ذاكرة مكان: ليكسوس...مدينة الفينيقيين والرومانيين التي يظل جلها تحت الأنقاض

ذاكرة مكان: ليكسوس...مدينة الفينيقيين والرومانيين التي يظل جلها تحت الأنقاض
أمينة المستاري
على ربوة "تشميش" العالية والواقعة بمدخل العرائش، وفي مشهد بانورامي يطل على نهر اللوكوس، تقع مدينة ليكسوس أو " التفاحة الذهبية" التي أسسها الفينيقيون وجاء بعدهم الرومان فجعلوها مستوطنة لهم وسوقا للمبادلات التجارية وقاعدة بحرية...ورغم عمليات التنقيب الذي قام بها مجموعة من علماء الآثار إسبان وفرنسيين إلا أنها تخفي الكثير من أسرارها تحت الأنقاض.
فقد تم الكشف عن 10 بالمائة فقط من مساحة المدينة، خلال التنقيبات الأثرية العميقة، فيما تظل باقي المدينة مدفونة تنتظر مبادرة الكشف عنها... خاصة وقد أبانت التنقيبات عن تطور معماري تجلى في مجموعة من المباني والمجمعات المعمارية خلال الفترتين المورية والرومانية...كـ"حي المعابد"، والحمامات العمومية والمسرح والحي الإداري والحي الصناعي...
وارتبطت ب"ليكسوس" المدينة المحاطة بالأسرار" أساطير تمجد ماضيها العريق، وتحكي عن الشجرة العجيبة "شجرة التفاح الذهبية" التي كانت تضمها "جنة الهسبيريسات" وتحرسها جنيات الليل، وتنين رهيب ذي مائة رأس يتكلم بأصوات متعددة.
وتحكي الأسطورة كيف نشبت معركة بين هركليس (ملقرت) وأنتيوس لتنتهي بانتصار الجبار الأول الذي يتزوج أرملة المنهزم بمساعدة أطلس، وبتواطئ مع الهسبيريسات اللواتي قمن بتنويم التنين، ليتمكن هركليس من قتل التنين وقطف التفاح الذهبي.
الموقع الأثري الذي يبدو أنه لا يحضى باهتمام إلا نخبة قليلة من المغاربة الذين يزورونها، يحكي عن حضارات ضاربة في التاريخ من فينيقيين ورومانيين، رغم أن التنقيبات الأثرية لم تتمكن من تغطية المساحة الإجمالية حيث تظل مدفونة على عمق كبير.
يبدأ الزائر جولته للموقع الأثري، بدخول الحي الصناعي ويضم مصانع السمك المملح، والمقام عند قدم المنحدر الجنوبي للربوة، على مساحة مترامية الأطراف، رغم أن نصف المساحة لا تزال تحت الأنقاض، لكن ما كشف عنه من المصنع يضم 147 صهريجا موزعة على ما يناهز 10 معامل أو وحدات صناعية،
كما تتواجد قنوات مائية وحوض الحوريات ....وتشير الكتابات اللاتينية المصبوغة على أعناق الأنفورات إلى أن ليكسوس كانت تصدر مصبرات سمك التون الذي يقل عمره عن سنة، ويتم تعتيقها لمدة تتراوح بين 3 و13 سنة قبل تصديرها، كما كانت تصدر صلصات السمك مثل "اللاكاتوم" وصلصة "الموريا" المصنوعة غالبا من أحشاء ودم سمك التون.
وتفيد الأبحاث الأركيولوجية، أن الحضارات التي توالت على المدينة عرفت مبادلات تجارية همت الخزف والأواني البرونزية المصنوعة في بلاد الإغريق وقبرص...كما كانت ليكسوس تنتج الصبغ الأرجواني المستعمل في صاغة الأقمشة الكتانية والصوفية الباهضة الثمن، المستخرج من القواقع البحرية وهو ما أثبتته الحفريات الأثرية بعد العثور على محطات للصيد على الساحل شمال ليكسوس.
وانفتحت على التجارة المتوسطية المستوردة من القرن السادس إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وتشير الأسطورة إلى أن اغتيال الملك بطليموس ابن يوبي الثاني بأمر من الإمبراطور كاليكولا كان بسبب حقد وغيرة منه لظهور الملك بمعطف أرجواني فاخر.
بعد جولة داخل المصنع، تقودك الطريق في ارتفاع يعلو رويدا رويدا، ويطل على نهر اللوكوس، لتصل إلى المسرح المدرج، وهو مثال على البناء المتقن، رغم أن الحفريات لم تكشف عن كل أجزائه، حيث اعتبر نموذجا فريدا من نوعه في شمال إفريقيا، حيث كان يحتضن عروض المصارعين وعروض الحيوانات الضارية، فيما قام الرومان ببناء بالحمامات العمومية بعين المكان، وتتوفر على غرف( باردة، دافئة، وساخنة)، بنيت أرضيتها ورصعت بالفسيفساء التي تشكل وجه الإله أوكيانوس...
وغير بعيد عن الحمامات والمسرح، تقع آثار المحكمة حيث كانت الجلسات تعقد، ومكنت الحفريات من الكشف عنها. أما الحي السكني فيقع في الهضبة الشمالية على بعد أمتار قليلة من المحكمة، يعكس المعمار الخصوصية الرومانية المتمثلة في منازل بباحات داخلية معمدة و مزخرفة، وهناك يوجد في أعلاها منزل "هليوس" و"ريا سيلفيا" وحمامات خصوصية زينت بفسيفساء فينوس وأدونيس...فوق الهضبة، ي
صل الزائر إلى مجمع بمقومات قصر، والذي اتخذ شكل مستطيل، له أبواب ودرج يفضي إلى منظر بانورامي يطل على مصب وادي اللوكوس، وأحيط المجمع بسور هلنستي يصل ارتفاعه إلى 5 أمتار، استعملت في بنائه أحجار ضخمة منحوتة...هي مباني تشهد على الإزدهار العمراني الذي عرفته مدينة ليكسوس على جانب من نهر اللوكوس، إضافة إلى أن أقدم الوثائق المكتوبة التي تم العثور عليها لحد الآن كتبت باللغة الفينيقية،
فقد عرفوا بالكتابة على ورق البردي الذي يتم جلبه من مصر، قبل أن تختفي الكتابة لمدة أزيد من 3 قرون لتظهر من جديد في عهد الملك بوقوس الأول، من خلال الكتابة "البونية القرطاجية" والكتابة الليبية المحلية التي لم تفك رموزها إلى غاية الآن... فالمدينة لا تزال تحبل بالأسرار والغموض الذي يشوب فترات من العصور الوسطى،
لكون جزء كبير جدا من معالم المدينة لا زالت تحت الأنقاض، ويتطلب الأمر تمويلا ضخما للكشف عن باقي أرجاء المدينة وأيضا تمويل الأبحاث الأركيولوجية وتدعيم المعهد الوطني للآثار لعلوم الآثار والتراث، وإحداث مرافق إضافية بالموقع، من أجل إعطاء دفعة قوية قد تساعد على الكشف عن كنز من الحفريات والتعرف على حياة الحضارات التي تعاقبت على مدينة "التفاحات الذهبية".