كيف تسبّب النظام الغذائي الحديث في إمراضنا ؟

في عام 1931 أغلق طبيب أسنان أمريكيّ يُدعى ويستون برايس عيادته وشَرَعَ في رحلة طويلة حول العالم. كان في ستّينيّاته حينها، وقد حَظِيَ بالفعل بمسيرة مهنيّة طويلة ومميّزة إلى الدرجة الّتي يمكن معها اعتباره من بين أكثر ممارسي مهنة طبّ الأسنان تأثيرًا في الولايات المتّحدة.
لكنّ رحلته هذه لن تكون تتويجًا لنهاية مسيرته المهنيّة؛ ذلك أنّه كان مصمّمًا على إيجاد إجابة لمسألة كانت تؤرّقه: وهي الشكّ المزعج في أنّ النظام الغذائيّ الحديث كان يسبِّبُ تدهورًا جدّيًّا للصحّة البشريّة.
مع نهاية القرن التاسع عشر، لاحظ برايس تسارعًا في تفاقم مشاكل الأسنان، وقد كان قادرًا قبل ذلك الوقت على توقّع مسار صحّة أسنان مرضاه ومبحوثيه، لكنّ تلك القدرة كانت في انحسار متسارع، والتجاويف السنّيّة الّتي كان يندُرُ حدوثها من قبل كانت تزداد سريعًا. كان التسوّس في كلّ مكان؛ وكان واضحًا أنّ شيئًا ما قد تغيّر، والمشتبه به الرئيسيّ في ذلك، الّذي كان قد بدأ لتوّه بالتشكّل، هو النظام الغذائيّ الحديث.
كذلك كانت الكوادر الطبّيّة في العالم الغربيّ تلاحظ الأمر ذاته، جوستاف ويكسيل، طبيب الأسنان في بوسطن، لاحظ عام 1902 أنه «قبل شحن الدقيق الأمريكيّ المعالج إلى السويد، قبل جيلين من الآن، كان يمكن لطبيبيْ أسنان تغطية حاجات مدينة ستوكهولم بأكملها، أمّا الآن، فأطبّاء الأسنان كثرٌ مثلما هو الحال في أيّ مدينة أمريكيّة».
تغذية السّخَط
بعد عقود على نشر «التغذية والضمور البدنيّ»، ظهرت خلال العقدين الأوّل والثاني من الألفيّة الثالثة طفرة في الجهود الرامية لمعالجة «الأمراض المرتبطة بنمط الحياة»، الّتي كانت بحلول ذلك الوقت قد صارت وباءً في الأمم الغربيّة.
ومع وصول كوفيد-19 إلى الغرب وتسجيل الشعوب الأكثر سمنة لأعلى معدّلات وفيّات، أصبحت الصحّة السكّانيّة عاملًا فارقًا.
أدّى التحوّل الّذي حدث خلال القرن العشرين، والمتمثّل في توقّف الأمراض المعدية عن أن تكون السبب الأساسيّ وراء الوفيّات، وحلول الأمراض غير السارية محلها، أو ما يسمّيه علماء الديموغرافيا بـ«التحوّل الوبائيّ» (المرتبط بـ«التحوّل الغذائيّ» الّذي أعاد تشكيل النُظم الغذائيّة العالميّة)، أدّى -بشكل كبير- إلى استئصال العديد من الأمراض، ومن بينها شلل الأطفال والحمّى الصفراء، لكنّه لم يُفلِحْ في إرساء قواعد الصحّة العامّة.
في المقابل، خلق التحول الغذائي سكّانًا بأمراض مزمنة وبحاجة إلى رعاية طبّيّة دوريّة، وعليه انتقلت أنظمة الرعاية الصحّيّة من معالجة الأمراض الشديدة إلى إدارة سكّان في حالة دائمة من المرض لكن «قابلة للإدارة»، مع توفر الكثير من الأدوية، بخلاف ما كان سائدًا، ولكن بصحّة أسوأ من السابق.
من السهل قراءة ما سبق كتكلفة لتقدّم لا يمكن إنكاره؛ فالناس أكثر غنًى وأفضل تغذية وسيصبح عدد متزايد منهم بدناء. كذلك فإن الناس يعيشون لوقتٍ أطول، ويموتون بالسرطان أو الأمراض القلبيّة بدلًا من الموت بالتفوئيد أو الكوليرا أو برمح في الخاصرة. ثمّة آثار سطحيّة سلبيّة، لكنّ ما يهمّ هو أنّ كلّ شيء في صعود.
