أمينة المستاري
يعتبر العلماء مجتمعات الصيادين الجامعين "الفردوس المسالم"، ولم يظهر العنف إلا مع الثورة الزراعية ومع تراكم الملكية الخاصة، فيما يعتقد البعض الآخر أن عالمهم كان عنيفا بشكل استثنائي، وهما رأيان لا يتصلان بالواقع إلا بخيوط رفيعة في غياب بقايا أثرية كافية وملاحظات حول الجامعين المعاصرين.
هل كان عالم الصيادين الجامعين عنيفا؟
عاش أغلب الجامعين المعاصرين بأعداد محدودة في مناطق منعزلة وقاسية، وتم استبعاد فرضية القتال مع آخرين، ثم في وقت لاحق عاشت الأجيال الحديثة للجامعين تحت سلطة دول تمنع انفجار صراعات بينهم.
أما العلماء الأوربيون فقد رصدوا وضعية الجامعين المستقلين في شمال غرب أمريكا الشمالية في القرن19 وشمال أستراليا ما بين القرن19 وبداية القرن 20، حيث شهدت نزاعات مسلحة بين الثقافات الهندية الأمريكية والأبورجينال الأسترالية.
لا توجد لقى أثرية تدل على أن الموت كان بسبب الحروب أو العنف البشري، فهي إما شحيحة أو غامضة، ورجح العلماء أن تكون الأوبئة أو الأمراض أو جروح في الأنسجة الطرية التي لا تترك أثرا في العظام من أسباب الموت أيضا.
بوادي الدانوب وقبل الثورة الزراعية، وجدت هياكل عظمية في مجموعات حددت في 400 هيكلا، وثبت وجود آثار عنف على نسبة قليلة منها، فربما توفي بعضها جراء تأثره بجروح، واعتبر هذا العدد مرتفعا في تلك الفترة مقارنة مع نسب العنف في القرن العشرين الذي عرف حروبا دموية وإبادات جماعية ضخمة، واعتبر أن وادي الدانوب كان عنيفا بقدر عنف القرن 20 .
الأمر نفسه في مقبرة جبل سحابة بالسودان، حيث اكتشفت مقبرة تضم 59 هيكلا عظميا يعود ل 12 ألف سنة، ووجدت رؤوس حراب وسهام مغروزة في عظام 24 هيكلا أو بالقرب منها، منها 12 إصابة في هيكل امرأة، وفي كهف أوفنت في بافاريا اكتشف العلماء آثار بقايا 38 جامعا أغلبهم نساء وأطفال، قتلوا باستعمال الهراوات والسكاكين وألقوا في حفرين.
وخلص هراري إلى أنه إن كان الجامعون قد تبنوا نسقا واسعا من البنى الدينية والاجتماعية فهم اتصفوا أيضا بمعدلات متفاوتة من العنف.
حسب العلماء، يصعب إعادة بناء صورة أكبر لحياة الجامع الغابر وبناء أحداث محددة، في غياب معلومات عن التحالفات السياسية، فالعثور على بضعة عظام وحفنة أدوات حجرية تعتبر غير كافية للإجابة عن الأسئلة الحارقة، لذلك يظل غطاء الصمت يلف عشرات آلاف من سنين التاريخ.
يؤكد هراري أن الجامعين قاموا فعلا بأشياء مهمة، فقد شكلوا العالم من حولنا، وأحدثوا تغييرات في الأدغال والبراري، فقد كانت الجماعات المتجولة من حكائي القصص العقلاء القوة الأهم والأشد تدميرا التي أنتجتها مملكة الحيوان على الإطلاق.
كيف ذلك؟ يؤكد العلماء أنه قبل الثورة الذهنية، كانت الأراضي الأفروآسيوية مكان عيش الأنواع البشرية، التي لم تصل لأمريكا وأستراليا والجزر البعيدة، لعدم قدرتها الوصول إليها بالسباحة أو باستخدام أطواف مرتجلة
ونفس الأمر بالنسبة للحيوانات والنباتات، لذلك تطورت تلك الأماكن البعيدة متخذة أشكال مختلفة عن الأفروآسيوية، في وقت كان العالم مقسما لتجمعات من حيوانات ونباتات، وكان الإنسان العاقل على وشك وضع نهاية لهذه الوفرة البيولوجية.
