المنطق القضائي في المادة الجنائية

الكاتب : الجريدة24

23 يناير 2023 - 10:42
الخط :

عبد الرحيم موهوب- باحث في سلك الدكتوراه قانون الأعمال

إن العملية التقديرية التي يقوم بها القاضي الجنائي والتي تعتبر نشاطا  ذهنيا  وعقليا مؤسس على قواعد الاستدلال القضائي يتألف من عنصرين هامين يتجسدان في الواقع والقانون، لذلك فإن القاضي الجنائي عند نظره في الدعوى الجنائية بغرض الفصل فيها يستعمل قياسا منطقيا قانونيا يتكون من مقدمتين أحدهما كبرى وهي القاعدة القانونية الواجبة التطبيق وهي الممثلة لعنصر القانون، ومقدمة صغرى تمثل الواقعة الثابتة في الدعوى الجنائية وهي عنصر الواقع، ليخلص إلى النتيجة المتجسدة في المطابقة المنطقية والمادية الحاصلة من إنزال حكم القانون على الواقع.

فالحكم القضائي يجب أن يكون مقبولا عقلا ومنطقا ومستساغا بتوافقه مع مبادئ العقل والمنطق السليم، ولأجل ذلك وجب تحقق ثبوت عنصر الواقع وترابطه مع عنصر القانون حتى تتحقق العدالة التي تقتضي توفير الحماية القضائية.

إن تطبيق قاضي الموضوع للقانون بطريقة صحيحة هو غرض العدالة، وهذا يفرض عليه ابتداء فهم الواقعة المعروضة على المحكمة فهما واعيا وسليما باستخدام الملكة العقلية والإدراكية بكل تجرد وموضوعية، مع الإحاطة الكاملة والكافية بحقيقة جميع الظروف والملابسات التي تحيط بها، لأن هذه العملية سوف تكون نبراسا له من أجل البحث عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق وهو حكم القانون.

واستخدام الاستدلال القضائي يؤسس لفهم الواقعة بشكل منطقي وسلس من قبل القاضي، وذلك باستخدام القدرة العقلية من أجل إدراك حقيقة الواقع باستعمال ملكة الوعي، كذلك الفهم الكافي والسائغ للأدلة القائمة في الدعوى الجنائية باعتبارها وسائل إثبات أو نفي للواقعة، مع تحديد النص القانوني لها،  أخذا بالاعتبار طلبات ودفوعات الخصوم ومدى تأثيرها على حقائق الدعوى الجنائية.

ومادامت الدعوى الجنائية متداخلة بين الواقع والقانون، فإن فهم القاضي الجنائي ووعيه الكامل والمستساغ سيؤدي بشكل  حتمي إلىحسن وسلامة تطبيق القانون على الواقعة، ومؤداه الوصول إلى ملامسة الحقيقة الواقعية، وكل زيغ أو انحراف في الفهم واستعمال لملكة الوعي سيؤدي إلى نتيجة مناقضة وحكم غير صحيح، يتم كشفه من قبل محكمة النقض باعتبارها محكمة قانون.

ولعل الفقه حدد مجموعة من الأسباب التي تجعل القاضي الجنائي يتشكل لديه وعيا خاطئا بحقائق الدعوى، منها أن القاضي في بعض الأحيان يعتقد أنجميع الوقائع متشابهة ومتماثلة، مع أن الواقعة الموضوعة أمامه هي ذات خصوصية تميزها، وهو بهذا يحكم دون أن يدرك أو يتفرس، أو ما يطلق عليه التأصيل دون التحليل.

كذلك فإن القاضي الجنائي تكون له ترسبات فكرية ومقاسات سابقة في ذهنه تجعله يتقيد بالعادات الراسخة في ذهنه، الأمر الذي يجعله يهتم بالمظهر والشكل دون النفاذ للعمق، ومنها النفور من المعطيات ولو كانت منطقية والعزوف على النظر فيها بسبب مخالفتها لذوقه،

أو لأنها توحي في نفسه النفور والاشمئزاز، كحالة عدم الاهتمام والتركيز في أقوال الشاهد بسبب رائحته الكريهة أو لباسه الرث، أضف لهذا تأثر القاضي بتجاربه الخاصة أو ما يعرف بعلمه الشخصي.

لذلك فإن الإحاطة العميقة والواعية بكافة جوانب النازلة هي المسار الأصوب لحسن تدبيرها مما ينتج عنه تشكل صحيح لها يساعد على تحديد النص القانوني المنطبق عليها.

المبحث الأول: قواعد الاستدلال في المنطق القضائي الجنائي.

إن الممارسة اليومية للعمل القضائي التي يقوم بها القاضي الجنائي بغرض النظر والفصل في الدعوى الجنائيةينبني على قواعد الاستدلال المنطقي بهدف التوصل إلى خلاصة ونتيجة متشكلة في صورة حكم أو قرار قضائي جنائي يكون مقبولا ومستساغا عقلا ومنطقا.

ولأجل هذه الغاية المثلى التي تضمن الحقوق والحريات يقوم القاضي الجنائي باستخدام قواعد ومناهج الاستدلال المنطقي لربط حكم القانون على الوقائع المدونة أمامه في اوراق الدعوى الجنائية واستنتاج تكييف قانوني سليم، وحتى في حالة وجود ضبابية في القاعدة القانونية المثلى للتطبيق،

فإنه يقوم بتغييرها وفقا لقواعد التفسير المنطقية، وكل هذا بغرض الفصل في الدعوى وتأسيس حكم جنائي سليم مؤسسا على قناعة تامة تكونت خلال مراحل الدعوى. وغاية القاضي الجنائي في كل هذا هو الوصول إلى اليقين القضائي الذي يخرجه إلى الوجود مضمنا بصدور حكم أو قرار علني مصاغ صياغة قانونية لا تعتريه شائبة الخطأ.

المطلب الأول: ماهية الاستدلال المنطقي القضائي:

إن الاستدلال المنطقي هو مجموعة من القواعد والعمليات الذهنية التي تخضع وتلتزم بقواعد علم المنطق، والاستدلال القضائي بدوره يخضع لهذه القواعد والعمليات الذهنية، ويمكن تعريفه بأنه مجموع العمليات الذهنية التي يمارسها القاضي الجنائي بهدف الوصول إلى برهان تام ويقيني لصحة النتيجة التي تم التوصل إليها في تقديره لوقائع الدعوى الجنائية وكفاية أدلتها مستندا إلى القواعد العقلية المضبوطة منطقيا.1

وقد تم الاهتمام بالاستدلال المنطقي القضائي في سنة 1953 خلال المؤتمر الدولي الحادي عشر  للفلسفة الذي انعقد ببلجيكا والمنظم من قبل المركز الوطني للبحوث المنطقية (CNRL)، حيث أن هذا اللقاء أثار نظرية البرهان من قبل أستاذ المنطق القانوني "شايمبيرلمان" من خلال طرح تساؤلا فلسفيا مؤداه ارتباط موضوع الاستدلال المنطقي بالحكم الجنائي، وقد تم الخروج بخلاصة أن الحكم القضائي الجنائي هو نتيجة لتفكير القاضي الجنائي، وأن الحكم هو عصارة استدلال قضائي معين يحمل بين ثناياه العلاقات العلمية والمنطقية.

ويمكن القول أن الاستدلال المنطقي القضائي هو البناء لمجموع العمليات التي يستخدمها القاضي الجنائي بمناسبة مباشرته النظر في الدعوى القضائية بدءا  بفهم  وقائع الدعوى الجنائية ومرورا بتفكيك هذه  الوقائع المتداخلة بإثباتها أو نفيها، ثم تنزيل الحكم القانوني عليها، ليخلص إلى النتيجة المستساغة عقلا ومنطقا من خلال المطابقة المادية بين النموذج القانوني الأمثل والواقعة المثبتة. ومنه فإن الاستدلال المنطقي القضائي  يكون منهجا منطقيا قضيا متعلق بالواقع لأنه مرتبط بواقعة محددة معروضة على القضاء للفصل فيها.

فالاستدلال يؤسس على مناهج علمية تعين القاضي الجنائي في بناء الحكم على مبادئ عقلية ومنطقية، ويبقى النموذج المنطقي الأساسي الذي يستخدمه القاضي هو الاستدلال القياسي الذي مؤداه مقدمة مع مقدمة صغرى تعطي نتيجة منطقية، كونه أداة منطقية وعلمية لبناء البرهان والحجج المثلى، باعتبار أن البرهنة هي مجمل الأساليب المنطقية للوصول إلى حكم قضائي جنائي صحيح1.

فعملية البرهنة المبنية على الاستدلال المنطقي لها دور هام في الوصول إلى أحكام قضائية صحيحة، كونها لبنة التفكير الصحيح، والقاضي ملزم بتعليل صحة أحكامه الجنائية بواسطة البرهنة، هذه الأخيرة التي كلما كانت عملياتها سليمة يكون لها دور أساسي ومهم في إقناع أطراف الخصومة الجنائية وكذا الرأي العام المتتبع لها.

إن عملية البرهنة ترتكز على ثلاث أسس مترابطة فيما بينها، حيث الركيزة الأولى تتجلى في واقعة الدعوى الجنائية التي تكون موضوع عملية البرهان، ثم الحجج الدالة على الواقعة مع تحديد الرابط بين هذه الدعوى وهذه الحجج، وأخيرا تجليات البرهان والذي يعني الربط المنطقي بين واقعة الدعوى الجنائية والحجج، الأمر الذي يؤكد أن النتيجة التي توصل إليها القاضي الجنائي تبرهن مباشرة على ما تم استخلاصه من الأدلة والحجج الواقعة على أوراق الدعوى الجنائية.

ويتجلى الاستدلال القضائي بشكل جلي في دراسة وقراءة قرارات محكمة النقض سواء المغربية أو في القضاء المقارن على تسبيب وتعليل الأحكام والقرارات الجنائية باعتباره استدلالا عمليا، حيث تكشف هذه الرقابة صحة الاستدلال الذي أجراه القاضي الجنائي من عدمه، ففي عدة قرارات صادرة عن محكمة النقض المغربية في المادة الجنائية نجدها تراقب سلامة الاستدلال باعتباره المؤسس المنطقي والعقلي لتعليل وتسبيب الأحكام والقرارات الجنائية2.

ففي قرارا صادر عن محكمة النقض المغربية جاء فيه: " يجب على المحكمة أن تبرز في قضائها الأدلة التي اعتمدتها وتبين حالة الاستفزاز أو الدفاع الشرعي فلا يكفي القول بأن المتهمين أنكروا الأفعال المنسوبة إليهم  وأن المحكمة تتوفر على الأدلة والقرائن الكافية على المشتكين قد استفزوا المتهمين".

وفي قرار آخر لنفس المحكمة : " يجب أن يكون كل حكم معللا من الناحيتين الواقعية والقانونية وإلا كان باطلا وأنه إذا كان من حق قضاة الموضوع أن يكونوا قناعتهم من جميع الأدلة المعروضة عليه فيجب أن تؤدي تلك الأدلة منطقا وعقلا إلى النتيجة التي انتهوا إليها.

غير أن العلل التي بررت بها المحكمة الإدانة من أجل هتك عرض قاصرة والتي جاء فيها أن إنكار المتهم تكذبه الشهادة الطبية وظروف القضية تفيد أن الضحية كانت عنده بالدكان المعد للخياطة. لا تؤدي منطقا وعقلا إلى النتيجة التي انتهت إليها. ونظرا لهذه الوسيلة المثارة تلقائيا قرر المجلس نقض القرار المطعون فيه."1

وكذلك قرار آخر صادر عن نفس محكمة النقض المغربية جاء فيه: " لما اعتمدت المحكمة في إدانتها للطاعن على مجرد تصريحات الضحية دون أن تبني قناعتها بالإدانة على وسائل ثبوتية كافية ومحددة قانونا ولا تثير في دلالتها أي لبس أو غموض أو احتمال علما أن شهادة من كان قاصرا وله صفة مطالب بالحق المدني ولم يؤدي اليمين القانونية تكون محل شبهة ولا يمكن الأخذ بها بمفردها كحجة إثبات فعل جنائي ضد متهم أصر على الإنكار في سائر أطوار بحث القضية، مما يعتبر معه القرار المطعون فيه ناقص التعليل الموازي لانعدامه."

