"عدم دستورية الترخيصات في الالتزام مسبقا في قوانين المالية لسنوات 1999-2015

عبد الصمد العيوشي*
تتركب ميزانية الدولة التي تنظم في إطار قانون المالية للسنة من ثلاث مكونات ميزانياتية هي: "الميزانية العامة" ، "ميزانيات مرافق الدولة المسيرة بطريقة مستقلة" ، ثم "الحسابات الخصوصية للخزينة".
و من المعلوم أن هذا القانون يتميز عن غيره من القوانين بخضوعه لمجموعة من المبادئ الموازناتية التي أقرها القانون التنظيمي 130.13 لقانون المالية الحالي (الصادر سنة 2015) و قبله أكدها السابق (القانون التنظيمي 7.98 لقانون المالية الصادر سنة 1998 و المغير و المتتم سنة 2000)
و في مقدمتها مبدأ السنوية الذي نصت عليه المادة الأولى من هذا الأخير، و التي أشارت إلى أن قانون المالية يتوقع بالنسبة لكل سنة مالية مجموع مواردها و مجموع نفقاتها أخذا بعين الاعتبار التوازن المالي و الاقتصادي المطلوب ، و السنة المالية المعنية هنا تطابق السنة المدنية وفقا لما للمادة 6 من ذات القانون التنظيمي ، حيث تبتدأ بفاتح يناير و تُختتم في 31 ديسمبر.
بيد أن ذات القانون التنظيمي سمح بخرق هذا المبدأ من خلال سماحه لمجموعة من الاستثناءات، إذ نصت المادة 7 في هذا الصدد على أنه يمكن أن يلزم التوازن المالي للسنوات المالية اللاحقة الأحكام المتعلقة بالموافقة على "الإتفاقيات الدولية" و "بالضمانات التي تمنحها الدولة" و بتدبير "الدين العمومي" و "الدين العمري" و "باعتمادات الالتزام" و "بالترخيصات في البرامج" و"بالترخيصات في الالتزام مقدما" .
و فيما يخص هذا الأخير ، فإنه ذُكر في معنى عام بهذه المادة، و ذكر بشكل دقيق في المادة 26 من ذات القانون التنظيمي و التي تحدثت عن أنه يمكن أن تمنح ترخيصات في الالتزام مسبقا لنفقات التسيير (بالميزانية العامة طبعا) بموجب قانون المالية للسنة.
و الترخيص في الالتزام مسبقا هو الإذن الذي يؤهل الآمر بالصرف بأن يلتزم خلال السنة المالية الجارية تجاه ملتزم من أجلهم معينين بصرف اعتمادات مالية لا تتوفر خلال ذات السنة بل ستكون في السنة المالية المقبلة و ستؤدى لهم خلالها.
و لئن كانت قوانين المالية للسنة التي صدرت في ظل سريان القانون التنظيمي 7.98 (الفترة بين 1999 و 2015) تضمنت أذونا بالترخيص في الالتزام مسبقا لفائدة بعض نفقات التسيير بالميزانية العامة ، إلا أن الملاحظ بخصوصها أنها تضمت ترخيصات في الالتزام مسبقا لصنفين من الحسابات الخصوصية للخزينة هما : الحسابات المرصدة لأمور خصوصية و حسابات النفقات من المخصصات. فعلى سبيل المثال تضمن قانون المالية لسنة 2006 ترخيصات في الالتزام مسبقا لفائدة كل من صندوق دعم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ، و الذي يعد حسابا مرصدا لأمور خصوصية ، بقيمة 1 مليار درهم (المادة 48) ، و كذا لحساب النفقات من المخصصات الخاص ب "اشتراء و إصلاح معدات القوات المسلحة الملكية" بقيمة 11 مليار و 280 مليون درهم (المادة 55)، من الاعتمادات التي سترصد لهما برسم نفقاتهما سنة 2007.
فالإشكالية التي تثار في هذا الإطار تتعلق بمدى وجود أساس واضح في القانون التنظيمي 7.98 يجيز للمشرع بأن يُضمن في قوانين المالية للسنة مقتضيات تتعلق بالترخيصات في الالتزام مسبقا لهذين الصنفين من الحسابات الخصوصية للخزينة.
إنه و حسب وجهة نظرنا، تعد قوانين المالية للسنة التي صدرت في ظل سريان القانون التنظيمي سالف الذكر ، نتحدث هنا عن قانون المالية للسنة المالية 1999-2000 و قانون المالية الانتقالي الذي ابتدأ في 1 يوليوز و انتهى في 31 ديسمبر سنة 2000 ، و كذا قوانين المالية للسنوات المالية من 2001 إلى 2015 ، تعد جميعها غير دستورية لعلة تضمن ذلك المقتضى بها.
