رضا حمد الله
كانت على قدر كبير من الجمال، ممشوقة القد وبعينين سوداوتين ساحرتين. تسير بحركة بطيئة لا تخلو من غنج ودلع مبالغ فيه في أحايين كثيرة، كلما خرجت لتتفسح في مدينتها الصغيرة. جمالها أصابها بالغرور، فكانت تتسلى بنظرات الشباب الكاسحة لجسدها ودغدغة مشاعرهم بلامبالاتها. يتغزلون بقدها فيزداد وريد غرورها انتفاخا، حتى خالت نفسها موناليزا مدينتها يتودد الكل فؤادها.
غرورها زاد مع زيادة الاهتمام بها وتقاطر طلبات الارتباط العاطفي، لكن لا أحد ظفر بقلبها الذي لم يخفق بعد بحب أحد ممن راودوها عن نفسها أو حتى غرروا بها. صمدت في وجه الإغراءات بالزواج والمال والهدايا. لا شيء من ذلك ذوب جليد الاهتمام بمن يطرق باب فؤادها أغلقته بإحكام خوفا واحترازا، فنصائح أمها ترن في اذنيها كلما ارتاحت لأحدهم وفكرت في مقايضته مشاعر الود أو الارتباط عاطفيا بعلاقة لا تعلم مآلها ونهايتها.
في حيها كان هناك شاب وسيم خجول ومجتهد في دراسته، طالما لاعبته الكرة في صغرهما بساحة قريبة. كان يحترمها وكانت تقدر احترامه، لم يتجرأ يوما عليها بكلمات غزل أو تحرش بها، لكنها كانت تجد نفسها قريبة منه وهو أقرب إليها منذ الصغر وحتى لما شبا. لم يتوقعا يوما أن ميلهما لبعضهما، سيسقطهما في شباك الإعجاب فالحب والغرام. لم تعد لقاءاتهما تنتهي بإلقاء التحية ولا حتى بتبادل الابتسامة وطأطأة الرأس خجلا. تدريجيا جربا الاختلاء ببعضهما في الحديقة بعيدا عن الأعين، يتحادثان ويحكيان يومياتهما.
تكررت اللقاءات وزاد منسوب حميميتها تدريجيا. تحركت الأيدي لتتجرأ على أطراف محرمة من جسدها، وتلاصقت الشفاه وتعانقت الأجساد إيذانا بمرحلة تحركت فيها المشاعر لتلهب فؤاديهما وتجاوبت الأجساد لإشارات عاطفية متبادلة. لقد تغلبا على خجلهما ولم تعد القبلة والعناق محرمين. كل شيء مباح ومتاح في كل لحظة حميمية يقتنصانها في غفلة من عائلتيهما، إلا ما أخفي بين الفخدين كانت حريصة ألا يمسه. ذاك مقياس الشرف والعذرية كما علمتها أمها، ولا يمكن أن تفرط فيه وبأي ثمن حتى لو كان وعدا بالزواج مغلف بلواعج الحب والمشاعر والأحاسيس الجميلة.
مع مرور الوقت أصبح يغار عليها ويرفض أن يكلمها أحد حتى من زملائها بالقسم. لقد كان مستعدا لحمايتها بأي وسيلة ولو باستعمال العنف ضد كل متحرش بها. العشق حوله من إنسان وسيم وخجول، إلى وحش كاسر لمن يتودد إليها أو يتجرأ على مغازلتها.
- لكم كل بنات المدينة، واتركوها لي لا أحد له فيها حق.
هكذا كان يخاطب منافسيه في قرارة نفسه، وطالما جهر بحبها في كل مناسبة تستدعي ذلك وحمايتها من متربصين بجسدها قد يخطفونها في غفلة منه. تملكه الخوف من فقدانها ولم يعد يطيق من يطرق باب ودها، ويبدي الاستعداد لكسر أنف يشم رائحة عطرها ويتحسسه. لقد أصبح ميالا للعنف كلما مست مشاعره دون اعتبار للعواقب. لذلك لم يتوانى في خوض حرب ضروس مع شاب منافس.
