اللصوص الجدد..نصابون ينفذون أكبر عملية سطو على ثروات العالم!

يخبرنا رايان أفنت Ryan Avent المحرر الاقتصادي لمجلة The Economist، بشكل أكثر تفصيلا عن موضوع الإرث، في إطار أشمل، حيث يرى أن الإرث لا ينتج فقط عن أن يرث شخص أموالاً وممتلكات من أحد أفرد عائلته الصغيرة، بل إن الإرث يشمل المجتمع ككل، ويضرب لنا مثالا بـ "بيل جيتس" قائلا: "من المستحيل أن نتخيل ثروة بيل جيتس بدون إبداع وجهد بيل جيتس.
ولكنه من السهل جداً تخيل ثروة بيل جيتس يتم تكوينها عن طريق شخص آخر من داخل مؤسسات المجتمع الاقتصادي الأمريكي الحديث، على أن نتخيل بيل جيتس يستطيع توليد مثل تلك الثروة في مكان أو في زمن مختلفين – في فرنسا في القرن الثامن عشر أو في جمهورية أفريقيا الوسطى اليوم – حيث المجتمع أقل تسامحا مع الرأسمالية وريادة الأعمال وتراكم المليارات لدى الأشخاص، وحيث غياب مجتمع المهندسين الذي أدى إلى تقدم قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة. في الواقع في مرحلة ما من تاريخ مايكروسوفت كانت مايكروسوفت كهيئة لمعالجة المعلومات أكثر أهمية لتراكم ثروة بيل جيتس من بيل جيتس نفسه."
إن وجودنا في مجتمع ما يعتبر صدفة ليس لنا يد فيها، ومساهماتنا في المجتمع التي تعطينا الحق في التمتع بالفوائد التي تعم عليه، لا تنفي حق كل فرد على وجه الأرض بالحصول على نصيبه من الفوائد العامة المتاحة للبشر ككل.
فالمجتمع الذي يولد فيه الفرد لا يعمل بمعزل عن باقي المجتمعات البشرية الأخرى، وإنما يتأثر بها ويؤثر فيها. يخلص أفنت إلى أنه "لا يوجد أحد يستحق أن يكون فقيرا. ولا يوجد أحد يستحق أن يكون غنيا بشكل اعتباطي. تستطيع المجتمعات الغنية إيجاد طرق لتبرير ثرواتها الضخمة بالنسبة لآخرين، ويستطيع أعضاؤها أن يخبروا أنفسهم بقصص عن الأشياء العظيمة التي فعلوها، والتي لم يفعلها الآخرون، والتي جعلت ثراؤهم يفوق الخيال. بدلا من ذلك، فإنهم يجب أن يعترفوا بالصدف الجامحة لثرواتهم، ويشجعوا التعاطف الإنساني، ويفعلوا ما باستطاعتهم لنشر ثروة البشر للجميع"(15).
وطبقا لـ "دين بيكر"Dean Baker المحرر الاقتصادي في جريدة The Gurdian، فإن "معظم الثروة التي حققها مليارديرات وادي السليكون ترتكز على براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية، وكلاهما احتكارات تمنحها الحكومة..."(16). وجميعنا يعلم أن شبكة الإنترنت نفسها نشأت في الأساس كمشروع حكومي تحت رعاية وزارة الدفاع الأميركية.
عندما نسأل أنفسنا، ما الذي اخترعه مارك زوكربيرج مثلاً ولم يكن موجودا من قبل؟ نتذكر أن العديد من مواقع التواصل الاجتماعي كانت موجودة بالفعل في الولايات المتحدة من قبل وجود موقع فيسبوك Facebook. لقد تم تأسيس موقع التواصل الاجتماعي "ماي سبيس" My Space في عام 2003، ووصل عدد المشتركين فيه إلى مئات الملايين.
حتى بعد تأسيس موقع فيسبوك في عام 2004، استمر موقع ماي سبيس يتفوق على موقع فيسبوك في عدد المشتركين حتى عام 2007. إن انتشار موقع للتواصل الاجتماعي على الإنترنت، وانحسار موقع آخر يرجع بالأساس إلى تفضيلات كبار رجال المال ومضارباتهم ورهاناتهم على موقع بعينه، ويتبعهم في ذلك السياسيون والمشاهير في جميع المجالات، وفي النهاية يقلد الجمهور العادي جميع هؤلاء.
في نهاية عام 2021 كانت ثروة إيلون ماسك قد تضاعفت لتصل إلى حوالي 250 مليار دولار ويصبح ماسك الشخص الأغنى في العالم. ومن ثم، اختارته مجلة تايم Time كشخصية العام وأثنت على مشروعاته المتعددة. وكان من الواضح أن تلك الشخصية قد تم العمل على تلميعها من سنوات سبقت ذلك العام بكثير، ليصبح أيقونة الشباب الطموح حول العالم.