وعليه يمكن القول أن الحكم الجنائي يعكس صورة لفكر القاضي الجنائي في مرحلة النهائية التي وصل إليها تفكيه وإدراكه في الدعوى الجنائية، أما ما سبقها من مراحل والتي تشكلت في مجموعها فإنها لا تلوح بشكل جلي في الحكم، ويمكن القول أن الحكم الجنائي هو النقطة النهائية للاستدلال الذي قام به القاضي الجنائي، هطا الاستدلال الذي في حالة مخالفته لمبادئ المنطق والعقل يكون معه الحكم الجنائي مشوبا بعيب الفساد والاستدلال.

المطلب الثاني: الاستدلال القضائي على الواقع والقانون في الدعوى الجنائية.

إن القاضي الجنائي عند فحصه للدعوى الجنائية المطروحة أمامه من أجل إصدار حكم فيها، فإنه يشتغل ضمن اندماج الوقائع المادية الموجودة في الدعوى بالقانون، فالدعوى الجنائية تتضمن مجالين أحدهما واقعي والآخر قانوني، وتداخل هذين المجالين وما يحدثه من تأثير وتأثر فيما بينهما نظرا للارتباط القوي بينهما يؤدي إلى الوصول إلى حكم يصدر في هذه الدعوى الجنائية.

والقاضي الجنائي من أجل إدارة العملية القضائية أثناء النظر في الدعوى الجنائية يستعمل الاستدلال القضائي بغرض فهم النازلة وإثباتها وإصدار الحكم القانوني عليها ضمن دائرة تجمع الواقع والقانون، وهكذا فإن القاضي يستخدم الاستدلال الجدلي من أجل العمل على التمييز بين العناصر المادية التي تدخل في التركيب النموذجي الإجرامي، ثم يقوم بدراسة الأدلة الإقناعية التي تؤثر في الوصول إلى النتيجة سواء كانت هذه الأدلة تثبت أو تنفي الواقعة الجنائية.

والقاضي الجنائي يمارس عمله هذا داخل مبدأ تكافؤ الأدلة الجنائية وتساندها وسلطة تقدير وقبول الأدلة من عدمه، ضمن منهج الاستدلال الذي يعتبر الوسيلة الأساسية للمنطق القضائي التي

توصله إلى الحقيقة الموضوعية الواقعية التي يصبو إليها القاضي الجنائي. لذلك سيتم تحديد المقصود بالواقع والقانون من خلال التعريف بمناهج الاستدلال القضائي التي تعين القاضي الجنائي أثناء النظر في الدعوى الجنائية من أجل الفصل فيها.

الفقرة الأولى: مفهوم الواقع والقانون في الدعوى الجنائية.

الواقع لغة كما عرفه بن منظور هو: وقع على الشيء ومنه يقع وقعا ووقوعا: سقط... ومواقع الغيث مساقطه... ووقع بالأمر أي أحدثه وأنزله... ووقع القول والحكم أي وجب... ووقع منه الأمر موقعا حسنا أو سيئا أي ثبت لديه1.

وفي التعريف الاصطلاحي القانوني فإن الواقع يفيد وقائع الدعوى التي تكون مصدر الحق المدعى به أمام القاضي، وبهذا فهو التصرف القانوني أو الواقعة القانونية التي أنشأت هذا الحق والذي يطالب المدعي بإثباته2.

والتصرف القانوني هو الإرادة المنصرفة إلى إحداث أثر قانوني معين، ويرتب عليها القانون هذا الأثر، فالعقد مثلا تصرف قانوني يقوم على توافق إرادتين وينشئ حقوقا شخصية أو تكتسب من خلاله حقوقا عينية.فيما الواقعة القانونية تكون واقعة مادية يرتب القانون عليها أثرا، فإما أن تكون طبيعية لا دخل لإرادة الإنسان فيها، أو تكون واقعة اختيارية وقعت بإرادة الإنسان، وعندما تكون هذه الواقعة اختيارية فإن الفاعل يقصد من ورائها إحداث أثر قانوني لها كالحيازة، أو لا يقصد بها ذلك كالدفع الغير مستحق4.

ومفهوم الواقع في الميدان الجنائي يفيد واقعة الجريمة التي ارتكبت في العالم المادي الخارجي والمعروضة على القاضي الجنائي والتي تعني الحادث الاجرامي الذي يعني الحادثة التي تقع في الواقع وينتج عنها ضرر ما. فالحادث الذي يعتد به في الميدان الجنائي والذي يكون موضعا للتطابق المنطقي والمادي الذي يصل إليه القاضي الجنائي ، يفيد الفعل الجرمي المكتمل العناصر والأركان القانونية والمادية والمعنوية.

ب:عناصر الواقع.

يمكن القول أن العناصر التي يعتد بها في الميدان الجنائي هي الوقائع المكتملة العناصر القانونية، وهي الركنين المادي والمعنوي الذي ينصرف إلى القصد الجنائي للجاني، وهو ما يطلق عليه بالعناصر الرئيسية للواقعة.

فالركن المادي المتجلي في النشاط الإجرامي الذي يقوم به الفاعل والمتكون من عناصر السلوك الإجرامي والنتيجة والعلاقة السببية الرابطة بينهما، غايته بلوغ الجاني لتحقيق النتيجة من هذا السلوك الآثم، ومنه فإن الفعل الذي تتشكل منه الواقعة هو أساس تكوين الجريمة سواء كنات سلبية أو إيجابية1. غير أن عدم تحقق النتيجة لا يعدم الواقعة الجرمية، لأن الجريمة قد تتوقف عند الشروع الذي يتحقق بالبدء في التنفيذ وذلك لسبب خارج عن إرادة الفاعل.

أما الركن المعنوي فإنه يقوم على عنصري العلم والإرادة الآثمة التي توجه سلوك الفاعل لمخالفة القانون الجنائي، فالإرادة الآثمة تعتبر الصلة بين الجريمة كواقعة مادية لها تمثل خارجي، وبين الفاعل الذي صدرت عنه والذي يعده القانون مسؤولا عن هذه الجريمة ويصفه بالجاني، وبالتالي فإن هذا الركن هو الفارق الأساسي بين الجرائم العمدية والغير العمدية، كما أن له دور هام في تحديد المسؤولية الجنائية مما يفرض تحديد عنصري هذا الركن في الجريمة.

إضافة إلى الركنين المادي والمعنوي أجب التشريعات في بعض الجرائم نظرا لخصوصيتها إثبات ركنا آخرا وهو الركن المفترض، والذي على أساسه تقوم وتكتمل عناصر الجريمة مثل جرائم التعذيب التي تستلزم تواف صفة معينة في كل من الجاني والمجني عليه عند مباشرة السلوك الجرمي من أجل اكتمال البناء القانوني للجريمة، فاشترط أن يكون الجاني موظفا عموميا وأن يكون المجني عليه مشتبها فيه أو متهما. كما نص على ذلك المشرع المغربي في الفصل 267 و 248 من القانون الجنائي.

وتجدر الإشارة إلى أن الظروف التي تحيط بارتكاب الجريمة تعتبر من العناصر الثانوية التي لا تأثير لها على جوهر وقوع الجرم الآثم، وإنما ينحصر وقعها على التعديل من آثار الجريمة سواء إيجابيا أو سلبيا عند اكتمال أركان الجريمة، الأمر الذي يفيد أن القانون لا يلقي بالا إلا للوقائع التي تكون أركان الجريمة موضوع المحاكمة.

فالقاضي الجنائي خلال مرحلة سرد العناصر القانونية للجريمة موضوع الدعوى، فإنه يطبق تلك العناصر استنادا على ما تحتويه من قيمة للأحداث المادية حتى يكون تطبيقه للقانون تطبيقا سليما. والواقع الذي يقبله القانون في التشريع الجنائي والفقه الجنائي هو الذي يعرف بالواقع المحدد والمعرف لأركان الجريمة، أما ما سواه من وقائع أخرى التي لا تكون محل تنزيل حكم القانون عليها فتكون وقائع بسيطة ولا تدخل في تكوين الجريمة.

وفي هذا الصدد فإن محكمة النقض المغربية أكدت في مجموعة من قرارتها على هذا الأمر منه قرار صادر عنها جاء فيه: " إن القرار الذي لا يتعرض ولو بإيجاز لكيفية وقوع الأحداث وتاريخها ومصدر الاستنتاجات التي انتهت بها محكمة الاستئناف إلى إصدار الحكم، مع النص القانوني الذي طبقته،يكون منعدم الأساس والتعليل، وبالتالي معرضا للنقض والإبطال."1 وفي قرار آخر صادر عن نفس المحكمة جاء فيه : " لما كان الأصل أنه يجب لسلامة الحكم أن يبين واقعة الدعوى والأدلة التي استند

ثانيا: مفهوم القانون في الدعوى الجنائية.

إن مبدأ الشرعية الجنائية الموضوعية يقتضى أن مسألة القانون تكون وجوبا محددة قبل وقوع الفعل الجرمي الآثم2، وانسجاما مع هذا وتطبيقا له، فإن محكمة النقض المغربية باعتبارها محكمة قانون وظيفتها الأساسية هي السهر على التطبيق السليم للقانون، حيث أنها تصرح دائما بأن الحكم الجنائي يكون خاقا للقانون ومشوبا بعيب مخالفته إذا أخطأ القاضي الجنائي في تطبيق القاعدة القانونية على الواقعة الجرمية المطروحة أمامه في الدعوى الجنائية.

وفي هذا الصدد نورد قارا صادرا عن محكمة النقض المغربية جاء فيه: " يتعرض للنقض الحكم الصادر بعد دخول القانون الجنائي الجديد في حيز التطبيق والذي طبق العقوبة المنصوص عليها في الفصل 135 من القانون الجنائي القديم في حين أن العقوبة المنصوص عليها في الفصل 235 من القانون الجنائي الجديد أصلح للمتهم."3

فلا يكفي أن يكون السلوك منطبقا على نص التجريم كي تضفى عليه الصفة غير المشروعة، بل يجب أن يكون هذا النص نافذ المفعول وقت إيتان السلوك وساريا على مكان وقوعه على شخص مرتكبه، ويسري النص الجنائي من وقت نفاذه ويستمر حتى يلغى بقانون جديد،

وقد يكون الإلغاء صريحا بصدور قانون ينص على إلغاء القانون القديم، وقد يكون ضمنيا بصدور قانون يتمثل على نص يتعارض مع نص القانون القديم أو يعيد تنظيم الموضوع الذي نظمه القانون السابق، ويترتب عن هذا أنه ليس فقط عدم جواز معاقبة الشخص عن سلوك كان مباحا قبل العمل بالقانون، بل أيضا عدم جواز معاقبته بعقوبة أشد من تلك التي كانت مقررة بموجب القانون الذي كان نافذا وقت إيتان السلوك.

صفوة القول أن الواقع والقانون هما عنصري الدعوى الجنائية، فالتحديد المدقق للوقائع في النازلة المعروضة بغرض الوصول إلى النص الجنائي النموذجي باستخدام قواعد المنطق القضائي هو السبيل القويم للحكم في الدعوى الجنائية، ولهذه الغاية فمن الواجب واللازم على القاضي الجنائي المعروضة أمام أنظاره الدعوى الجنائية أن يستخدم بشكل عقلي قواعد المنطق القضائي لإثبات أو نفي وقائع الدعوى المطروحة أمامه بما في ذلك من فهم للنازلة والظروف المحيطة بها.

إن هذا السبيل الذي يسلكه القاضي الجنائي عبر استخدام عقلاني لقواعد المنطق القضائي من أجل تحديد النص القانوني الجنائي النموذجي هو التكييف القانوني للجريمة، كما أن هذا المنطق الذي يستخدمه القاضي الجنائي يساعده في الإدراك والفهم للنازلة مما يعينه على تفسير النص الجنائي،

وعند الوصول إلى مرحلة تطبيق النص الجنائي على الواقعة واستخلاص النتائج يكون فعلا قد فصل في الدعوى الجنائية، وهذه المراحل التي يمر منها القاضي الجنائي خلال تقليبه لأوراق الدعوى الجنائية يكون قد قام بمجموعة من العمليات الذهنية استنادا إلى مناهج الاستدلال القضائي.

الفقرة الثانية: مناهج الاستدلال القضائي.

يمكن القول أن الاستدلال هو عملية عقلية ينطلق فيها العقل من قضايا مسلم بها ويسقطها على قضايا أخرى تنتج عنها بالضرورة دون لجوء لعميات تجريبية، فالطابع الذي يميز المناهج الاستدلالية هو الدقة كونه يقوم بعمليات متجانسة ينتقل فيها الفكر عبر ثلاثة مراحل أساسية، أولها مرحلة تمييز المقدمات التي ينطلق منها الفك، ثم مرحلة إعمال المناهج الثلاثة وهي القياس والاستنباط والاستقراء، ثم المرحلة النهائية وهي التوصل إلى النتيجة.