اشتكته إليه كثيرا وفاتحه طالبا بلباقة الابتعاد عنها، لكنه تمادى وكرر اعتراض سبيلها. وفي مرة صادفه يحاول إرغامها على التوقف للحديث معها وهي تصده وتتوسل إليه أن يتركها لحالها. دنا منه وجدد طلبها، لكنه لم يكترث وهدده بفضح علاقتهما. تعالت الأصوات وارتفع منسوب الغضب وتبادلا السب بكلمات نابية وتشابكا. لم يعد ذاك الفتى الوسيم الخجول، كذلك فقد أصبح أكثر شراسة لما أهين وأهينت فتاة يعشقها. دافع عن نفسه باللكم والركل كما لو كان في مباراة فنون الحرب، فإما يفوز ويعز أو ينهزم ويذل. كان لا يرضى إلا بالفوز ولو باستعمال ممنوعات النزال. تذكر أنه يخفي في جيبه بركار وبسرعة تناوله وضرب غريمه في وجهه وجره بشكل أحدث جرحا غائرا بوجهه بطول سنتيمترات. رسم خارطة ضياعه بسببها وحماية لها، وقد كان مستعدا لذلك دون اعتبارا لما ينتظره. لم يحس بالندم وهو معتقل أو يحاكم ولا حتى بعد الحكم عليه ب3 سنوات سجنا نافذا لإحداثه عاهة مستديمة في وجه نديمه فقد إثرها القدرة على تحريك فكه بشكل سليم. كان يمني النفس بأن يشفع له دفاعه عنها، وأن تنتظر استعادته حريته ليرتبطا شرعيا. لقد تعاهدا على ذلك في آخر لقاء لهما سبق اعتقاله. توادعا متعاهدين على اللقاء الأبدي بعد انتهاء المدة، شاهرين الوفاء والتضحية عنوانا.
مرت المدة ثقيلة عليها وطال انتظار مغادرته السجن. وزادت مضايقة العائلة وضغطها لتزويجها. لقد دخلت العشرينيات من عمرها وعدة شباب طلبوا منها الزواج، لكنها كانت ترفض عاقدة العزم على انتظاره مهما طال الزمن، اللهم الزواج بمن تحب ولا الارتباط بعلاقة قد لا تنتهي على خير. لكن صمودها وجبر خاطرها لم يطل. لشقيقها خياط صديق حميم في مدينة أخرى بعيدة، له من الخصال والأخلاق، ما حفزه لاقتراحه عليها زوجا. تشبثت بنفس الموقف الرافض، لكن العائلة هذه المرة، كانت أكثر حزما وضغطا. فرضت عليها الزواج بالذي اختاره شقيقها. أجبرتها على ذلك قبل شهور معدودات من استعادة المحبوب حريته.
على مضض قبلت "جبروت" العائلة وتزوجت بمن لم تشعر اتجاهه بأي إحساس. حاولت عبثا أن تتعايش مع هذا الوضع الذي اختير لها دون رضاها. عاشت معه جسدا بلا أحاسيس التي لم تتحرك بالتجاوب لغير ذاك القابع في السجن الذي سرعان ما غادره واتصل بها للاطمئنان وعتابا لها لاختيار غيره زوجا لها. حكت له تفاصيل جبرها على ذلك، ودعته لزيارتها حيث تستقر أملا في لقاء يطول فيه البوح. لم يخلف دعوتها وسافر إليها والتقيا في غفلة من الخياط واتفقا على إخلاء سبيلهما منه ليعودا إلى بعضهما، دون أن يفكرا في تبعات قرار طائش غير محسوب العواقب.
في الصباح الباكر كان مياوم في طريقه إلى "الموقف" بالمدينة طمعا في عمل يذر عليه مالا، قبل أن يرى شيئا غير عاد مرمي فوق فرن تقليدي في زنقة متفرعة عن الشارع الرئيسي. دنا منه وتحسس ما يخفيه إيزار، وصرخ:
- رباه شخص ميت
صاح في الناس الذين كانوا ما يزالون نياما وتجمهر الجميع قبل حضور الأمن والوقاية المدنية. لم يكن صعبا التعرف على الجثة التي كانت تحمل جروحا ظاهرة، إنها للخياط الشاب الخلوق اللبق الذي يحبه الجميع. صورت قبل نقاها لمستودع الأموات، وانطلق البحث من منزل الهالك. ولجته عناصر الشرطة العلمية والتقنية ومشطته موازاة مع استنطاق ضابط الشرطة للزوجة التي أنكرت عودة زوجها ليلا أو علمها بمن قتله.
إنكارها لم يبعد عنها الشبهة خاصة أمام تناقض أقوالها وعجزها عن تبرير بقع دم عثر عليها في سلالم العمارة وداخل غرفة نومهما، رغم حرصها على تنظيف الأمكنة. أدلة مادية متعددة فندت روايتها وكذبت إنكارها. ومع تدقيق الأسئلة، لم تجد مفرا من ورطتها. اعترفت بتلقائية بقتلها زوجها بمساعدة العشيق. استغلت نومه وهوت على رأسه بحجرة تيمم، ولما خارت قواه واصلت ضربه إلى أن تيقنت من وفاته. حينها اتصلت بالعشيق نزيل شقة مفروشة اكتراها، وحضر وساعدها في التخلص من الجثة، دون أن يدريا أن أمرهما سينفضح ليجدا نفسيهما في موقف لا يحسدان عليه يقضيان عقدين من عمرهما في زنازن باردة بالسجن عقابا عن فعل متهور.