وجدت الدراسة أنّ النظام الغذائيّ الّذي كان سائدًا في أواسط العصر الفيكتوريّ، كان غنيًّا بالخضراوات، والفواكه، خاصّةً الكرز والتفّاح، ما بين ثماني إلى عشر حصص يوميّة، وأحماض أوميغا 3 الدهنيّة، والمكسّرات، والحبوب الكاملة واللحوم. وتلك اللحوم -بدورها- لم تأتِ من القِطَع الأوّليّة باهظة الثمن؛ بل بشكل أساسيّ من لحوم الأعضاء الغنيّة بالمغذّيات الدقيقة، والمقطّرات الدهنيّة والعظام.
ورغم أنّ فقراء أواسط العصر الفيكتوريّ اختبروا الجوع أكثر بمرار ممّا اختبرناه نحن، فالطعام لم يكن متوفّرًا بشكل فوريّ على هيئة وجبات خفيفة (Snacks) مثلما هو اليوم، لكنّهم، بشكل شبه مؤكّد، على مستوى تجريديّ، قد أكلوا أكثر منّا: «نظرًا إلى مستويّات النشاط البدنيّ الذي مارسته الطبقات العاملة بشكل روتيني في أواسط العصر الفيكتوريّ، تراوحت متطلّبات السعرات الحراريّة لديها بين 150% إلى 200% من المتطلبات الغذائيّة اليوم (على انخفاضها اليوم بالمقارنة بأي حقبة تاريخية)». إلا أن النظام الغذائي في العصر الفكتوري لم يكن مثاليًّا، فجودة الطعام، خاصّة اللحوم، كانت منفّرة، لكنّه لم يكن بأيّ حالٍ من الأحوال مجاعة، كما نفكّر فيه عادة.
أدّى الوصول إلى نظام غذائيّ أفضل إلى حيوات أكثر نشاطًا؛ فتقريبًا معظم العمّال البريطانيّين كانوا سيُصنَّفون نشيطين للغاية وفقًا لمعايير الخمول اليوم. كان بنّاؤو سكك الحديد يتربّعون على قمّة الأعمال البدنيّة الشاقّة، إذ كانوا قادرين «على استخراج عشرين طنًّا من الأرض يوميًّا من تحت أقدامهم إلى ما فوق رؤوسهم بشكل روتينيّ»، وهذا عمل يتطلّب قدرًا هائلًا من القوّة يمكن لعدد قليل من الناس اليوم مضاهاتها. كما أنّ الأنشطة الترفيهيّة، من الاعتناء بالحدائق وحتّى لعب كرة القدم، كانت أنشطة ملأى بالحيويّة أيضًا.
كذلك كانت حالات السرطان منخفضة بشكل صادم أيضًا؛ ففي عام 1869، كتب طبيب في مستشفى «تشيرنغ كروس» في لندن، واصفًا سرطان الرئة بأنّه «أحد أندر الأشكال من مرض نادر أصلًا؛ فلربّما تنقضي حياتك الدراسيّة دون أن تصادف حالة أخرى منه». حتّى عند حدوثها، كانت أمراض السرطان أقلّ تسارعًا في تطوّرها ممّا هي عليه اليوم؛ فقد اعتقد الطبيب جيمس باجيت أنّ النساء في المرحلة الثالثة أو الرابعة من سرطان الثدي قد يعشن لأربع سنواتٍ بعد تشخيصهن، وحتّى ثماني سنوات مع الجراحة، وتلك فترة أطول بكثير ممّا هو شائع اليوم.
لكن، ورغم كلّ الفوائد الصحّيّة المدهشة للنظام الغذائيّ الّذي ساد أواسط العصر الفيكتوريّ، إلّا أنّه لا يضاهَى بالتحوّل الرئيسيّ الذي حدث في سبعينيّات وثمانينيّات القرن التاسع عشر والمتمثّل في الانخفاض الكبير في أسعار الطعام. إذ أتاحت التطوّرات التكنولوجيّة -من قبيل التبريد، والبواخر، والسكك الحديديّة، وتقنيات الطحن المتطوّرة- إضافة إلى سياسات التجارة الحرّة، ظهور أوّل نظام عالميّ حقيقيّ لإنتاج الأغذية وانتشارها.