ففي كل دعوى جنائية تعرض على القاضي الجنائي يقوم هذا الأخير بممارسة جزء قل أو كثر من الاستدلال الجدلي، والذي يعمل من خلاله على التمييز بين عناصر الواقعة المادية التي تدخل في تكوين النموذج الإجرامي، وبعدها يقوم بدراسة أدوات الاقتناع التي تؤثر في الوصول إلى النتيجة سواء كانت الأدوات الاقناعية تسهم في إثبات أو نفي الواقعة الجرمية،

وهذه الممارسة تتم من خلال مبدأ تكافؤ وتساند الأدلة الجنائية والسلطة التقدير الممنوحة للقاضي الجنائي في قبولها وتقديرها، مع مراعاة أن تكون كافة عناصر الاستدلال في انسجام وتوافق تام بينها بغاية الوصول إلى الحقيقة.1  وهكذا فالمنهج الاستدلالي وسيلة يعتمدها المنطق القضائي في الوصول إلى الحقيقة الواقعية والموضوعية التي يصبو إليها القاضي الجنائي.

أولا: منهجي الاستدلال القياسي والاستنباطي.

يعتبر القياس جوهر المنطق الصوري وأهم أعمدة المنطق عند الفيلسوف أرسطو، ومؤداه أنه استدلال إذا سلمنا فيه ببعض الأشياء كان لزاما وبالضرورة التسليم بشيء آخر. وللقياس القضائيدورا هاما في المنطق القضائي في شقه المتعلق بالقانون،

إذ له دور كبير في مساعدة قاضي القانون والذي هو قاضي النقض على مراقبة مدى تحديد التكييف القانوني الصحيح للواقعة المثبتة من قبل قاضي الموضوع وكيفية وإبرازه للحالات الواقعية التي يسري عليها القانون.

فالاستدلال القياسي يعتبر استدلالا منطقيا مجردا يعتمد في طياته على طرق رياضية خالصة في التفسير المنطقي للنص القانوني الذي ينطبق على الواقعة، وبهذا فهو منطق قضائي متعلق بالقانون، ولا يمكن استعماله من قبل قاضي الموضوع.

وهو يفيد قضاء النقض في مراقبة مدى سلامة تطبيقالقانون. ويمكن القول أن الاستدلال القياسي في العمل القضائي يعتمد على القاعدة القانونية من حيث النص لا المضمون، ويتجاهل الواقع الاجتماعي والمصالح الاجتماعية التي يحميها القانون، وبهذا فهو استدلال جاف وصارم وجامد لا يعبر عن الواقع الاجتماعي.1

المنهج الاستنباطي.

المنهج الاستنباطي هو انتقال فكري من المعلوم إلى المجهول، وهو منهج للتفكير يعتمد بالأساس على جزء بغاية الوصول إلى الكل، ومعناه الاعتماد على الوقائع الجزئية للوصول إلى النتيجة النهائية، بالاستناد إلى القاعدة التي مفادها أن الصعود من الواقعة إلى القانون يعتبر استقراءا والنزول من العام إلى الخاص يعد استنتاجا.

فالقاضي الجنائي من خلال عمله أثناء النظر في الدعوى الجنائية يكون اقتناعه من الفضيات التي تكونت لديه من فحصة لأدوات الاقتناع التي تجمعت لديه ومدى مشروعيتها3، ويكون استدلاله صحيحا أو خاطئا بتناسب مع الفرضيات التي اقتنع بها.

فالقاضي الجنائي يستند بشكل أساسي على المنهج الإستنباطي في الربط والتأليف بين العناصر الأساسية للدعوى الجنائية، فبالاستناد إلى هذا الاستنباط يقوم القاضي الجنائي بتركيب مختلف العمليات العقلية لوضع صورة متناسقة ومنظمة ومقبولة عقلا ومنطقا تتوضح من خلالها الواقعة النهائية التي تحدد له التكييف القانوني النهائي.

فالفقه الجنائي يعتبر أن الاستدلال القضائي المعتمد على المنهج الاستنباطي يؤدي لا محالة إلى نتائج مؤكدة يتوصل إليها القاضي الجنائي من مقدمات يقينية عب مسلك تستخدم فيه العملية الفكرية بشكل مرن من أجل الوصول إلى نتيجة حتمية.

فالقاضي الجنائي يتوصل إلى نتيجته هذه انطلاقا من مقدمتين كبرى وصغرى، والشرط الحتمي والضروري هو أن يكون الاستنباط مستساغا عقلا ومنطقا وذلك بالاعتماد على وقائع صادقة يتأكد من حقيقتها باستعمال مقاييس منطقية ووسائل عملية2.

وجدير بالذكر أن الاستنباط هو إحدى وسائل القياس المنطقي بغاية التوصل إلى النتيجة النهائية التي تتلخص في التكييف القانوني الصحيح والسليم، وبناءا على هذا فإن تعليل الأحكام وتسبيبها باعتباره ضرورة ملزمة للقاضي الجنائي عند إصداره للحكم الجنائي يتم دائما وفقا للنهج الاستنباطي.

ثانيا: المنهج الاستقرائي.

أما الاستقراء فإنه يفيد الانتقال الفكري من العلم المسبق بعدد من الوقائع المتماثلة إلى العلم بحال جميعها، أي أن الفكر ينتقل من الحكم على بعض أفراد النوع إلى الحكم على النوع ذاته1.  فالاستقاء نوع من الاستدلال الذي ينتقل من المحسوس إلى المعقول،

وهو عملية ذهنية تتحرك بشكل عموي تصاعدي من البناء التحتي إلى البناء الفوقي، أي من المستوى الحسي إلى المستوى العقلي.

وفي الميدان الجنائي فإن المنهج الاستقرائي يعتبر استدلالا يستند إلى الملاحظة والتجربة، وهو منهج علمي يعتمد على عزل واختيار الوقائع المادية الملموسة في الدعوى الجنائية بغرض تصنيف وتحديد الوقائع التي تدخل في النموذج الاجرامي للواقعة الجنائية موضوع الدعوى2.

فالقاضي الجنائي اعتمادا على المنهج الاستقرائي يقوم بعملية استقاء للوقائع المادية المتشابكة والمتداخلة والمتناثرة من أجل تحديد الوقائع والعمليات التي تدخل ضمن المقدمة الكبرى للاستدلال، وذلك بواسطة استعماله لملاحظاته الجزئية للوقائع استنادا إلى الأدلة المعروضة عليه ثم يقوم بتصنيفها بشكل يظهر معه جليا الصفات المشتركة بينها، ثم بعد ذلك يقوم بتحليلها ووضع مقارنة بين مجموع تلك العناصر الواقعية التي تم تحليلها.

وفي هذا الصدد نجد أن محاكم القانون في جميع التشريعات الجنائية ومنها محكمة النقض المغربية تؤكد بشكل دائم ومتواتر على ضرورة استخلاص محاكم الموضوع لعناصر الواقعة كما توطنت في وجدان القاضي بجميع الممكنات العقلية، وذلك بأن القاضي الجنائي يمنع عليه البتة أن ينطلق بالاستدلال على الحقيقة من فضيات معينة، ما لم يبين أسباب اقتناعه بصحة هذه الفرضيات بناءا على أدلة إقناعية صحيحة في قبولها وتقديرها.

وفي هذا السياق نورد بعض القرارات الصادرة عن محكمة النقض المغربية، منها قرارا جاء فيه: " للمجلس الأعلى أن يثير تلقائيا الوسيلة المتعلقة بنقصان التعليل المنزل منزلة انعدامه، لتعلقها بالنظام العام."1 ،

وقرار آخر ورد فيه: " لما كان الأصل أنه يجب لسلامة الحكم أن يبين واقعة الدعوى والأدلة التي استند إليها وبيان مؤداها بيانا كافيا يتضح منه واقع الدعوى، كما اقتنعت به المحكمة، فإن الحكم المطعون فيه إذا لم يورد الوقائع وأدلة الإثبات التي يقوم عليها قضاؤه وتؤدي كل منها في بيانكاف يكشف عن مدى تأييد لواقعة الدعوى فإنه يكون ناقص التعليل."3

وفي نفس المنحى جاء في إحدى قراراتها: " القرار القضائي الصادر بعقوبة زجرية عن جريمة حفر بئر لم يبرز عناصر قيامها هوكاف يكشف عن مدى تأييد لواقعة الدعوى فإنه يكون ناقص التعليل."4 وفي نفس المنحى جاء في إحدى قراراتها: " القرار القضائي الصادر بعقوبة زجرية عن جريمة حفر بئر لم يبرز عناصر قيامها هو

خرق للقانون الموضوعي وهو من موجبات النقض طبقا للبند 4 من الفصل 586 من ق م ج التعليل المشوب بالإبهام والغموض والمبني على العموميات يكون معيبا بالنقصان من التعليل وهو بمثابة انعدام التعليل."1

صفوة القول أن الميدان الجنائي يعرف تعددا للوقائع مع التشابك والتباين والتنافر فيما بينها، الأمر الذي يفرض تحديدا دقيقا للعناصر الأساسية للواقعة المرتكبة بغرض إدخالها في القالب القانوني للجريمة، ولا يتأتى هذا الأمر إلا من خلال فحص دقيق لهذه الوقائع وملاحظتها، وتعتبر هاتين الوسيلتين هما البناء الأساسي للاستدلال الاستقرائي.

المبحث الثاني: استعمال المنطق القضائي لفهم الدعوى الجنائية

إن سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة هي في حقيقة الأمر صلاحية يمنحها القانون للقاضي الجنائي، يمكنه من خلالها القيام بنشاط ذهني عن طريق العقل والفهم، وهذا النشاط هو عملية تقديرية تستند إلى قواعد الاستدلال المنطقي القضائي الذي يتكون من عنصري الواقع والقانون،

فالقاضي الجنائي عند تقليبه للدعوى الجنائية بغرض الفصل فيها يستعمل ذهنيا أشكالا قياسية منطقية قانونية تتكون من مقدمة كبرى وهي القاعدة القانونية النموذجية وتمثل عنصر القانون، ومقدمة صغرى هو تنصب على الواقعة الثابتة في الدعوى الجنائية، وتمثل عنصر الواقع، والنتيجة المتحصل عليها هي حاصل المطابقة المادية المنطقية الناتجة عن تنزيل حكم القانون على الواقع.

فالقاضي الجنائي خلال مرحلة نظره في الدعوى الجنائية يكون ملزما من التحقق من ثبوت عنصر الواقع وفهمه لعنصر القانون، باعتباره غرض العمل القضائي وجوهر الحماية القضائية، حيث أن القاضي الجنائي مفروض عليه سبر أغوار القانون وهضم الواقع وفهمه فهما جيدا بغاية الإفصاح عن المصالح والحقوق الواجب حمايتها، وكل هذا غرضه الوصول إلى النتيجة المنطقية التي تتجلى ساطعة من خلال الاعتماد على قواعد الاستدلال الصحيحة التي تفرضها قواعد استدلال المنطقي القضائي.

المطلب الأول: ضبط الواقع والقانون في الدعوى الجنائية.

إن أقوى وأصعب ما يواجهه القاضي الجنائي خلال نظره في الدعوى الجنائية هو التكييف القانوني الذي يسبغه على هذه الوقائع المتعلقة بها، ذلك أن التكييف يعلب دورا محوريا وجوهريا في تحديد القاعدة القانونية الجنائية المفروضة التطبيق،

فبعد أن يقوم القاضي الجنائي بنشر الدعوى وهضم الوقائع المرتبطة بها وفهمها فهاما دقيقا وواعيا، يدخل في مهمة البحث عن القاعدة القانونيةالجنائية الواجبة التطبيق والتنزيل على هذه النازلة، وبهذا فهو يسبر أغوار الواقعة من أجل إرجاع هذه الوقائع إلى حكم القانون وإدخالها في جبة القانون المنطبق عليها.

الفقرة الأولى: الإحاطة بظروف الواقعة في الدعوى الجنائية.

