ. مسكينة لم ترضع منذ ساعات، ثدي أمها بلا حليب ومن أين للأم بالحليب وهي التي لم تذق طعم الأكل منذ أيام، ولا تملك مالا حتى تشتري حليبا من الصيدلية. عينها بصيرة لحالة ابنتها، ويدها قصيرة لا تستطيع حملها إلا لوجهها لتلطمه حسرة وغضبا. لرضيعتها نظرة والدموع منهمرة من عينيها وكأنها تخاطبها بلغة العيون، قائلة:
- آسفة بنيتي ليس في ثديي ما ترضعين.
طال إمعانها في النظر إليها وهي لا تكف على الصراخ. جائعة وتحتاج حليبا جف من ثدي أمها التي كلما زاد الصراخ تضاعف منسوب غضبها بوتيرة تصاعدية رهيبة. بكاء وندب وندوب بفؤاد جريح، والأعصاب تزداد فورانا. لا حل لها لإسكات الرضيعة أو إرضاعها، وصراخها يدمر نفسيتها المحتاجة جرعات أمل لا إحباطا تعيشه منذ سنوات مرت على زواجها. في رمشة عين ستقتل ما بنته.
الصراخ طال وذبذبات أعصابها تتصاعد. وفي لحظة لم تتمالك فيها نفسها ولا أحست بما ستقدم عليه. بسرعة حركت يدها اليمنى ووضعتها فوق فم الرضيعة. كانت تنوي التقليل من حدة صراخها كي لا يسمعه الجيران وينفضح أمر جوعها وتلتهم ألسنتهم وضعها بالقيل والقال. شرودها طال وقبضتها استمرت ثوان كانت كافية لإزهاق روح صغيرتها. لم تعد تتحرك ولا سمع لها صوت. تحسست أطرافها ووجهها وكل عضو فيها متشبثة بخيط أمل رفيع بأن تكون حية.
خنقت الأم صغيرتها وبكت بحرارة ما أيقض صغيريها النائمين قريبا. رباه من سيسكتهما. حالة هستيرية دخلت فيها دون أن تهتدي لمخرج منها. الأم الحنونة قاتلة، والصغيران يبكيان والأمر زاد تعقيدا. كانت تلطم خديها وتحاول إسكاتهما دون جدوى. وفي رمشة عين أمسكت بمخدتين وضعت كل واحدة فوق وجه أحدهما وضغطت بقوة دقائق قليلات. كانت أحاسيسها خارج جسدها وهي تفعل ذلك، ولم تستفق إلا بتوقف حركتهما. تحسستهما ونادتهما باسميهما ولا من أجاب منهما. لقد ماتا أيضا.
من يصدق أن هذه الأم الحنونة المثالية خنقت أنفاس أبنائها الثلاثة في مدة قصيرة جدا وفي لحظة لم تتمالك فيها أعصابها. لكن ذلك حدث. قتلتهم وأكملت سمر الضياع قربها في انتظار الصباح. مرت الساعات رتيبة وبانبلاج نوره خرجت وتسمرت شاردة أمام باب منزلها في انتظار وافد تحكي له قصة ضياعها لما ضيعتها الظروف وحكمت عليها أن تبقى أسيرة زواج فاشل حولها من فتاة مفعمة بالأمل والحيوية، إلى جسد بلا أحاسيس قد يقتل من عجزت عن إطعامهم. نحو ساعة ونصف طالها انتظارها، قبل أن يلوح "شبح" الزوج قادما من "رأس الدرب". ها قد عاد أخيرا بعد طول غياب، وبعد فوات الأوان وبعدما ضاع كل شيء.
ولجت المنزل وعادت مسرعة وبيدها سكين مطبخ وشرارة الغضب بادية على محياها، إنها عازمة على إحراق كل شيء تسبب في ضياعها، بمن فيهم هذا الزوج المستهتر بواجباته. مطأطئ الرأس ودون أن يمعن النظر فيها، حاول الدخول، لكن شيئا غرز في جنبه منعه وذوب غفلته. رفع عيناه إليها وأمعن في النظر للسكين في جنبه، قبل أن يطلق ساقيه للريح. كانت تتعقبه وتصيح:
_ قتلتهم وستكون الضحية القادم
عبارات زادت من خوفه وسرعة جريانه على طول المسافة بين المنزل وأقرب دائرة أمنية احتمى بها وبلغ عن جريمة قال الأم لأبنائها، التي لم يصدقها أحد إلا بمعاينة الجثث قبل نقلها لمستودع الأموات لتشريحها تزامنا مع اعتقال الأم والبحث معها وإحالتها على الوكيل العام ومتابعتها بجنايات أوخذت بها ابتدائيا وأدين بعقدين سجنا عقوبة روجعت استئنافيا بعد إخضاع الأم لخبرة طبية.
الخبرة أثبتت أن الأم منعدمة المسؤولية الجنائية ولم تكن حين ارتكاب الجريمة، مسؤولة عن أفعالها. والمحكمة كانت رحيمة بها ألغت العقوبة الابتدائية، وأمرت بإيداعها مستشفى الأمراض العقلية والنفسية لإخضاعها للعلاج الذي قد لا ينسيها في بشاعة مشاهد خنق أبنائها الصغار بيديها التي طالما ربت بها عليهم.

آخر الأخبار