ولكن بنظرة سريعة على مسيرة ماسك سنجد أنه لم يخترع أي شيء جديد ليقدمه للعالم، وأن الشركات التي ساهم مع آخرين في تأسيسها بدعم من ممولين كبار، لم تكن سوى شركات قائمة على استحداث تطبيقات لربط البشر والشركات والبنوك بشبكة الإنترنت، مثل شركة Zip2، وشركة X.com. أما شركة تسلا Tesla, Inc التي تولى رئاسة مجلس إداراتها نتيجة مساهمته بأكبر رأسمال فيها، على الرغم من أنه لم يكن من مؤسسيها، فلم تكن هي الشركة الأولى أو الوحيدة من نوعها التي تسعى لتطوير صناعة السيارات الكهربائية والقيادة الذاتية للسيارات. أما شركة SpaceX التي قام بتأسيسها في عام 2002 بهدف إرسال رحلات تجارية إلى الفضاء، فلم تكن سوى اتجاه من الحكومة الأمريكية لخصخصة جزء من أعمال وكالة الفضاء ناسا، التي منحت ماسك عقد برنامج خدمات النقل المداري التجاري في عام 2006.
طوال السنوات التالية لتوليه إدارة الشركتين الجديدتين ظل مشروعي ماسك للسيارات الكهربائية والرحلات التجارية للفضاء لا يحققان أي أرباح تقريباً، حتى عام 2008 مما جعل كيمبال أخو ماسك وشريكه يصرح لماسك بأن الأخير قد أصبح مديناً وأكثر من مفلس.
ولكن سرعان ما بادرت الحكومة الأمريكية بمنح شركة SpaceX مبلغ 1.5 مليار دولار عن طريق وكالة ناسا في نفس العام لدعم برنامج الشركة لتصنيع الصواريخ. ظلت ثروة إيلون ماسك لا تزيد عن 200 مليون دولار حتى عام 2011. ولكن في عام 2015 وصل إجمالي الدعم الحكومي الذي تم تقديمه لشركات ماسك على مدار السنوات السابقة إلى حوالي 5 مليار دولار(17)، وتزامن مع ذلك القفزة الكبرى التي تحققت لثروة ماسك في 4 سنوات فقط من 200 مليون دولار في عام 2011 إلى 14 مليار دولار في عام 2015. وهكذا، لم يكن مستغرباً أن تتضاعف ثروة شخص يمتلك مئات الملايين، عندما يحصل على دعم من الحكومة بآلاف الملايين.
لم يتوقف الدعم الحكومي لشركات ماسك عند عام 2015، ولكن كان هناك نوع آخر من الدعم يفوق الدعم المالي الذي تمنحه الحكومة الأمريكية لشركاته، إنه دعم الدعاية والتسويق لشخص، بحيث يتم تصويره على أنه شخص استثنائي وعبقري، ومن ثم يمكن أن يراهن الناس عليه في مجال الأعمال. يفسر الكاتب ورجل الأعمال تيم أوريلي سر القفزة الكبرى الثانية التي أدت إلى تضاعف ثروة إيلون ماسك من 20 مليار دولار في عام 2019 إلى أكثر من 200 مليار دولار في عام 2021 .
يرجع أوريلي تلك القفزة إلى ما يسمى باقتصاد الرهان betting economy الذي يتمكن فيه الناس من جني أرباحهم قبل انتهاء السباق، وبالتالي يرى سبب الثروة الضخمة التي جمعها ماسك هو مراهنة الناس عليه، وبالتالي يربح الدولار في تسلا 600 دولار وفي أمازون يتحول الدولار إلى 67 دولار وفي جوجل يتحول الدولار إلى 34 دولار. وهكذا، يمكن للشركة ومالكيها استخراج كميات هائلة من القيمة على الرغم من عدم وجود أرباح حقيقية – وهي القيمة التي يمكن أن يسحبها أولئك الذين يمتلكون أسهمًا – أي الحصول على شيء مقابل لا شيء.
ويرى أوريلي أن هذا هو أحد الأسباب التي تجعل الأثرياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقراً في الاقتصاد الحديث، حيث يعيش الأغنياء والفقراء في الواقع في اقتصادين مختلفين يعملان بقواعد مختلفة. فبينما يعيش معظم الناس العاديين في عالم حيث الدولار هو دولار، يعيش معظم الأثرياء في عالم "المال الخارق" Supermoney، حيث يتم "تمويل" الأصول (القادرة على المشاركة في اقتصاد الرهان) وتقييمها اليوم كما لو أنها كانت قد أنتجت بالفعل أرباحا مستقبلية لعقود من الزمن وانعكست تلك الأرباح على أسعار أسهمها(18).
تبقى الإشارة إلى شيء هام لم يتطرق إليه أوريلي، وهو أن طريقة صناعة مليارديرات وادي السليكون وإعداها للمشاركة في الرهان لا تختلف كثيراً عن طريقة صناعة المشاهير من نجوم الفن والسياسة والثقافة والمؤثرين على ووسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الحالي. فيكفي أن يتم دعمك بكثافة، بشكل مباشر أو غير مباشر، من مؤسسات إعلامية كبرى وجهات حكومية مرموقة وشخصيات سياسية بارزة، لتصبح بعدها مرشح لأن يراهن ملايين الناس عليك في مجتمعك. ومع عصر العولمة يصبح بإمكانك جذب مليارات الناس من مختلف المجتمعات للمراهنة عليك وزيادة سعرك في السوق العالمي.*
*أحمد دياب