إن غاية العمل القضائي هو تحقيق العدالة، هذه الأخيرة التي تتجلى من خلال تطبيق قاضي الموضوع للقانون تطبيقا سليما، ومن أجل سلامة هذا التطبيق فإن القاضي الجنائي ملزم بفهم الواقعة الجنائية المرتكبة موضوع الدعوى الجنائية فهما صحيحا واعيا ومدركا ببصيرة بواسطة استخدام ملكاته العقلية والذهنية، والإحاطة إحاطة تامة وشاملة لجميع الظروف المحيطة بها،

وذلك من أجل التوصل إلى النموذج القانوني الواجب التطبيق على هذه الواقعة، فبالفهم يسهل على القاضي الجنائي التنقيب على حكم القانون الواجب التطبيق، ففهم الواقع وإدراكه جيدا وبصفة صحيحة يتم إدراك القانون الصحيح بحكم أن الواقعة الجنائية هي الجوهر الذي تدور حوله قواعد الإثبات الجنائي وقضاء الحكم بغاية التوصل إلى الحقيقة القضائية التي تلامس جوهر الحقيقة الواقعية.1

أ فهم القاضي الجنائي للدعوى الجنائية:

إن اعتماد ملكة الوعي بالاعتماد على القدرة العقلية هي المدخل الأوحد الذي يجعل القاضي الجنائي يفهم الواقعة الجنائية فهما دقيقا وصحيحا عن طريق استخدام الاستدلال القضائي، كما أنها السبيل الراشد الذي يمكنه من الفهم الشامل والمشبع والسائغ لكل الأدلة القائمة في الدعوى الجنائية كونها وسائل إثبات أو نفي لهذه الواقعة، وتفتح بصيرته في تقدير قيمتها بالقبول أو الفض وإيجاد النص القانوني محل التطبيق عليها.

هذا الوعي والإدراك يساعد القاضي الجنائي - باعتباره الموازن بين أطراف الخصومة الجنائية وهما تيار الإدانة الذي تمثله النيابة العامة وتيار البراءة الذي يمثله المتهم- في النظر في طلبات الخصوم ودفوعاتهم الشكلية والجوهرية ومدى تأثيرها في استجلاء الحقيقة.

فالفهم والإدراك الواعي للقاضي الجنائي للدعوى الجنائية لصلب الواقعة الجنائية والظروف المتعلقة بها يكون مقرونا بشرط التدليل على ثبوتها، حيث أن هذا التدليل يجب أن يكون مستخلصا وسائغا ومقبولا عقلا كونه نتاج الأدلة القائمة في الدعوى الجنائية،

بما في ذلك الشروط المتعقلة بتقدير الدليل الجنائي سواء في مشروعية قبوله أو مشروعية الاقتناع به تماشيا مع القوة الإقناعية للدليل التي تفيد تعاضد وتساند الأدلة المقبولة وفق مبادئ العقل والمنطق السليم إضافة إلى وجوب أن تكون هذه الأدلة ثابتة في أوراق الدعوى الجنائية.

فهذه الأخيرة باعتبارها خليطا من الواقع والقانون فإن وعي القاضي الجنائي وفهمه الكامل والسائغ للواقع سيجعله حتما مطبقا للقانون على الواقع بشكل سليم، الأمر الذي سيؤدي بلا ريب إلى النتيجة المتوخاة وهي الوصول إلى الحقيقة القضائية التي تلامس جوهر الحقيقة الواقعية.

وكل إخلال في مسلكيات هذا الضبط عن طريق الخطأ في الفهم أوالإدراك سيؤدي إلى نتائج خاطئة ومنه إلى أحكام تخالف الحقيقة الواقعية، فعلى القاضي الجنائي توخي الحذر لأن كل فهم أو إدراك مغلوط للواقع سوف يؤدي إلى خطأ في القانون والذي يتم كشفه من قبل القابة القضائية سواء في المرحلة الاستئنافية إن كان الحكم ابتدائيا أو عن طريق قاضي النقض.

الإدراك سيؤدي إلى نتائج خاطئة ومنه إلى أحكام تخالف الحقيقة الواقعية، فعلى القاضي الجنائي توخي الحذر لأن كل فهم أو إدراك مغلوط للواقع سوف يؤدي إلى خطأ في القانون والذي يتم كشفه من قبل القابة القضائية سواء في المرحلة الاستئنافية إن كان الحكم ابتدائيا أو عن طريق قاضي النقض.

إن الفقه الجنائي قد حدد مجموعة من الأسباب والبواعث التي تختلط بذهن القاضي الجنائي تؤدي به لا محالة إلى الفهم الخاطئ لحقيقة الواقعة الجنائية ويمكن حصرها في أربع بواعث أساسية وهي:

التأصيل دون التحليل: وذلك أن القاضي الجنائي يخيل إليه أن جميع الوقائع متشابهة ومتماثلة، مع أن الواقعة الجنائية المطروحة أمامه لها خصوصيات ومميزات، فيصدر حكمه دون إدراك أو فهم أو وعي.

- العادات الراسخة بالذهن: كالازدراء أو النفور أو التعالي التي قد تدخل وعي القاضي أثناء النظر في الواقعة الجنائية، حيث أن القاضي الجنائي تتبلور قناعاته الأولية من خارج الوقائع التي أمامه،

منها شكل المتهم أو الشاهد أو الضحية أو لباسهم أو تعبيراتهم أو غيرها، حيث أن ذهن القاضي الجنائي ينصرف إلى معارف سابقة أو مقاسات سابقة مترسخة في ذهنه تنعكس لا شعوريا على الفهم والوعي لديه فتنصرف به إلى مخالفة الحقيقة.

- حلول القاضي الجنائي: أي أن القاضي الجنائي تتحرك لديه مشاعر العاطفة سواء بالرحمة أو القسوة بشكل ذاتي اتجاه المتهم أو الضحية، فتتحرك لديه أمور الفهم والوعي والإدراك انطلاقا من ذلك، فتكون النتيجة خاطئة.

- تأثر القاضي بشخصه: هناك قاعدة ذهبية تفيد أن القاضي لا يقضي بعلمه الشخصي، والتي مفادها أن القاضي الجنائي لا يجب عليه أن يتأثر بعلمه الشخصي أو تجاربه الخاصة ويعكسها كآليات للفهم وجعلها نبراسا يهتدي به اثناء النظر في الدعوى الجنائية، لأن التجارب الشخصية ليست حقيقة يمكن إسقاطها على جميع الوقائع لاختلاف الوضعيات والعوامل المؤثرة في كل تجربة.

إن أدق وأصعب المشكلات التي تطرح أمام القاضي الجنائي خلال مرحلة النظر في الدعوى الجنائية هي التكييف القانوني للوقائع، كون أن بعض الوقائع تخضع لعدة تكييفات قانونية، فالتكييف القانوني له دور بارز في تحديد القاعدة القانونية النموذجية الواجبة التطبيق على الواقعة الجرمية،

فالقاضي الجنائي بعد جمعه للوقائع خلال النظر في الدعوى وفهمها فهما عقليا منطقيا سائغا بشكل واعي يشرع في التنقيب الدقيق على القاعدة القانونية المثلى، فهو بهذه العملية المعقدة والصعبة يرجع الواقعة الجرمية إلى حكم القانون أو إدخالها في إطار محكم تؤطره القاعدة القانونية الواجبة التطبيق.

ب–تحديد مفهوم التكييف القانوني للوقائع.

الأصل أنه لا يوجد تعريفا محددا لمفهوم التكييف القانوني، فقد تعددت التعاريف له بتعدد مجالات القانون1،  وقد عرفه مجموعة من الفقهاء بأنه:  " مواجهة عناصر الدعوى الثابتة مع قاعدة القانون المختارة للبحث "2 ، كما عرفه فريق آخر من الفقهاء ب:" إنزال الوصف القانوني الصحيح على الواقعة على النحو الذي تثبت به في دنيا الواقع"3

وقد اختلفت التعاريف الفقهية حول مفهوم التكييف القانوني منها أنه إعمال القاعدة القانونية وإرساؤها على ما ثبت من وقائع الدعوى، أو هو وصف هذه الوقائع وإبرازها كعناصر أو شروط أو قيود للقاعدة القانونية الواجبة التطبيق عليها،4

فالتكييف القانوني في الميدان الجنائي هو الوصف الذي ينزله المشرع على الواقعة الإجرامية التي يقترفها المجرم، فالتكييف القانوني يفيد منح القاضي الجنائي الوصف القانوني الذي يطابق وقائع انتجتها الدعوى الجنائية بعد تمحيصها وفهمها وعقلها بشكل صحيح ومستساغ عقلا ومنطقا وإثباتها بطرق قررها القانون،

فالتكييف هورابط وثيق بين الواقع والقانون، وأن هذا الربط هو الذي يمنح تلك الوقائع عنوانا  قانونيا يوجد بين ثنايا التشيع الجنائي وجزاء منصوص عليه، الشيء الذي يؤكد أن التكييف هو عصب الحكم القضائي الصادر.5

وحيث أن العنصري الواقع والقانون هما أساس التكييف القانوني، فإن الواقع يتطلب من القاضي الجنائي لإثباته جهدا فكريا وعقليا متسلسلا بشكل منطقي ومستساغ يؤدي إلى شعور وجداني يتكون لدى هذا القاضي، وهذا الواقع لا يخضع لرقابة محكمة النقض،

غير أن عنصر القانون الذي يتطلب كذلك  جهدا فكيا وعقليا مضنيين، حيث  ينصب هذا العناء الفكري للقاضي الجنائي على نص القانون الجنائي بتحديد ألفاظه ومعانيه وغايته وقصده من أجل تحديده بدقة ، ويكون القاضي في هذا العنصر القانوني تحت رقابة محكمة النقض .

من كل هذا يتبين بجلاء أن أهمية التكييف القانوني باعتباره عملا فنيا يتأسس على التفكير المنطقي السليم من أجل ضمان سلامة الحكم الجنائي.

الفقرة الثانية: الاستناد للاستدلال في التكييف القانوني للواقع

إن القاضي الجنائي هو المختص والمكلف وحده بالتكييف القانوني،  وذلك لفهم القاعدة القانونية الجنائية من أجل تنزيلها على الوقائع الثابتة لديه في النازلة، وقد اتفق جل فقهاء القانون على أن تقدي القاضي الجنائي للواقعة وفهمه لتحقيقها يسبق نشاطه الذهني في تحديد التكييف القانوني الصحيح لها.

والتكييف القانوني للواقعة الجرمية يمر بعدة محطات ترتبط اللاحقة منها بالسابقة.

أ –مراحل التكييف القانوني.

في البداية  يدخل القاضي الجنائي في دائرة فهم القاعدة القانونية في شقها المتعلق بمجموع العناصر التي صاغها المشرع في نموذج قاعدة قانونية أو في فهم الأثر أو الجزاء المترتب عليها،1 ويسهل على القاضي الجنائي خلال هذه المرحلة تحديد المفهوم المجرد الذي يؤطر الواقعة الإجرامية تحديدا واضحا من قبل المشرع، كما يتم التنقيب داخل الواقعة دون أن يتم إعطائها وصفا قانونيا مدققا، حيث يبقى في محاولة التقريب بين الواقع والقانون.

بعدها يقوم القاضي الجنائي بالفهم السليم للقاعدة القانونية بغرض تحديد مكوناتها ومدى مطابقتها على وقائع الدعوى الجنائية، حيث يصبح في عملية غربلة للقاعدة القانونية، من أجل المطابقة بين وقائع الدعوى الجنائية والقاعدة القانونية المثلى التي تنطبق عليها،

بغرض تحديد الوصف القانوني للنازلة. وفي الأخير يقوم القاضي الجنائي بتحديد دقيق للوصف القانوني للدعوى الجنائية وذلك بإعطائها القاعدة النموذجية، ومنه يصبح للواقعة الإجرامية وصفا قانونيا.

والوصف القانوني يفيد إدخال الواقعة الإجرامية إلى قالب القاعدة القانونية المنصوص عليها في التشريع والواجبة التطبيق، من أجل أن يتم إعطاء هذه الواقعة التي اعتبرها الحكم ثابتة وصفا قانونيا صحيحا. فالقاضي يستعمل أدوات منطقية يقبلها العقل من أجل تحديد وصفا قانونيا للوقائع الجرمية،

رغم التداخل الكبير بين التكييف القانوني والوصف القانوني، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ بيرلمان: " إن التكييف القانوني لوقائع الدعوى واستنباط الحكم القانوني على هذه الوقائع يتطلب نوعا من التقدير الإنساني أي بالعقل والإرادة، أي القدرة على الاختيار، واتخاذ القرار، ليس كالماكينة التي تعمل نتيجة رد فعل أو طريق محددة تستند إلى المصادفة، فهنا ليس لديها القدرة على الحكم".2

ب - تأسيس التكييف القانوني على الاستدلال.