فالقانون التنظيمي لقانون المالية السابق كان واضحا بهذا الشأن، حيث أجاز بصريح العبارة منح ترخيصات في الالتزام مسبقا لفائدة نفقات التسيير فقط، دون أن يمنح ذلك لفائدة أي نوع أخر من النفقات بما فيها نفقات كل من الحسابات المرصدة لأمور خصوصية و حسابات النفقات من المخصصات.
هذا من جهة ، و من جهة أخرى فالقول بأن الحكم الوارد في المادة 7 من القانون التنظيمي المشار إليه سلفا هو حكم عام يشكل قاعدة تجيز للمشرع إمكانية خرق مبدأ السنوية في قوانين المالية للسنة من خلال منح ترخيصات في الالتزام مسبقا لأي نوع من النفقات، و أنه يمكن بناء على هذه القراءة الإقرار بدستورية الترخيصات في الالتزام مسبقا التي منحت لذاكين الصنفين من الحسابات الخصوصية للخزينة هو إدعاء غير صحيح ، لكون أن الحكم المذكور ذكر بشكل غير دقيق في المادة 7 تلك و لا يمكن الاستناد عليه، و لكون أن المشرع أجاز بصريح العبارة منح ترخيصات في الالتزام مسبقا لفائدة نفقات التسيير للميزانية العامة ، فلو أراد أن يجعل ذاك الحكم عاما و بابا يمكن خرق مبدأ السنوية عبره برسم أي صنف من النفقات، لما تحدث عن كون أن الترخيصات تلكم تمنح لنفقات التسيير حصرا، فالقراءة البسيطة للقانون التنظيمي المذكور تُفهم الباحث بأن ذاك الاستثناء قد قُرن فقط بنفقات التسيير على وجه التحديد.
و أما القول بأنه لا مشكلة في منح قوانين المالية للسنة ترخيصات في الالتزام مسبقا لذاكين الصنفين من الحسابات الخصوصية للخزينة طالما أن للمشرع المالي سلطة سن مقتضيات قانونية للتحكم في ميزانية الدولة انطلاقا من الوظيفة التشريعية التي يؤديها ، فإن هذا القول لا يصح لكون مبدأ السنوية يعتبر مبدأ دستوريا منظم بموجب القانون التنظيمي 7.98 ، و أنه لا يمكن خرقه إلا في الحالات التي يجيزها بصراحة هذا الأخير، و أن منح المشرع الترخصيات في الالتزام مسبقا لبعض الحسابات الخصوصية للخزينة دون أساس واضح منه، يجعل قوانين المالية للسنة تتضمن مقتضيات تخرق مبدأ في هذا القانون التنظيميذ؛ بحيث أننا نجد قواعد في قانون عادي تخرق قاعدة في قانون تنظيمي ، و هو أمر يُزعزع مبدأ هرمية القواعد القانونية و ترابيتها التي تعد أساسا من أسس النظام القانوني المغربي.
من أجل ضبط الممارسة التشريعية المالية في المغرب و تعزيز شرعيتها، سن القانون التنظيمي 130.13 لقانون المالية مقتضيات في هذا الشأن إتسمت بالوضوح اللازم، حيث أجيزت الترخيصات في الالتزام مسبقا لفائدة الحسابات المرصدة لأمور خصوصية و حسابات النفقات من المخصصات (الفقرة الثانية من المادة 26) ، بالمقابل حُظرت هذه الإمكانية بالنسبة لنفقات التسيير بالميزانية العامة (الفقرة الثانية من المادة 16) و نفس الأمر بالنسبة لمرافق الدولة المسيرة بطريقة مستقلة (الفقرة الثالثة من المادة 23).
إن التساؤل الذي يطرح بقوة في هذا الإطار يتعلق بالدور الذي كان يُفترض أن يضطلع به المتدخلون في صناعة التشريع المالي بالمغرب، و على رأسهم الوزارة المكلفة بالمالية و كذا الأمانة العامة للحكومة ، دون إغفال دور البرلمان في المراقبة و الاقتراح ، فكيف تغفل هذه الإشكالية على كل هؤلاء طيلة سريان القانون التنظيمي 7.98 لقانون المالية السابق، و التي جعلت من 17 قانون مالية سنوي غير دستوري؛ فأين كانوا كلهم من هذه التناقضات التشريعية التي أخلت توازن النظام القانوني المغربي؟! .
*باحث في القانون العام