في العام 1901، أُجْبِرَتْ قوّات المشاة البريطانيّة على تخفيضِ حدّها الأدنى لطول المجنّدين من 5.4 إنشات إلى خمسة إنشات فقط، وقد استجابت الحكومة البريطانيّة
في العقود الأخيرة من القرن العشرين، دَخَلَ النظام الغذائيّ الحديث مرحلة ثانية من الانحطاط المتسارع؛ وقد ترافق ذلك مع ظهور سلاسل مطاعم الوجبات السريعة والوجبات الخفيفة المسبّبة للإدمان والّتي تحتوى على شراب الذرة عالي الفركتوز، الّذي زاد استهلاكه عشرة أضعاف منذ عام 1970 حتّى عام 1990، في ظلّ اختفاء مصادر الأطعمة غير المعالجة. وفي غضون وقتٍ قصير، كان يمكن إيجاد «الأوريو» ورقائق البطاطس والكوكا كولا في كلّ أنحاء العالم، والفضل في ذلك يعود إلى تخفيف القيود على التجارة واستراتيجيّات التسويق العبقريّة للشركات، وكذلك السمات الإدمانيّة الجوهريّة في المُنتَجَات المُباعة. لم يكن معتادًا استهلاك الكوكا كولا في المكسيك في خمسينيّات القرن الماضي؛ لكن، بحلول عام 2019، كان سكّان ولاية شياباس، أفقر الولايات المسكيكيّة، يشربون ما معدّله 2.2 لتر من الكوكا كولا يوميًّا.
في الوقت نفسه، شَهِدَ نظام الزراعة العالميّ تحوّلًا آخر خلال العقود الّتي تلت الحرب العالميّة الثانية، مُعَوْلِمًا النظام الغذائيّ الحديث بشكل كامل. في مناطق مثل الكاريبي ومعظم أفريقيا، عَمِلَت لَبْرَلَة التجارة وبرامج التنمية على ربطِ اقتصادات تلك المناطق الزراعيّة بصادرات المحاصيل الزراعيّة النقديّة بعيدًا عن تركيزها على الاستقلال الغذائيّ. بذلك، أصبح السكّان المحلّيّون، الّذين دُفِعُوا بشكل متزايد إلى الانتقال من مجتمعاتهم الفلّاحيّة إلى الأحياء الفقيرة المدنيّة، معتمدين على الأطعمة المعالجة المستوردة من الخارج. في مناطق أخرى -في الهند تحديدًا- نزعت الثورة الخضراء وسلالاتها الجديدة من القمح وموادّ غذائيّة أساسيّة أخرى، فتيل «القنبلة السكّانيّة» المالتوسيّة، والّتي بدَت وشيكة الانفجار في منتصف القرن العشرين.
لكنّ ذلك عَنى أيضًا ولادة أنظمة زراعيّة وطنيّة تركّز بشكل متزايد على محاصيل الموادّ الغذائيّة الأساسيّة، ما دَفَعَ في اتّجاه تقارب عالميّ يتركّز على الأنظمة الغذائيّة الصناعيّة؛ فقد فَقَدَت الهند لوحدها ما يزيد عن 100 ألف سلالة من سلالات الأرزّ منذ العام 1970، وقد تراجعت بشكل كبير نسبة الأراضي الزراعيّة المخصّصة لأسلاف الحبوب الخشنة، مثل الذرة الرفيعة وحبّة الدخن، الّتي تتكيّف بشكل كبير مع الظروف الهنديّة، والّتي تمتلك عناصر مغذّية أكثر بكثير من بدائلها.
مُسِخَتْ التغذيّة وفُكِّكَتْ بُناها المحلّيّة لتتكيَّفَ مع نظام يضَعُ المحصول فوق كلّ شيء آخر. جلبت هذه التحوّلات إلى العالم «النامي» أنماطًا غذائيّة كانت بالفعل قد تسبّبت بانحطاط جسمانيّ في الدول الحديثة. التحوّل نفسه الّذي حدث في بريطانيا الفيكتوريّة كان آخذًا في التوسّع نحو الأطراف جميعها. أمّا برايس، الّذي كان مذهولًا من صحّة سكّان الدول الحديثة السيّئة، تمكّن فقط من رؤية بداية ما كان سيحلّ على الأماكن الّتي درسها. في كاليدونيا الجديدة، الّتي أكنَّ لسكّانها مديحًا لـ «النظام شديد الدقّة» لنموّهم البدنيّ، أصبح الآن 60% من نسائها و64% من رجالها يعانون إمّا من زيادة الوزن أو السمنة.
في حين تضاعف معدّل السمنة العالميّة ثلاث مرّات بين عامي 1975 و2016. لقد كان التحوّل الّذي حصل بالفعل من الأنظمة الغذائيّة التقليديّة إلى النظام الفيكتوريّ، بما احتواه من الشايّ المحلّى والمربّى، ضارًّا بما فيه الكفاية؛ إلّا أنّ هذا النظام الغذائيّ يبدو مزحة إن قُورِنَ بنظام نهايات القرن العشرين الغذائيّ الطافح بالطعام والشراب المترع بالسكّر.