يعتمد القاضي الجنائي على ملكاته الذهنية المقرونة بجهد قوي من أجل استخلاص الخصائص القانونية من الوقائع ومطابقتها مع الأركان والعناصر القانونية للجريمة المكونة لهذه الوقائع الجنائية، وكل هذا بغرض تكييف هذه الوقائع وإخضاعها لحكم القانون.3وهذه العملية معروفة لدى الفقه الجنائي بالمطابقة،

هذه المطابقة باعتبارها عمل إجرائي يقوم به القاضي الجنائي  وتهدف الى ضمان سلامة الحكم الجنائي، فإذا كان الفكر الجنائي الحديث اتجه إلى تأسيس نشاط القاضي الجنائي أثناء قيامه بوظيفته القضائية على أسس الاستدلال المنطقي، فإن عملية المطابقة التي يقوم بها القاضي الجنائي يجب أن تخضع للفعل المنطقي.

وفي هذا الصدد فقد عبرت محكمة النقض المغربية على هذا الأمر بكون عمل القاضي الجنائي يجب أن يكون سائغا ومقبولا، حيث جاء في إحدى قراراتها: " إذا كانت محكمة الموضوع في المادة الجنائية حرة

في تكوين قناعتها من جميع وسائل الإثبات المتاحة لها قانونا بما فيها القرينة القضائية ... فإن هذه القرائن ينبغي أن تكون قوية وخالية من اللبس ومستنبطة من وقائع ثابتة ومعلومة بيقين ومنتجة في الدعوى ولا تتعلق بالغير."1

وفي قرار آخر لنفس المحكمة جاء فيه " يجب أن يكون كل حكم معللا من الناحيتين الواقعية والقانونية وإلا كان باطلا وأنه إذا كان من حق قضاة الموضوع أن يكونوا قناعتهم من جميع الأدلة المعروضة عليه فيجب أن تؤدي تلك الأدلة منطقا وعقلا إلى النتيجة التي انتهوا إليها، غير أن العلل التي بررت بها المحكمة الإدانة من أجل هتك عرض قاصرة والتي جاء فيها أن إنكار المتهم تكذبه الشهادة الطبية وظروف القضية تفيد أن الضحية كانت عنده بالدكان المعد للخياطة لا تؤدي منطقا وعقلا إلى النتيجة التي انتهت إليها. ونظرا لهذه الوسيلة المثارة تلقائيا قرر المجلس نقض القرار المطعون فيه."

فالقاضي الجنائي عند القيام بإجراءات عملية التكييف القانوني للوقائع الجرمية في الدعوى الجنائية، فإنه يقوم بالبحث عن جوهر الوقائع قانونيا ضمن النصوص الجنائية المجرمة للفعل تمهيدا لعملية المطابقة بينهما3.

وذلك ببذل جهد ذهني للاستدلال على الوقائع حتى تثبت في ذهن القاضي الجنائي بالاعتماد على الأدلة الجنائية الموجودة والثابتة في أوراق الدعوى الجنائية ومطابقتها مع النص الجنائي الذي تم اختياره باستعمال عملية القياس المنطقي القضائي وفق قاعدة مقدمة كبرى وهي النص الجنائي النموذجي والمقدمة الصغرى التي تفيد الواقعة الجرمية الثابتة من أوراق الدعوى الجنائية،

كل هذا من أجل الوصول في النهاية بالاستناد إلى عملية تطابق بين المقدمتين الكبرى والصغرى إلى إفراغ هذه الحمولة الاستدلالية في وعاء تكييف قانوني يشكل تعبيرا صادقا وجازما عن حقيقة الواقعة الجنائية، ويرفعها من إطار الواقع الغير المحدد إلى إطار الواقع المجسد في صورة الجريمة المنصوص عليها قانونا ترسيخا لمبدأ الشرعية الجنائية الموضوعية4.

ويمكن القول أن القياس القضائي هو السند الذي من خلاله تنتقل القواعد القانونية من المرحلة الأولية إلى القاعدة القانونية الواجبة التطبيق.

والتكييف القانوني يعتبر عملا فنيا بامتياز بحكم أن القاضي الجنائي يعطي وصفا قانونيا للجريمة يكون شاملا لمجموع العناصر المادية والقانونية للواقعة الإجرامية وجميع الظروف الموضوعية المحيطة بها،

وكل حكم يصدره القاضي الجنائي ولم يبين فيه بوضوح عناصر التكييف يعتب مشوبا بالقصور في الأسباب ويعرض من قبل قضاء القانون للنقض. وفي هذا المضمار فإن محكمة النقض المغربية قد أبطلت مجموعة من الأحكام والقرارات الجنائية لسبب عدم التبيان الكافي للعناصر القانونية أو المادية، نورد منها هذه القرارات على سبيل المثال،

حيث جاء في إحدى قراراتها أنه " يتعين أن يكون معللا من الناحيتين الواقعية والقانونية وإلا كان باطلا وأن نقصان التعليل يعادل انعدام التعليل. يتعرض للنقض الحكم الذي عاقب المتهمة من أجل إهمال الأسرة ولم يذكر الوقائع

المادية المكونة لهذه الجريمة وظروفها."1وفي قرار آخر جاء فيه " لئن كان من حق قضاة الموضوع تقدير الوقائع من حيث وجودها أو عدمها فإن من حق المجلس معرفة هذه الوقائع لمراقبة صحة التكييف القانوني المطبق عليها. من واجب المحكمة متى قضت بالإدانة أن تعنى ببيان الواقعة المعاقب عليها بيانا مفصلا. لما كانت المحكمة لم تبين العبارات الغير اللائقة التي تكون العنصر المادي لجريمة إهانة موظف ... فإن حكمها يكون ناقص التعليل ومستوجبا للنقض."

وفي إحدى قراراتها "إن القرار الذي لا يتعرض ولو بإيجاز لكيفية وقوع الأحداث وتاريخها ومصدر الاستنتاجات التي انتهت بها محكمة الاستئناف إلى إصدار الحكم، مع النص القانوني الذي طبقته، يكون منعدم الأساس والتعليل، وبالتالي معرض للنقض والإبطال."

المطلب الثاني: استيعاب القاضي للوقائع والفصل في الدعوى الجنائية.

إن دور القاضي الجنائي في الدعوى الجنائية لا يقتصر عند فهمه للقانون وحده، فهذا عمل مسلم به لدى الجميع لأنه لا يعذر أحد بجهله للقانون، باعتباره مبدأ افتراضي بالعلم بالنص والقاعدة القانونية،

فالأصل في القاضي الجنائي أنه متخصص وهذا التخصص يفرضه عليه النفوذ والعمق في فهم القانون للكشف عن الحقوق والمصالح التي يحميها هذا القانون باعتبار هذا الأخير هو الغاية والهدف الأمثل من وضعه. وحتى عند الوقوف على مشاكل وصعوبات قد تطرح بمناسبة استخلاص عناصر الواقعة الجنائية من النص القانوني فإن القاضي الجنائي ملزم بتفسي النص الجنائي وإن كان بشكل ضيق.

ولعل الغرض من هذه الصلاحيات الممنوحة للقاضي الجنائي هو الوصول إلى مرحلة الفصل في الدعوى الجنائية بعد دراسة أوراق الدعوى الجنائية دراسة دقيقة بشكل منطقي وعقلاني وفق منهج منظم وذلك بغية تحديد وإنجاز كل ما يتعلق بتحضير الدعوى الجنائية من أجل الفصل فيها، ليصل إلى استخراج النتائج المنطقية وفق التفكير العقلي المبني على الحجج والبراهين.

الفقرة الأولى: استيعاب الواقع.

إذا كان القاضي الجنائي باعتباره متخصص في فهم القانون أن ينفذ عمق النص الجنائي ويلامس جوهر قواعده من أجل حماية الحقوق والحريات ومصالح أطراف الدعوى الجنائية تحقيقا لسلامة تطبيق وإنفاذ القانون، فإن القاضي الجنائي خلال مرحلة التوصل لعناصر الواقعة الجنائية مع القاعدة الجنائية تعترضه مشكلات وغموض في عدم وضوح النصوص الجنائية فيقوم باستعمال إمكانية أتاحها المشرع له وهي تفسير النص الجنائي.

والقاضي الجنائي ملزم بالغوص في جوهر معاني وألفاظ النصوص الجنائية القانونية من أجل إدراك معانيها وتحديد دلالاتها قبل تطبيقها، لأن المعلوم بالضرورة في القواعد والنصوص الجنائيةأن هناك

أحكام عامة واجبة التطبيق على جميع نصوص القانون الجنائي، وهناك أحكام أخرى يقتصر تطبيقها على بعض النصوص دون البعض الآخر، وهذه العملية التي يقوم بها القاضي الجنائي خلال النظر في الدعوى الجنائية يطلق عليها بعملية التفسير للنص الجنائي1.

أولا: تعريف التفسير.

رغم اختلاف وتعدد التعاريف الخاصة بالتفسير إلا أن مجملها توافق حول الغاية من التفسير، وهو تحديد نية وقصد المشرع من وضع النص القانوني، حيث أن بعض الفقهاء أنكرو هذه العملية على القاضي الجنائي ودعوا إلى إسنادها للسلطة التشريعية حتى لا يصبح القضاة مشرعين.2

فالفقه القانوني أورد مجموعة من التعاريف منها " التفسير القانوني هو توجيه القصد أو النية لاكتشاف الحل للوقائع النوعية المعطاة للحادثة بمساعدة القوانين المكتوبة الواجبة التطبيق"3

ومنه أيضا " التفسير هو توضيح ما أبهم من ألفاظ وبيان ما غمض منها"4 ويمكن القول أن هذا التعريف الأخير اقتصر على التشريع فقط في حين أن هناك اتجاه فقهي ذهب إلى أن التفسير يتجاوز التشريع ويمتد إلى جميع مصادر القانون سواء المكتوب منها أو الغير المكتوب،

وهناك تعريف آخر يفيد أن التفسير هو نقل القاعدة القانونية من نطاق التجريد إلى مجال التطبيق العملي5. ومن خلال ما سبق يمكن القول في تعريف التفسير أنه العملية التي تهدف إلى تحديد معنى النص من خلال الألفاظ والمعاني للوقوف على إرادة ونية المشرع من وضعه للقاعدة القانونية بغرض جعلها صالحة للتطبيق على الوقائع.

ومن أجل أن يصل القاضي الجنائي إلى غايته وجب عليه التعرف على جميع التفاسير الفقهية ومدراسها وأسلوبها وذلك بغرض الوصول إلى معرفة يقينة من خلال ضبط الرموز والألفاظ والمعاني ضمن إطار وحدود معينة ووفق مبادئ مؤطرة حتى لا تنصرف أهواء القاضي الجنائي إلى سيطرة كاملة على النصوص القانونية وبهذا يخرج عن المعنى العام للنص أو يعطيه حمولة ومدلولا آخر غير الذي يبتغيه النص وهو أم مرفوض.

وفي الفقه التشريعي فإن التفسير أمر مضبوط وغير متروك لحرية القاضي الجنائي، لأنه في جميع الأحوال يجب أن يكون التفسير مطابقا تطابقا كاملا لنية وإرادة المشرع.

ثانيا– أنواع التفاسير.

إن المصدر هو مناط التفرقة بين التفاسير وذلك وفق أسلوب معين من ناحية اللغة والمنطق، وهذا المناط يشمل كذلك النتائج والمدى من تفسير ضيق أو واسع إضافة إلى معيار اللجوء إلى القياس من عدمه.

أ-  من حيث المصدر:

فالتفسير من حيث المصدر ينقسم إلى تشريعي وفقهي وقضائي، فالتفسير التشريعي هو صادر عن السلطة التشريعية التي أصدرت القانون، وما يميز هذا النوع من التفاسير أو ما يعف بالقانون التفسيري هو أنه يسري بأثر رجعي خلافا للقاعدة العامة في سريان النصوص القانونية من حيث الزمان وهو مبدأ الأثر الفوري.

