فاس: رضا حمد الله
الجو ربيعي مغر بالتفسح في تلك القرية حيث البساط أخضر في كل أركانها. جمال الطبيعة لا يغري من بها. كلهم منشغلون بعملهم، الرجال في الحقول والنساء منهمكات في جمع الأعشاب كلأ الماشية، أو منشغلات بإعداد الوجبات. جميعهم صغارا وكباىا، كخلايا نحل لا يكلون ولا يملون في بحثهم عن لقمة عيشهم ولو كانت مرة أحيانا.
وحدها تلك السيدة الستينية واثنين من قريباتها، مكثن قرب منزلهن. ذاك اليوم خصصنه لبناء فرن تقليدي جديد، بدل ذاك المتداعي. الحاجة الماسة إليه، لا توجب تأجيل بنائه مهما كانت الظروف. كن فرحات بذلك. للعملية عادات وتقاليد تحافظ النساء القرويات عليه، ليس فقط في التعاون، بل أيضا في ترتيل مواويل أشبه بفن أعيوع الجبلي.
كانت الأم منهمكة في البناء ومساعدتيها يبللن التراب أو يجمعن بقايا الأواني الطينية المكسرة التي عادة ما تستعمل في العملية بمزجها مع الطين، بشكل يضيق معه حجم الفرن الكروي طلوعا إلى أن يغلق بثقب صغير يخرج منه لهيب النار، قبل إضرامها فيها كي تتمتن. العملية لا تختلف في عاداتها وظروفها، كثيرا بين المناطق القروية التي تعتمد هذا الشكل من الأفىان وسيلة وحيدة لطهي الخبز قبل دخول الكهرباء والاستعانة بالأفران الجديدة والعصرية.
كانت وحيدة جالسة قرب الفرن بعدما أوشكت على استكمال بنائه، بعدما دخلت مساعدتيها للمنزل لإعداد وجبة خفيفة من الخبز والزيت والزيتون الأسود والشاي. شرودها وتفكيرها العميق وهي تضع رأسها بين رجليها وقد افترشت الأرض، لم يخرجها منه سوى سماع صوت ابنها الأكبر الوحيد الباق مستقرا في القرية بعدما هاجر إخوته الخمسة للمدينة بحثا عن سبل عيش أفضل، وزواج شقيقتيه إحداهما في دوار بالجماعة نفسها، والثانية مستقرة مع زوجها بفرنسا بعدما التحقت به بعدما عقدا على بعضهما.
ابنها الأكبر أربعيني رزق 4 أبناء يستقرون معها في نفس المنزل الطيني. يتكفل بحرث الحرث وجمع غلة الزيتون عادة ما لا يطلب منه إخوته نصيبهم منه، إلا ما قد تجود به قريحته على المتزوجين والعزب منهم خلال زياراتهم من حين لآخر وفي كل عطلة لهذه القرية التي ارتبط بأرضها وحضنته منذ ولد ذات يوم ممطر.
جلس الابن قرب أمه بعدما عاد لتوه من الحقل، كانا في انتظار وجبة خفيفة تذيب جزء من جوعهما، فقد تعبا كثيرا ولم يذوقا طعم الخبز منذ فطورهما في السادسة والنصف صباحا، على غرار غالبية سكان القرية عادة ما يستفيقون مبكرا لمباشرة عملهم والعودة في توقيت الظهيرة إن لم يستلزم العمل قضاء اليوم كاملا في الحقل.
تجدد نقاشهما حول الأرض وعدم مساعدة إخوته له. لم يكن يقبل أن يشقى لوحده في أرض متوارثة، والباقي مستقر بعيدا يعيش حياته ويتدبر أمره في غير منتوج الأرض. والأم ملت نقاشاتها تتكرر كلما جالسها ليل نهار، سيما في الأيام الأخيرة حيث زادت عصبيته لحد سوء التصرف مع أمه الحريصة على تمكين باقي أبنائها من القليل أو الكثير مما تنتجه الأرض رغم أنهم غير منتجين ومستقرين بعيدا عنها. وهو الأمر الذي طالما أغضبه.
فارت أعصابه وأمه تجدد حديثها عن حق الأبناء في غلة ميراث أبيها، فنهرها وبادلته بالمثل قبل أن ينهض غاضبا. غضبه زاد يزيادة منسوب وحدة الكلمات على لسان أمه. وفي لحظة لم يتمالك فيها أعصابه، تناول عتلة كانت الأم تستعملها في بناء الفرن، وهوى بها على رأسها. ضربة واحدة كانت كافية لتسقط أرضا مدرجة في دمها، ويسمع صوتها من بعيد. سمعت مساعدتاها صراخها وخرجتا مهرولتين لتجداها تحتضر على وشك الموت. حاولا عبثا إسعافها، قوة الضرب والجرح الغائر، وما نزف منه من دم، لم يسعفاها للعيش. ولم تمر إلا دقائق حتى لبت نداء ربها، فيها كان الابن ما يزال واقفا يراقب الوضع، وقد بدا نادما وقتما لا ينفع الندم.
علا الصراخ وتجمع الناس وأخبروا الدرك وبقي الابن متسمرا إلى أن حضرت عناصره وسلم نفسه لهم دون مقاومة، معترفا بقتله أمه في لحظة غضب لم يتمالك فيها فوران أعصابه بسبب غضبه من موقفها من طلبه حقه في أرض والده المتوفى قبل سنتين من ذلك بعد مرض عضال لم ينفع معه علاج.
أوقف الابن وأحيل على الوكيل العام وشرع في محاكمته أمام غرفة الجنايات وأدانته ب20 سنة سجنا نافذا، واستأنف دفاعه الحكم ملتمسا إجراء خبرة طبنفسية عليها أثبت الطبيب فيها أنه فاقد للمسؤولية الجنائية وكونه لم يكن في حالته الطبيعة وقت ارتكاب الجريمة، لتأمر المحكمة بإيداعه مستشفى للأمراض العقلية للعلاج وحيث انتهى به المصير.