قتلة الأصول... قتل أمه بمطرقة

الكاتب : الجريدة24

01 يوليو 2023 - 01:00
الخط :

فاس: رضا حمد الله

لم تكن في استقباله في ذاك الصباح، وهو يغادر أبواب السجن بعد سنة قضاها خلف أسواره العالية. تورطه في قضية عنف وضرب وجرح، وراء هذه العقوبة وليست الأولى. سوابقه كثيرة في الجرائم العنيفة وحيازة السلاح. لا تمر إلا مدد قصيرة على مغادرته السجن، ليعود إليه بعقوبة أكبر. لقد اعتاد ذلك، وأمه ألفت ذلك ولم تعد تعر اهتمامه بوجوده معها ولا بسجنه.

جربت معه كل الحيل ليعود لطريق الثبات على الاتزان، لكن دون جدوى. لذلك أصبح وسلوكه بالنسبة إليها، شيئا لا يستحق اهتمامها. يكفيها هم المعيش اليومي، وهي الأم السبعبنية التي وكأنها لم تلد ولم تتعب لتربية 5 ذكور هو بينهم، جميعهم استقروا مع أسرهم وتركوها تواجه ظروفا أصعب مما يتصور. رغم كبر سنها ما زالت تتدبر أمورها بنفسها، حتى مصروفها تتدبره من بيع المناديل الورقية والسجائر بالتقسيط، بمدخل ذاك الحي اليهودي بالمدينة القديمة.

لم تستقبله بباب السجن البعيد، لأن ما بجيبها لا يكفي حتى لشراء خبز وحاجيات بسيطة، فكيف لها بثمن تذكرة السفر. هو لا يهتم بحاجتها، كان فقط ينتظر وجودها في انتظار خروجه، وكأنه عائد من حج. لذلك غضب كثيرا لما لم يجدها هناك حيث تجمعت عائلات في انتظار خروج اقاربهم من غياهب الزنزانة لمعانقة الحرية من جديد.

في منتصف النهار كان قد وصل ذاك الحي اليهودي المتداعية جدران منازله. لم يجدها في المنزل، وسأل عنها، فوجه لحيث توجد وتبيع السجائر بالتقسيط. هناك وجدها جالسة القرفصاء خلف صندوق خشبي عرضت عليها سلعتها. حياها فردت ببرودة عواطف. ناولته مفتاح باب المنزل وغادر بعدما أعطته 10 دراهم ليتدبر أمره. لم يقنع بالمبلغ فعاتبها وأدبر لتنطلق حلقات تدافع لفظي يومي طال أياما.

لم يبحث عن عمل ولا حاول، وأمه لم يكن بمقدورها توفير حاجياته من سجائر، بل ملت طلعته. كلما زارها يأخذ منه عدد سجائر لتدخينها. لقد استنزف أرباحها ورأسمالها، ولم يعد لها ما يكفي لشراء مناديل وعلب سجائر بالأنواع المطلوبة من زبنائها من شباب الحي والعابرين إلى قلب المدينة القديمة. لقد ضاقت بها الدنيا بما رحبت، ولم تعد قادرة على الصمود في وجه ظروف اجتماعية صعبة وابن لا يقدر حجم معاناتها.

كل يوم يشتمها وكلما رفضت منحه مالا قل أو ارتفع، يظل نائما ولما يستفيق يأتيها طالبا مهددا. لم تكن تجرأ على رفض طلباته التي لا تنتهي. تخاف من ردة فعله العنيفة. لذلك كانت تجاريه طمعا في هدنة تبدو مستحيلة مع ابن لا ذرة حب في قلبه ولا رغبته له في التشمير على ساعده والبحث عن سبيل وعمل يكسب منه. وضع ما كان له أن يستمر طويلا. هو لا يخجل من نفسه، وهي لا قدرة لها على صده، سلاحها فقط الصبر.