فالفورية تجد أصلها هنا في كون القوانين التفسيرية تهدف فقط إلى رفع اللبس والغموض على القوانين السارية المفعول، وأن المشرع يهدف من خلالها إلى تبيان حقيقتها وقصده من تشريع سابق لوجود غموض أو تلافي عيب في صياغته أو ما حصل له من انحراف عن كنه أثناء تطبيقه من لدن المحاكم التي لم تستنير إلى المقصود من هذا التشريع1. وبهذا فإن القانون التفسيري لا يعتبر في حد ذاته قانونا غير أن القاضي الجنائي ملزم قانونا بتطبيقه ويعتبر قانونا بالنسبة له.

التفسير الفقهي هو الذي يصد عن شاح القانون والفقهاء من خلال مؤلفاتهم القانونية وكذا مقالاتهم العلمية ومحاضراتهم التي يلقونها، وهدف هذا التفسير الفقهي هو توجيه النص إلى تحقيق غايته الاجتماعية كجزء من التنظيم القانوني2.

ويعتبر هذا النوع من التفاسير ذو طبيعية علمية محضة، وغير ملزم للقاضي الجنائي كونه بعيد عن الجانب العملي، فهو فقط يساهم في مساعدة القاضي الجنائي في فهم معاني النصوص خلال مرحلة النظر في الدعاوى الجنائية، كما أن التفسير الفقهي يساهم في استكمال النصوص وإعادة صياغتها من قبل المشرع.

وأما التفسير القضائي فهو العمل التفسيري الذي يقوم به قضاة المحاكم على اختلاف درجاتهم، ويبقى التفسير القضائي الذي قامت به إحدى المحاكم غير ملزم لمحكمة أخرى في قضايا أخرى،

ويمكن القول أن التفسير القضائي هو واقع حال إدارة القاضي الجنائي للعملية القضائية ويقوم به أثناء تطبيقه للنصوص الجنائية على الوقائع الجرمية المعروضة أمامه، والتفسير القضائي يتوصل من خلاله القاضي الجنائي إلى نتائج مباشرة من خلال إدراكه وفهمه للقاعدة الجنائية الواجبة التطبيق على الوقائع الجرمية المعروضة أمامه.

ب-  من حيث الأسلوب:

الأسلوب اللغوي نوع من التفسير مؤداه الاعتماد على ألفاظ وعبارات النص التي يتشكل منها النص القانوني، وغايته هو البحث عن مدلول هذه العبارات بدلالة كل لفظ لوحده وبعدها الدلالة الاجمالية لكل ألفاظ النص،

والمدرسة التقليدية هي الرائدة في المناداة بهذا النوع من التفسير حيث أنها تجعل من النص القانوني مقدسا لا يمكن بأي حال الخروج عن التفسير الحرفي للنص، وهذا الاتجاه في التفسير أطلق على مدرسة الشرح على المتون التي تستند إلى الكشف على إرادة المشرع من خلال ألفاظ النص ومفرداته مع الاستعانة بقواعد اللغة والمنطق،

ويعتبر أهم الفقهاء المؤيدين والمناصرين لهذه المدرسة هما الفيلسوفان مونتيسكيووبيكاريا. ومن خلال هذه المدرسة جاء مبدأ عدم التوسع في تفسير النص انسجاما مع مبدأ شرعية التجريم والعقاب

ويعتبر التفسير بالاعتماد على الأسلوب المنطقي هو تجاوز القاضي الجنائي للألفاظ والمباني إلى المقاصد والمعاني تحقيقا لغاية العدل وفقا للنظام الاجتماعي والاقتصادي السائد،

ووفقا لهذا الاسلوب المنطقي فإن القاضي الجنائي يفسر القانون ويطبقه إلتزاما بالضرورات الاجتماعية ولا يتقيد في منهجه هذا بأي قيد كان1.

وهذا النوع من التفسير تبنته المدرسة البلجيكية من خلال أعمال المركز الوطني للبحوث المنطقية وذلك بإدخال علم المنطق إلى القانون بدافع من الأستاذ بيرلمان الذي أكد على أن المصالح الاجتماعية المحمية هي السند الذي يرتكن إليه القاضي الجنائي لتفسير القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على الوقائع الجرمية محل الدعوى الجنائية.

والأسلوب المنطقي في التفسير هو الذي يدخل ضمن جوهر البحث في النصوص الجنائية الإجرائية، ذلك أن القاضي الجنائي عند تقليبه لأوراق الدعوى الجنائية المطروحة أمامه يوازن بين حق المجتمع وحق الفرد في الحرية، وهذا الأسلوب في التفسير يكون غالبا في صالح المتهم وهذا هو ما تصبو إليه الشرعية الإجرائية التي تهدف إلى حماية حقوق الإنسان.

ج- من حيث المدى والنتائج:

والتفسير من حيث المدى النتائج فهو تفسير يكشف عن حقيقة قصد وغاية المشرع من خلال ألفاظ النص القانوني التي تحتوي وتتضمن إرادته كي يتكون صالحة للتطبيق على الواقعة الجرمية

وهذا النوع من التفسير المرتكز على المدى والنتائج يبحث فيه القاضي الجنائي عن قصد وغاية المشرع ولا يحل مكانه في التجريم والعقاب وبهذا فهو لا يمس بأي حال الحقوق والحريات.

كما أن هذا التفسير المؤسس على المدى والنتائج فهو يتقيد وجوبا بالتفسير الضيق للنص الجنائي ضمن قواعد تفسير النصوص الجنائية، أما إذا تعلق الأمر بمصلحة المتهم فلا ضير في التوسع في تفسير النص الجنائي وكذا مدى اللجوء إلى القياس في تفسير النصوص القانونية وكذا النصوص الجنائية الإجرائية2.

فوجوب التفسير الضيق للنص الجنائي في حالة نصوص التجريم والعقاب فإنه مبني على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي له سلطة كبيرة في تضييق سلطات القاضي الجنائي التحكمية في النص

حيث أنه استنادا إلى هذا المبدأ يمنع على القضاة خلق جرائم غير منصوص عليها في القانون. فتوسع القاضي الجنائي في التفسير يهدم هذا المبدأ من أساسه ويؤدي إلى توسع دائرة نطاق النص الجنائي فيشمل أفعالا لم يقم بتجريمها المشرع ولم يقرر لها عقابا.

ويمكن القول أن تطبيق هذا النوع من التفسير سيفرض قيودا على القاضي الجنائي ويمنعه من استخدام نشاطه الذهني حيال تفسير النص الجنائي، وأن إلزامه بالتفسير الضيق للنص الجنائي سيجعل القانون عاجزا عن مواجهة الظروف المعقدة والمتجددة التي تظهرها نوازل الحال، هذا الأمر سيجعل القاضي الجنائي لا محالة عاجزا عن توفير الحماية للمجتمع في ظل الظروف التي تظهر ويعجز عن مجابهتها3.

وأما التفسير الواسع الذي يكون لفائدة مصلحة المتهم فإنه لا يثير أي إشكالية أو صعوبة اتجاه النص الجنائي الإجرائي، باعتبار أن غاية هذه النصوص يهدف إلى ضمان حسن سير العدالة باستثناء ما يمس منه حقوق المواطنين وحرياتهم

وبخصوص التجريم والعقاب الوارد في القانون الجنائي فإن هناك اتجاه فقهي يرى أن أنه إذا كان النص الجنائي غامض بدرجة كبية ويستحيل معه على المفسر فهم قصد المشرع الجنائي فإن الميل في التفسير لهذا النص الجنائي يكون في الاتجاه الذي يميل إلى مصلحة المتهم وسند هذا الرأي الفقهي هو أن المبدأ الأصيل يقضي بأن الشك يفسر لصالح المتهم.

وما يمكن ملاحظته أن هذا المبدأ ليس مجاله التفسير بل ينحصر مجاله في نظرية الإثبات وتقدير الأدلة من قبل القاضي الجنائي، فإذا ما تعادلت أدلة الإدانة مع أدلة البراءة، فإن القاضي الجنائي يرجح أدلة البراءة لأن الإدانة تقتضي شط اليقين وأي شك يساور أدلة الإدانة فإنه يرجع إلى الأصل الذي هو براءة الإنسان.

وأما فيما يخص مسألة اللجوء إلى القياس فإنها تتماشى خلال عملية التفسير مع أسلوب التفسير الواسع إذا تعلق الأمر بمجال التجريم والعقاب لوجود عملية تعارض الأمر مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. والفقه الجنائي التقليدي اتجه إلى أن عملية القياس في مجال التجريم والعقاب فيه ضرر وخرق لمبدأ الشرعية الجنائية ويهدر الحريات الفردية

وقد سمح هذا الاتجاه الفقهي بالقياس إذا كان في مصلحة المتهم فقط وكان النص الجنائي شديد الإبهام والغموض أو تماشيا مع أسباب التبرير والإباحة وموانع المسؤولية الجنائية.

ويمكن القول أن القياس يختلف اختلافا جذريا عن التفسير الواسع، فإذا كان القياس يبحث في مضمون ونطاق حالة معينة ومعزولة لم يرد عليها نص جنائي ويستشف الأمر من معنى نص جنائي آخر، فإن التفسير الواسع للنص الجنائي يبحث مضمون ونطاق نص جنائي معين على ضوء قصد المشرع

هذا الأمر الذي يتعلق بالقياس فإنه يخص القواعد الجنائية الموضوعية، أما فيما يخص القواعد الجنائية الإجرائية فإن الأصل أنها وضعت من أجل حماية وضمان الحرية الفردية، لذلك يجوز القياس إذا كانت في صالح المتهم استنادا إلى أن الأصل هو البراءة، أما القواعد الإجرائية الماسة بالحرية فإنه لا يجوز القياس عليها البتة.

الفقرة الثانية: سلطة القاضي الجنائي في التفسير والفصل في الدعوى.

فمن كل ما سبق أن تم التطرق إليه في موضوع التفسير، فإن التفسير المتفق عليه هو أنه تلك العملية الذهنية والعقلية التي تؤطرها قوانين ومقتضيات المنطق القضائي باستعمال أدواته الاستقرائية والاستنباطية والاستنتاجية بغاية تطبيقها على الوقائع الجرمية، ذلك أن عملية التفسير تؤدي إلى إزالة اللبس والغموض الذي تتضمنه القاعدة القانونية من أجل التوضيح كشف غايتها4.

والتفسير بصفة عامة يهدف إلى الغوص في القاعدة القانونية من أجل إيجاد نية وغرض المشع وقت وضعه للقانون، ويتغير التفسير الفكري والعقلي مع المتغيرات التي تطرأ بعد نشر هذا القانون ونفاذه5. والفقه الحديث لم يعد يلقي بالا لمسألة التفسير الضيق أو الواسع للنص، حيث أن أغلب الفقهاء فضها، ويحث الفقه على أن يكون غاية المفسر هو الكشف عن القصد الحقيقي للمشرع،

فإذا ظهر له أنه مقتنع بأن ما يقول يطابق ذلك القصد فلا أهمية بعد ذلك لمسألة التفسير سواء كان ضيقا أو واسعا، والفقهاء يعتبون أن المنهج السليم للتفسير هو تحديد إرادة المشرع من خلال الصيغة التي عبر فيها عن إرادته6 وهذا الأمر محل تقدير جميع الأنظمة القضائية، حيث أن القضاء عندما يعطي تفسيرا قانونيا محددا، فلا بد من تأييد هذا التفسير كضمان للثقة والاستقرار للعلاقات القانونية والقضائية.

أولا: القاضي الجنائي وسلطته في التفسير.

إذا كان الأصل أن القاضي الجنائي مطالب دائما بتطبيق القانون وأن لا يخل بالنص الجنائي وأن لا يتحايل على تفسيره تفسيرا يبعد عن جوهره وعن حقيقته، وأن لا يضع هذا النص في غير ما وضع له وهو ما يعرف فقها وقضاء بقاعدة عدم القضاء بالعلم الشخصي،

فإن الواقع القضائي يؤكد خصوصا في قضاء الموضوع أن القاضي الجنائي يميل بطبعه إلى العمل وفق إرادته وينفرد برأيه ولا يتقيد بالعمل الراتب1ويمكن القول أن مبدأ الشرعية الجنائية قيد هذه السلطة من خلال مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات وأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص،

وأن التفسير يكون في حدوده الضيقة حتى لا يتم خلق جرائم جديدة، وأن التفسير يتوسع فقط إذا كان في مصلحة المتهم، حيث أن التفسير الذي يضمن الحقوق والحيات الفردية للمتهم يتوسع فيها التفسير والتي تمس أو تقيد هذه الحرية يكون التفسير فيها ضيقا.

