قتلة الأصول... قتل والده ودفنه وباع القطيع

فاس: رضا حمد الله
بباب مكتب بسرية الدرك تقف سيدة حزينة وشاب حائر، في انتظار الإذن لهما بالدخول. يزوران المكان للتبليغ عن اختفاء غامض لقريبهما لم يظهر له أثر منذ نحو شهر، رغم بحثهما عنه عند كل أفراد العائلة. لم يعتادا على غيابه، كان وجوده يومي بينهما وفي تلك القرية. أخته من حفزت ابنه على مرافقتها لمقر السرية حيث استقبلهم ضابط دون كل المعلومات عن المختفي في انتظار جديد.
الجميع استبعد وقوع مكروه له، علاقاته كانت جيدة مع الجميع، إلا مع ابنه المبلغ عن اختفائه، لم تكن علاقتهما على ما يرام امام تناقض أهدافهما في الحياة. الأب مجد في عملة والالتزام بصيانة حقوله الفلاحية وقطيعه. والابن لا يهمه غير ما يحصل عليه من مال والده دون عناء أو تعب. ورغم ذلك كان يكره أباه منذ انفصل عن أمه التي تزوجت ثانية وهجرت القرية إلى مدينة جنوبية بعيدة.
بقي الابن هائما بين حب أم بعيدة عنه لا تسأله إلا في الأعياد، وأب قريب تبعده عنه المشاكل وحرصه الشديد على أن يجعل منه شاب يعول عليه، لا كسول لا يشقى ويطلب الكثير من المال الذي ينفقه في ملذات الحياة وإدمان يختلف نوعه حسب ما في جيبه. هذا الوضع لم يكن يرضي الأب، وعتاب الأب ومحاولاته الفاشلة لإعادته للسكة الصحيحة، تؤجج غضب الابن المستهتر الذي يرى الحياة بعين مغايرة.
سأل الضابط الابن عن علاقته بأبيه، فأثنى عليها وبمعزته له، والأماكن التي قد يكون سافر إليها، وجمع من عمته معلومات مختلفة على سبيل الإفادة والاستئناس لعل وعسى أن تساعد في البحث عنه وما قد يكون حل به. دون كل ذلك في مذكرة ودعاهما للانصراف لحين الحاجة إليهما ولعدم مغادرة القرية، وحصل منهما على رقمي هاتفيهما للضرورة وانصرفا.
جلس الضابط بعدها يفكر مليا ويستعيد بتأن لحظة الاستماع لهما، ركز على حركات الشاب وجوابه وحاول معرفة ما إذا كانت هناك تناقضات فيما قاله. وراودته فكرة استضافتهما من جديد للاستماع لهما على انفراد. وفي اليوم الموالي هاتف العمة التي حضرت بطلب منه. سألها عن أشياء دقيقة في حياة أخيها المختفي.
أكدت العمة معلومة كونه كان يتوفر على هاتف بلون وماركة معينين، لكن هاتفه غير مشغل رغم تكرار الاتصال بها من طرفها. انتهت جلسة استنطاق العمة وغادرت واتصل الضابط بالابن ضاربا موعدا معه في المساء للحضور لمكتبه بداعي وجود جديد في قضية اختفاء والده. استخدم ذكاءه في محاولة لفك شفرة الاختفاء الغامض لأبيه.
حضر الابن في الموعد وجلس على كرسي قبالة الضابط الذي طلب منه هاتفه فناوله إياه. أمسه وإذا هو بنفس اللون والنوع لهاتف والده. سأله عن إن كان في ملكه، فأكد ذلك مؤكدا شراءه من سوق القرية الأسبوعي. لم يجادله ومر للمرحلة الثانية من الاستدراج، وهي الكشف عن علاقته المتوترة مع أبيه عكس ما ادعاه. حاول في البداية الهروب إلى الأمام، وعاد ليقر بتوترها دون أن تصل حد العداء او الرغبة في الانتقام.
كان الضابط حصل على ما يكفي من معلومات عنه وحرصه في الشهر الأخير على بيع كل قطيع والده من المعز والغنم والبقر وطرده الراعي المستأجر بعدما أنهى بيع كل ما يملك ودون علمه أو استشارة العائلة. كان ينفق كل المال في سمر يومي يغرق فيه في كؤوس الخمر وبين احضان الحسناوات. اشترى سيارة جديدة ويعيش الحياة بطولها وعرضها دون قيود وحتى دون أن يسأل عن غياب والده إلى أن حفزته العمة على التبليغ ورافقته لمقر الدرك.
حاصر الضابط الشاب بأسئلة دقيقة عن سر هذا البذخ وبيع قطيع والده، فتناقض في تبريره. وبالتركيز على التناقضات ودقة الأسئلة وجد الابن نفسه محاصرا من كل جانب لا حيز له للفرار إلى الأمام.
شرد في تفكيره لحظات تركه الضابط عليها، قبل أن ينادي عليه من جديد. ناوله كوب قهوة وسيجارة، وطلب منه كشف الحقيقة دون لف ولا دوران. فكل القرائن تؤكد أن للابن علاقة باختفاء والده او على الأقل يعلم بتفاصيل يخفيها لغاية في نفسه. طلب منه البوح وقول الحقيقة، فاستجاب بعدما وضع رأسه بين يديه باكيا.
- أنا الذي قتلته. لقد كان يحتقرني وقتلته
وأخيرا ظهرت الحقيقة. أمهل الضابط الابن لحظات ليسترجع أنفاسه ويكف عن البكاء. ولعدها عاد لاستنطاقه والاستماع له في محضر. أقر بسوء علاقتهما وتأجج منسوب غضبه من عتابه المتكرر وحكى عن كثيرة سابقة. واسهب في الحديث عن معاناته منذ انفصلت أمه ووالده واستقراره معه.
في ذاك اليوم تجدد العتاب والغضب، وتلاسنا داخل المنزل بعدما نزع كل منهما سلهام الحشمة والاحترام الواجب. ووصل الأمر لحد الاشتباك بالأيدي قبل أن يفترقا دون أن يخمد لهيب غضبهما. افترقا وتوجه الابن إلى الحضيرة وتسلح بأداة رادة وعاد في اللحظة التي كان فيها الأب شاردا كما لو كان في شله غيبوبة. باغثه وضربه ضربة قوية في رأسه كانت كافية لسقوطه استغله لمواصلة الاعتداء عنه. ولم يكف عن ذلك إلا بعدما تيقن من وفاته.
ترك الابن جثة والده في نفس المكان، وخرج وعاد في الليل لاستكمال عملية التخلص من الجثة. فصلها لأجزاء. وخرج لحقل قريب من المنزل، حفر حفرة كبيرة وأخرج الجثة عبر مراحل. دفنها وعاد ليعيش حياته بطولها وعرضها ومن خيرات والده الذي تعب من اجل جمع قطيع بعدد هائل من الرؤوس بدده الالن في مدة قصيرة لا تتجاوز الشهر، في السمر ومرفقاته.
أقر الابن بقتل والده وإخفاء جثته ورافقته عناصر الدرك والوقاية المدنية لمكان دفنها وانتشلت وأحيلت على مستودع الأموات لتشريحها، وأودع المتهم السجن وحكم بعد عدة جلسات للتحقيق والمحاكمة، بالسجن مدى الحياة، وما زال في السجن يقضي عقوبة لا تنتهي إلا إذا حددت واستفاد من العفو.