يمكن رؤية آثار هذا التحوّل في عَوْلَمَةِ «أمراض الوفرة» في الدول الفقيرة؛ فمثلًا، الدولة الّتي تعاني من أعلى معدّلات مرض السكّريّ ليست الولايات المتّحدة أو بريطانيا، بل باكستان؛ والبلدان الّتي تعاني من أعلى معدّلات السمنة هي الدويلات الفقيرة جنوب المحيط الهادئ، مثل ناورو وتونغا، اللتان تفضّلان الأطعمة المعالجة المستوردة من أستراليا وفييتنام وتايلاند على تلك المحلّيّة الغنيّة بالعناصر المغذّية مثل جوز الهند أو فاكهة الخبز، وحتّى المايّين الياكوتيّين جنوب المسكيك قد بدأوا يعانون كثيرًا من أمراض أنماط الحياة الغربيّة.
مقاربات ومخارج
يتطلّب الهروب من المأزق الصحّيّ انتقالًا من الإدارة للصحّة المتدهورة إلى منع تدهورها: أي، إصلاحًا جذريًّا لكيفيّة استهلاك المجتمعات للغذاء وكيفيّة زراعته، متبوعًا بإصلاح لكيفيّة هيكلة المجتمعات وتنظيم السوك البشريّ. ذلك، على مستوى تقنيّ فقط، دون التطرّق إلى المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وهو في حدّ ذاته يشكّل تحدّيًّا هائلًا؛ فالأمر لا يتطلّب فقط فَطْمَ السكّان عن الأنظمة الغذائيّة المسبّبة للإدمان بدرجات عالية، بل أيضًا محاولة إعادة تحسين الاقتصادات الزراعيّة الأكثر صحّيّة الّتي أهلكتها مَرْكَزةُ القرن العشرين. لكنّ ذلك ليس مستحيلًا؛ فأمريكا، القارّة، تمتلك الموارد الطبيعيّة لإحداث تغيير في نظامها الغذائيّ وجعله القاعدة الغذائيّة لسكّان يتمتّعون بصحّة جيّدة. حتّى الدويلات الأصغر، مثل هاواي غير المحدّثة، يمكنها أن تحافظ على وجود مجموعات سكّانيّة تتمتّع بصحّة جيّدة وتعتمد على أغذية بعينها، لا شيء مادّيّ يمنع ذلك من الحدوث مرّة أخرى.
هذه قضيّة حضارة؛ فالمسائل العامّة كالزراعة والغذاء دائمًا ما تكون قضايا حضاريّة، مثلما اعتقد برايس. لكنّ الواقع هو أنّه ليس ثمّة مؤسّسات معاصرة تملك القدرة أو الحافز على فعل الكثير فيما يتعلّق بقضيّة النظام الغذائيّ: فصناعة الغذاء تحوز قدرًا هائلًا من القوّة، ومعظم المؤسّسات الطبّيّة تركّز على التدخّل اللاحق وبيع الأدوية أكثر من تركيزها على صحّة السكّان العامّة. لكي تعالج هذه المشكلة، لا بدّ من دولة مستعدّة لتغيير شكل النظام الغذائيّ الحديث.
سيكون ذلك خروجًا صارخًا عن إطار العمل الحاليّ، والّذي يَنُصُّ على أنّ الأنظمة الغذائيّة، الّتي تندرج في إطار قضايا «نمط الحياة»، تَتْرَكُ لشركات الأطعمة السريعة والتسويق لتتعامل معها. لكنّه سيكون أيضًا، إن حَدَثَ، عودة إلى الأعراف التاريخيّة؛ فالدول كانت دائمًا مسؤولة عن الغذاء؛ والنظام الغذائيّ الحديث هو نِتاجُ خيارات حكوميّة واعية، وليس نتاجًا طبيعيًّا لـ«قوى السوق» المستقلّة.
على مستوى عمليّ، ستتطلّب استعادة صحّة السكّان استعادة واسعة للمعرفة الزراعيّة المفقودة، وظهور كوادر جديدة من المهندسين الزراعيّين وعلماء النباتات، لتصميم ما قد تبدو عليه أنماط زراعة مستدامة داخل مناطق إحيائيّة خاصّة، وكيف يمكن توسيع نطاقها باستخدام تقنيّات جديدة. أمّا على المستوى النظريّ، سيتطلّب نموذجًا جديدًا لماهيّة الدولة، تكون فيه مسألة إعادة خلق سكّان أصحّاء -وليس مجرّد إدارة أمراضهم لغايات الربح أو المحافظة على الاستقرار- مسألةً تتعلّق بالأمن البيولوجيّ على مستوى الأنواع، وتكون قادرة على التعامل مع هذه المسألة بوصفها أولويّة مثلما هي في الواقع.