وعليه فإن القاضي الجنائي ملزم عند تفسيره للنص الجنائي أن يراعي التفسير المتطور للقانون ضمن المتغيرات الحاصلة في المجتمع مادام أن القانون في حد ذاته وضع لغاية اجتماعية وجوهر قواعده دائمة التغير وفق جدلية الزمان والمكان،

وعليه فإن القاضي مطالب بمراعاة الحكمة من القانون عند تطبيقه وذلك بربط القانون بالواقع الحي للمجتمع2. وخلال هذه العملية فالقاضي الجنائي عليه إعمال قواعد الاستدلال القضائي بكيفية سليمة لتفسير القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على الواقعة الجرمية موضوع الدعوى الجنائية.

فإذا كان النص الجنائي واضحا فإن القاضي الجنائي لا يبدل أي مجهود كي يصل إلى تطبيقه على الواقعة الجرمية محل الدعوى الجنائية، والوضوح يكون لفظا ومعنى وعلى القاضي الجنائي أن يتقيد بالمعنى الظاهر الثابت في النص الجنائي استنادا إلى قاعدة لا اجتهاد مع وجود النص،

والعبرة في وقت التفسير تكون وقت نفاذ القانون وليس وقت إصداره، ذلك أن بين صدور القانون وتطبيقه تطأ تغييرات وتعديلات على الحياة الاجتماعية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.3

أما إذا كان النص الجنائي غامضا وملتبسا ففي هذه الحالة فإن القاضي الجنائي يبذل جهدا في التفسير بغاية التوصل إلى دلالة الألفاظ والمعاني والغوص في جوهر القاعدة القانونية من أجل الوصول إلى غاية هدف المشرع وإرادته الكامنة في لب النص الجنائي وتحديد الغرض من سن هذا النص وكشف طبيعة المصالح المحمية التي وجد من أجلها،

ولغاية الوصول إلى هذا الأمر فإن القاضي الجنائي ملزم أثناء التفسير بمراعاة تراكيب الألفاظ وتحديد معانيها في مجملها أو في كليتها وليس كل لفظ على حدة حتى لا يضيع  المعنى، مع الإحاطة التامة بدلالات النص بمختلف ألفاظه،

لأن الدلالة تكشف عن المعنى المقصود من النص والتي يتم التوصل إليها عبر طريق الاستنتاج من مدلول العبارات4. إن الاستناد إلى الألفاظ والمعاني من لدن القاضي الجنائي لا يعني التفسير الحرفي،

بل يعتمد بالأساس على التفسير المنطقي الذي له دور هام في إزالة غموض ولبس النص، كون العمل المنطقي هو عملية ذهنية وعقلية يستعمل فيها القاضي الجنائي كل ملكاته العقلية لفهم وإدراك دلالات النص وألفاظه بغرض تنزيلها على الوقاعة الجرمية محل الدعوى الجنائية وغاية كل ذلك أن تكون النتيجة متطابقة مع أصل الاستدلال الصحيح.

ومن أجل التوصل إلى التفسير المنطقي الذي يطابق إرادة المشرع فإن القاضي الجنائي يستعين بالمصلحة المحمية للوصول إلى تفسي ينفذ إلى جوهر النص، ب

حيث أن جميع النصوص الجنائية التجريمية هي في أصلها سلوكات جرمها المشرع بغرض حماية حقوق ومصالح معينة سواء كانت هذه المصالح عامة أو خاصة أو تهم الأفراد أو المجتمع، فإذا اعترض الغموض واللبس نصا جنائيا

فإن القاضي الجنائي ملزم ببذل جهد عقلي بشكل منطقي ومنظم بغرض الوصول إلى هدف وغاية المشرعمن تجريم ذلك السلوك، وبهذا فإن القاضي الجنائي يبحث عن المصلحة المحمية من خلال النص، وتوصله إلى هذه المصلحة يسهل عليه التفسير لتطبيق النص على الواقعة الجرمية محل الدعوى الجنائية.

كذلك فإن القاضي الجنائي في سبيل تفسيره للنص الجنائي فإنه يستند إلى الأعمال التحضرية للقوانين، فمن أجل إزالة الغموض واللبس فإنه يلجأ إلى أصل نشأة النص كيفية ميلاده أول الأمر وذلك بالرجوع إلى الأعمال التحضيرية التي تمخض عنها ولادة هذا النص1.

فهذه الأعمال التحضيرية للنصوص القانونية لها دور فعال في تحديد هدف المشرع من وضع هذا النص، وأن هذه الأعمال تكون مجموع المناقشات والتعليقات والآراء إلى أن نصعت وتولدت في قالب نص قانوني. فتفسي القواعد الجنائية عمل ذهني وعقلي مؤسس على المنطق يتم من خلال جهد فكري يقوم به القاضي الجنائي في سبيل البحث عن إرادة المشرع سواء بالاعتماد على التفسير اللفظي أو المنطقي أو التفسير الضيق منه أو التفسير الواسع أو باللجوء إلى القياس من عدمه،

فالمهم المفروض على القاضي الجنائي هو التدقيق والالتزام بالمبادئ العامة التي تؤطر النص الجنائي وخصوصيته وهي مبدأ الشرعية الجنائية وقرينة البراءة، وكل هذا من أجل التوصل إلى الغاية المثلى وهي تطبيق القانون على الواقعة الجرمية محل الدعوى الجنائية وفق اقتناعه الصميم.

ثانيا: الحكم في الدعوى الجنائية.

عندما يصل القاضي الجنائي إلى مرحلة الحكم في الدعوى الجنائية فإنه بذلك يكون قد وصل إلى المرحلة النهائية التي وصل إليها عبر المرور من مراحل عديدة، حيث أنه خلال هذه المراحل قام بدراسة دقيقة لأوراق الدعوى واتبع منهجا علميا دقيقا، وأحاط بكل ما يتعلق بتهيئة الدعوى الجنائية بغرض الفصل فيها،

وأنه في مرحلته الأخيرة لم يتبقى له إلا استخراج النتائج منها عب تفكير عقلاني منطقي بهدف إقامة الحجة أو الحجج. فالقاضي الجنائي تتشكل لديه عقيدة بداية الاقتناع الشخصي منذ اللحظة التي يضع فيها يديه على الوقائع الجرمية،

ثم يلج مرحلة الكشف عن محتوى اليقين القضائي الذي توصل إليه من خلال الأدلة القائمة في الدعوى الجنائية، ثم بعدها يدخل مرحلة بناء الحكم الجنائي منطقيا ولغويا وهي مرحلة تعرف بإقامة الحجج استنادا إلى الاستدلال القضائي.

فالحكم الجنائي ما هو إلا بناء منطقي ولغوي لأن المنطق هو الذي يوجه العقل نحو التنقيب عن الحقيقة، والمنطق علم هدفه صياغة الأفكار بشكل منظم ومتناسق بناءا على الخبرة والمعرفة، وهذا هو فن صياغة الحكم الجنائي2،

وبهذا فإن القاضي الجنائي يفصل في الدعوى الجنائية عن طريق إصدار الحكم فيها سواء بالإدانة أو البراءة، وهذا الحكم هو نتاج نهائي لإجراءات الدعوى الجنائية والوصول إلى الحقيقة المنشودة. فالنتيجة النهائية التي توصل إليها القاضي الجنائي من خلال المراحل

العديدة التي مرت منها الدعوى الجنائية  باستخدام نشاطه العقلي والذهني الذي بذل من خلاله جهدا فكريا عميقا وبشكل منظم من أجل التوصل إلى النتيجة المرجوة والتي تتوافق وتتماشى مع مقتضى العقل والمنطق الراجح والسليم.

أ‌-      بناء الحكم الجنائي.

إن النشاط الذهني والعقلي الذي يقوم به القاضي الجنائي استنادا إلى قواعد المنطق القضائي يجد أسسه في المبادئ الكبرى للاستدلال المنطقي، وبناءا على ذلك فإن الحكم الجنائي هو مقياس منطقي ينبني على مقدمتين أولهما هي القاعدة القانونية الواجبة التطبيق باعتبارها مقدمة كبرى والواقعة الجرمية المرتكبة باعتبارها مقدمة صغرى ثم النتيجة المتوصل إليها وهي الحكم الجنائي باعتباره الناتج عن استنباط العلاقة بين المقدمتين واستخراج النتائج

فالدعوى الجنائية هي تحصيل لمجموعة من الإجراءات القانونية التي تجمع جميع مكونات العملية القضائية التي يؤسس عليها القاضي الجنائي اقتناعه، ويعتمد في ذلك على وسائل قانونية ومنطقية تساعده على بناء إدراكه وفهمه للوقائع فهما سليما مع فهمه للقانون كذلك، ويستند في نشاطه العقلي والذهني على أدوات ووسائل تعرف في لغة الفقه القانوني بأدوات الصياغة القانونية1 والتي يعتبر أساسها ومصدرها هي القاعدة القانونية باعتبارها الأساس الأوحد الذي يستند إليه القاضي الجنائي في إعمال نشاطه العقلي والذهني.

فالقاضي الجنائي يثبت الوقائع الجرمية محل الدعوى الجنائية إثباتا ماديا بتقدير موضوعي شخصي، ثم بعدها يبحث عن النموذج القانوني الواجب التطبيق وهو ما يعف بالتكييف القانوني وهو فهم الواقع اعتمادا على تقدير قانوني،

فيشرع مباشرة في فهم وإدراك القانون فهما دقيقا وعميقا مع هضم الوقائع الجرمية إذا ما اعترض الغموض واللبس النص التجريمي الواجب التطبيق على الواقعة الجرمية المرتكبة استنادا إلى عملية التفسير، وكل هذا يسعف القاضي الجنائي إلى الوصولإلى أصعب مرحلة من مراحل هذه العمليات القضائية وهي المطابقة المادية بين الواقعة الجرمية المادية والواقعة النموذجية القانونية أو النص الجنائي،

وعلى هذا الأساس يتم إثبات وإسناد الجريمة للفاعل مستندا إلى قواعد منطقية وهي الاستدلال القضائي بمناهجه العلمية. وخلال هذه المراحل يتشكل لدى القاضي الجنائي اقتناعا يصل في منتهاه إلى مرحلة اليقين القضائي وذلك ضمن شوط تؤطر النشاط العقلي والذهني باستخدام قواعد المنطق القضائي من استقاء واستنباط واستنتاج ليصل إلى الحقيقة المرجوة وهي الحقيقة القضائية التي تكون إما الحكم بالإدانة بجزم ويقين أو عدم وجود أدلة بالمطلق أو أدلة إدانة مشكوك فيها فيكون الحكم بالبراءة.

إذا كان الغرض من الدعوى الجنائية عبر تعداد مراحلها هو الوصول إلى الحقيقة والكشف عنها، فإن هذه الحقيقة لا يمكن التوصل إليها إلا عبر اقتناع يقيني من القاضي الجنائي،

فالحقيقة لا تظهر وتتجلى إلا بالاقتناع الجازم والمؤكد وليس بناءا على ظن وتخمين واحتمال2والاقتناع اليقيني الجازم مشروط فقط في المحاكمة أما مرحلة التحقيق فيكفي ترجيح أدلة الإدانة عن الباءة للوصول إلى مرحلة المحاكمة،

والقاضي الجنائي عند فهمه وإدراكه لحقيقة الواقعة الجرمية المثبتة في أوراق الدعوى الجنائية ووضع التكييف القانوني عليها فإنه يقوم بصحيح الالتقاء بين الواقع والقانون والذي يؤدي إلى صحة الحكم الجنائي، ومن أجل وضع ضمانات حقيقية للوصول إلى حكم

جنائي صحيح لا يتضمن شائبة الخطأ، يجب على القاضي الجنائي أن يستخدم عقله بشكل عقلاني في التفكير المنطقي بالاعتماد على استدلالات منطقية كي يؤسس اقتناعه على مطابقة حقيقية بين الواقعة الجرمية والقانون، وهذا لن يصل إليه إلا عبر منهج علمي يتأسس على استعمال القواعد المنطقية من أجل فهم الواقع والقانون.

ويمكن القول أن الحكم الجنائي الصادر بالإدانة يكون أساسه الجزم واليقين، فلأحكام الجنائية تحمل بين ثناياها إدانة للمتهم، هذه الإدانة التي تعني الاستثناء من الأصل الذي كان يتمتع به وهو البراءة، هذه البراءة التي هي أصل يقيني في المتهم، وعليه فإن الإدانة لا يمكن البتة أن تؤسس على الظن والتخمين والاحتمال حتى لا يتزعزع هذا الأصل الذي هو البراءة.