ظل الحال على ما هو عليه شهرين، الابن متماد والأم صابرة. وفي عشية بلون السواد، دخل المنزل فوجدها مستريحة فوق سرير وضيع في غرفتها. خلدت للراحة بعد تعب طال. لم تتوقع أن يعكر صفو خلوتها ولو على بساطتها. دخل عليها وخاطبها ناهرا ودون أدنى احترام لأم حملت به وربته ورعته وأطعمته حتى وهو في الأربعين.

- كاين شي عشا؟. بغيت شي أربع ماية

طمأنته بوجود ما كتب الله لهما عشاء. خبز وزيت وشاي وبيض. دعته لإعداد وجبته، رافضة تمكينه من المبلغ المطلوب كاملا. حاولت عبثا إقناعه بعدم توفره لديها. لكنه لم يصدق. وبين الرفض والإصرار، انطلقت حرب كلامية انتقى فيها من الكلمات النتن منها لرشقها بها. حتى وهو يسب ويلعن أجدادها، لم تجرأ على مجاراته، لقد كانت تخاف من أن يرسم في رأسها خارطة طريق غضبه.

تحاشته وغادرت الغرفة محاولة الخروج إلى الزنقة لعلها تتنفس هواء نقيا يمحي اختناقها من وضع لا يرضاه أحد. حتى أبناؤها كانوا على علم بحالها وما تعيشه من أخيهم، لكنهم لم يبذلوا أدنى مجهود لتغيير هذا الوضع. جميعهم منشغلين عنها وكأنهم لم يتكونوا في رحمها، ومنهم كثير يتنكرون لمن حملت وشقت وتعبت لأجل أبناء جاحدين.

حاول منعها من الخروج، فأفلتت من قبضته. لكنه تسلح بمطرقة وتعقبها ليلحق بها وقد وضعت رجلها اليمنى خارج الباب. حينها هوى بالمطرقة على رأسها بضربة قوية سرعت خطوها لتتهاوى غير بعيد عن الباب. سقطت وهي تصرخ من شدة الألم. ألم أشد مما عاشته معه سنينا. ألم هذه المرة لن ينتهي. صرخت وعاودت الصراخ قبل أن تسكت حتى عن الأنين. لم يعد يسمع لها أنين.

مارة وأبناء الحي تجمعوا حولها. كانت لفظت أنفاسها الأخيرة، وهو ما يزال واقفا بالباب مستعرضا جبروته. ولما تيقن من موتها حاول الفرار، لكن المتجمهرين حاصروه وأوقفوه وكبلوه رغم مقاومته الشديدة لهم ومحاولة الاعتداء على كل من يحاول شل حركته. اختفظوا به لحين حضور عناصر الأمن، سلموه إليها واقتادته لمقر دائرة الأمن.

بحضور عناصر الأمن، كانت الأم ما تزال ساقطة أرضا والناس متجمعين حولها. بعضهم انهمك في التوثيق للحادث بصور ظون حياء، وآخرين وضعوا أيديهم على خدودهم حسرة على هذه النهاية المأساوية لأم لم تنصف في حياتها. فلا الزوج كان رحيما بها، ولا الأبناء رأفوا لحالها. لم تجني في حياتها غير الجحود والغدر ونكران الجميل.

انتهت إجراءات المعاينة وتصوير الجثة، ونقلت لمستودع الأموات بالمستشفى، بينما كان الابن في ضيافة الشرطة. استمعت إليه فحكى تفاصيل ضياعه وسوابقه وسر خصامه مع أمه، وظروف قتلها. وانتهى البحث التمهيدي وأحيل على الوكيل العام وشرع في محاكمته وحكم بعد عدة جلسات أمام غرفة الجنايات. 25 سنة سجنا نافذا عقوبة أدين بها ويستحق أكثر منها. ما زال يقضيها بسجن قد لا يغادر بابه لاحقا إلا لتغييره. عمره الحالي وطول المدة، قد يسعفاه لاستعادة حريته من جديد.

آخر الأخبار