وفي حالة الحكم بالبراءة من قبل القاضي الجنائي فإن الأمر لا يشترط اقتناعه للوصول إلى درجة من الجزم واليقين، وإنما يكفي أن يتسرب الشك إلى اقتناع القاضي الجنائي في صحة إسناد الجريمة للمتهم فيقضي بالبراءة إعمالا لقاعدة الشك يفسر دائما لفائدة المتهم، وهكذا فإن الاقتناع الغير اليقيني والذي يساوره الاضطراب والاحتمال يصبح دافعا وعاملا يؤكد ويدعم باءة المتهم، وانطلاقا منه فإن القاضي الجنائي وجب عليه إبقاء الأصل والحكم بالبراءة1،

وهذه البراءة مشروطة لدى القاضي الجنائي بأن يطرح في حكمه أنه فحص أدلة الدعوى جميعها وساوره الشك في عناصر الاتهام وذلك بعدم كفاية أدلة الثبوت أو تضاربها أو عدم وصولها إلى درجة الاقتناع كونها مثار شبهات، وهذا الشك ينحصر فقط في الواقعة الجرمية وعدم ثبوتها في واقعها المادي أما علم المتهم بنصوص القانون التجريمية من عدمه فلا أثر له على هذا الشك إعمالا لقاعدة لا يعذ أحد بجهله للقانون2.

والحكم الجنائي الذي يكون صحيحا لا تساوره شائبة البطلان ينضبط لنوعين من النشاط القضائي، أولهما هو الإدراك الحسي والعقلي للوقائع الجرمية والقانون، بحيث يتجلى في الحقيقة الواقعية للواقعة الجرمية ونسبتها للمتهم وحقيقة ارتكابها والنص التجريمي لها، وثانيهما أن الإدراك العقلي للنتائج القانونية المتحصل عليها من المقدمات القانونية والواقعية الأم الذي يوصل إلى الحقيقة المنطقية

فالحقيقة هي ضالة القاضي وهدفه المنشود وتتجلى هذه الحقيقة في الحقيقة القضائية التي تلامس الحقيقة الواقعية في جوهرها، ويتم الوصول إلى هذا الأمر من قبل القاضي الجنائي عبر الفهم الدقيق للواقع واستنباط الحقيقة من خلال الأدلة الجنائية،

وكذا من فهم القانون عبر تنزيل حكم القانون على هذه الوقائع الجرمية وتطبيقها عليه باستخدام قواعد المنطق القضائي، فالحكم الراشد والذي لا تشوبه شائبة خطأ ولا يتعرض للبطلان هو الحكم الجنائي الذي يمر عبر مراحل تتنزه فيها سلامته القانونية من أي خطأ ليصل إلى الحقيقة المرجوة التي تقنع الخصوم والرأي العام.

ب‌-    فن صياغة الحكم الجنائي.

بعد أن يستنفذ القاضي الجنائي جميع مراحل بناء المنطق القضائي للحكم الجنائي والذي استعمل فيه ملكاته الذهنية بشكل منظم ووصوله إلى تكوين اقتناعه الوجداني الصميم ليصل إلى اليقين القضائي في حالة الإدانة أو وصل إلى الشك في وسائل الإثبات في حالة البراءة،

فإنه يصل إلى مرحلة مهمة وأساسية تتعلق بكتابة الحكم وصياغته القانونية والتي تعبر عن محصلة جميع المراحل التي استخدم فيها القاضي الجنائي جميع ملكاته الفكرية، حيث تعد هذه الكتابة للحكم الجنائي امتحانا لمدى

استنباط القاضي الجنائي لنشاطه الذهني المنتظم1، حيث أن هذا الاستنباط يعبر عليه في الحكم الجنائي بلغة صحيحة وواضحة ودقيقة ولا غموض فيها ولا التباس يبرز من خلاله اقتناعه بالواقعة، لأن استقامة الفكر القانوني تفرض التعبير عنه بلغة واضحة ودقيقة تؤسس لقوة الحكم القضائي الذي يبنى على أساس سليم من الفكر الراجح واللغة السليمة.

وتمكن أهمية كتابة الحكم الجنائي وصياغته الفنية في أن لغة القانون باستقامتها تكون بشكل يوازي استقامة الفكر القانوني لأنه توجد صلة وثيقة بين بين قواعد المنطق السليم وأسلوب الكتابة القانونية، والحكم القضائي الذي يمون قويا بذاته فإن بناءه بطريقة سليمة وبصورة سليمة يجعله يزداد قوة وتأثيرا في المخاطبين به. فلغة الحكم القضائي التي تدخل في زمرتها لغة الحكم الجنائي تستمد قوتها

من بساطتها ووضوحها،فالمصدر الأساسي لهذا الوضوح هو عقل القاضي الجنائي الذي يفهم ما يريد نقله فهما دقيقا فيعبر عنه تعبيرا جليا كما هو في ذهنه. وعلى هذا الأساس يبرز لنا الاختلاف الجلي بين لغة المرافعات ولغة الدفاع ولغة الحكم الجنائي،

فإذا كان الإسهاب والاستطراد أمرا مقبولا في ميدان المرافعات سواء التي يطرحها الدفاع أو سلطة الاتهام فإن الحكم الجنائي يتطلب الإيجاز والاقتضاب وحصر التعبير في كلمات واضحة وعبارات محددة بشرط أن تكون صادقة وقاصدة ودالة وهي صفة مشروطة في الحكم الجنائي باعتباره الوثيقة الأساس والأم في أوراق العدالة.

فالقاضي الجنائي مطالب بالحرص الشديد أثناء قيامه بعملية إفراغ اقتناعه الوجداني الصميم في الحكم الجنائي بواسطة قيامه بصياغة فنية سليمة تعبر بوضوح عن ما توصل إليه خلال مرحلة فحصه للدعوى الجنائية والأدلة القائمة فيها، واستخلاص النتائج من عملية المطابقة المادية بين النص القانوني الواجب التطبيق والواقعة الإجرامية موضوع الدعوى الجنائية.

ويعتبر أهم جزء يبنى عليه الحكم الجنائي إضافة إلى باقي أجزاء الدعوى الجنائية هو منطوق الحكم الذي يكون غرضه الأول هو التسبيب لتحقيق اطمئنان المتقاضين والرأي العام والذي يبرز بجلاء أن القاضي الجنائي أعمل فكره فيما طرح بأوراق الدعوى الجنائي من حجج وأسانيد قبل أن يصل إلى منطوق الحكم، فهذا التسبيب يجب أن يكون واضحا وجديا وغير ناقص أو متناقض بين أجزائه. وهذا الأمر يستقيم بقوة اللغة التي كتب بها الحكم الجنائي دون غموض أو التباس أو إبهام،

وأن لا يقوم القاضي الجنائي بالحذف دون سبب أو علة لغوية حتى تبقى العبارات مفهومة مع سياقها، كما لا يجب عليه أن لا يدخل الاستثناء على الاستثناء وأن لا يورد النفي على النفي أو يضع التحفظ على التحفظ وما إلى ذلك من التعابير التي تناقض السياق أو تنقص من المفهوم، فهذا يخلق عدم الوضوح في أسلوب الحكم الجنائي وتعابيره، فلغة الأحكام القضائية تقتضي في صياغتها الفنية أن تكون العبارات كافية ومشبعة بلغة أدبية تعبر عن بلاغة راقية.

فالدعوى الجنائية في أوراقها يجب أن تكون شاملة لكل أدلة الإثبات أو النفي وكل الاستدلالات والخبرات والمعلومات والحجج والطلبات والدفوع بشقيها الشكلي والموضوعي حتى تغني القاضي الجنائي عن بذل أي مجهود في صياغة الحكم الجنائي، حيث أن قناعته الوجدانية المؤسسة على المنطقي العقلي السليم تكون كافية لجعله ينقل كل هذه الإجراءات والمستندات والأدلة التي اطمئن إليها ويختار ما يدعم اقتناعه الصميم منها.

خلاصة مما سبق:

إن العمل القضائي في المادة الجنائية لا يتأسس فقط على معرفة القانون فقط ولا يمكن اعتباره آلية ينحصر دورها في الموازنة بين الأدلة، بل إن العملية القضائية في هذا الميدان تنفذ للعمق وتسبر أغوار الوقائع الإجرامية بشكل عميق وشامل الأمر الذي يفرض استخدام أدوات ووسائل فنية وقانونية بشكل منطقي سليم،

فالعمل القضائي في المادة الجنائية يتطلب عملية متداخلة تعبر عن إرادة حرة واعية باستخدام الملكات العقلية للقاضي الجنائي بما فيها علم النفس الجنائي الذي يعتبر السبيل الذي يرقى بالعدالة الجنائية إلى إعطاء المزيد من الجودة والفعالية، فهو علم يساهم في دعم القاضي الجنائي من أجل فهم الواقعة الإجرامية بكل الظروف الواقعية والموضوعية المحيطة بها بشكل دقيق،

كما أن هذا العلم يساهم تحديد مسار القاضي الجنائي في التركيز العقلي المنطقي حتى لا ينحرف وعيه بشكل لا إرادي ويزيغ عن الحقيقة.

فالحكم الجنائي يعتبر حاصل النشاط الذهني للقاضي الجنائي وأساسه الواقع والقانون ويتكون وفقا لمبادئ قواعد المنطق من مقدمة كبرى تتجلى في القاعدة الجنائية النموذجية ومقدمة صغرى تتمثل في الواقعة الإجرامية المرتكبة والثابتة في أوراق الدعوى الجنائية،

حيث تترتب النتيجة النهائية من حاصل تطبيق المقدمة الكبرى على المقدمة الصغرى، والمنطق القضائي هو الأداة الفعالة التي يستخدمها القاضي الجنائي من أجل التوصل إلى الحل القانوني،

وتعتبر هاتين المقدمتين هما المحرك الأساس للمنطق القضائي، فالقاضي الجنائي ملزم دائما باستعمال المنطق القضائي بحكم أن هذا الأخير هو الأداة الضابطة للتفكير العقلي والذي عن طريقه يقوم ببذل جهد عقلي وذهني باستعمال أسلوب علمي عن طريق العقل، من أجل الاستنتاج النهائي المطابق للحقيقة بين الواقع والقانون.

إن المكانة القوية التي يحوزها المنطق القضائي في ضمان صحة وقوة الأحكام الجنائية فتح لنا الباب كي نعرف أهمية تحديد واستخدام البناء المنطقي للحكم الجنائي، وفي ضرورة استعمال مناهج الاستدلال القضائي بغرض الوصول إلى النتيجة النهائية المنطقية من مقدمات سليمة،

فعلى الرغم من وجود حدود فاصلة بين مسائل القانون ومسائل الواقع يجعل من اليسير معرفة نطاق رقابة محكمة النقض رغم ما يعتري الأمر من صعوبات، إلا أن البحث في هذا المعيار المحدد قد لا يغني من الأمر شيأ،

بل الأمر يقتضي تحديد نطاق رقابة محكمة النقض على مسائل الواقع وحدودها حتى لا تصبح هذه المحكمة درجة ثالثة من درجات التقاضي، بمعنى تحديد نطاق المنطق القضائي ومناهج الاستدلال التي تراقبها محكمة النقض.

فالتكييف القانوني عمل مختلط يقتضي جهدا قانونيا ومنطقيا، فالقاضي الجنائي ملزم بوصف وقائع الدعوى الثابتة في أوراق الدعوى الجنائية وإبرازها بصورة منطقية كعناصر أو قيود للقاعدة القانونية بغض النظر عن ما إذا كان القانون قد أعطى تعريفا صريحا لهذه القاعدة القانونية أم لم يحدده،

ومحكمة النقض ملزمة ببسط رقابتها على هذا العمل القانوني، وهذا يبين لنا أن موضوع رقابة محكمة النقض هو مادة النشاط الذهني والفكري للقاضي الجنائي المتكون من الواقع والقانون،

وهذا يتجلى منه أن مسائل الواقع ليست في منأى عن رقابة محكمة القانون، فهي تمتد رقابتها لهذه الوقائع ولا يؤثر ذلك على حقيقة وظيفتها في الرقابة على حسن سلامة تطبيق القانون ضمن حدود معينة تتحدد في مدى التزام قاضي الموضوع في استعمال سلطته التقديرية في شأن الوقائع التي رسم القانون حدودها.

آخر الأخبار