بعد الثورة الذهنية، انطلق العقلاء لاستعمار أستراليا قبل 45 ألف سنة، فترة صعبة التفسير على العلماء، فهناك نظريات تقول بأن العقلاء بالأرخبيل الأندنوسي قاموا بتعلم كيفية بناء المراكب العابرة للمحيطات، وأصبحوا صيادين لأسماك المحيط وتجارا ومستكشفين، وبذلك وصلوا إلى أستراليا. واستعمروا جزرا صغيرة ومعزولة في الشمال وهناك أدلة تدل على وجود تجارة بحرية منتظمة بنيوزيلندة مثلا.
هذا الاستيطان يعتبره هراري من أهم الأحداث التاريخية، فقد تمكن بشري من مغادرة نظام أفروآسيا، حيث أصبح لحظتها النوع الأخطر في تاريخ كوكب الأرض. وتكيف البشر مع إحداث تغييرات في بيئتهم الجديدة.
بعد تقدم غزاة أستراليا داخل الأراضي، تركوا أثرا لا يمكن محوه، فواجهوا مخلوقات مجهولة كحيوان الكنغرالذي يصل طوله مترين ووزن ، والأسد الجرابي، دببة كوالا...
لكن في غضون آلاف من السنين تلاشت هذه الحيوانات الضخمة، وكذا أنواع من الحيوانات الصغيرة، فهل كان ذلك بفعل العاقل؟
العاقل...المفترس الكبير الجديد
يضع هراري ثلاثة قرائن تضعف نظرية العلماء، بكون المناخ المتهم الرئيسي في اندثار هذه الحيوانات، أولا فطقس أستراليا لم يحدث اضطرابا كبيرا حتى يتسبب في هذا الانقراض الشامل، فقد عرف الكوكب عصرا جليديا كل 100 ألف سنة في المتوسط، العصر الجليدي الأخير عرف ذروتين، الأولى قبل 75 ألف سنة، والثانية قبل 20 ألف سنة.
ثم القرينة الثانية تتعلق بدب الدبروتودون الضخم الذي عاش في استراليا قبل أكثر من مليون ونصف سنة وتأقلم مع عشرة عصور جليدية، لكن لماذا اختفى قبل 45 ألف سنة؟ إضافة إلى 90 في المائة من الحيوانات الأخرى؟ وليس للصدفة دخل في هذا الموضوع.
ثالثا يضيف هراري أنه حدثت انقراضات كبيرة تتزامن مع استيطان الإنسان جزءا من العالم الخارجي، خاصة في صفوف الحيوانات الكبيرة لنيوزيلندة، فبعد وصول العقلاء لجزيرة موريس ونيوزيلندة قبل حوالي 800 سنة، وفي غضون قرن أو قرنين انقرضت معظم الحيوانات الكبيرة المحلية إضافة إلى 60 في المائة من كل أنواع الطيور.
ولم يكن مصير الماموت في جزيرة رانجيل بالمحيط القطبي الشمالي أفضل من غيره، فقد تراجع وجوده بانتشار الإنسان العاقل في أوراسيا وشكال أمريكا، فقبل 10 آلاف سنة كان هناك ماموث فقط بجزر قطبية شمالية نائية، كرانجيل، لكنها اختفت قبل 4 آلاف سنة، وهو الوقت الذي وصل فيه الإنسان إلى هذه الجزر. ويطرح هراري تساؤلا حول كيف أمكن لمستوطني أستراليا أن يسببوا كارثة بيئية بها؟ يجيب الكاتب بأن دب الدبروتودون مثلا تعرض للانقراض ببطء، فقتل دب واحد كل بضعة شهور كاف لانقراضه على يد ما أسماه المؤلف " المفترس الكبير الجديد: العاقل".
التفسير الثاني أن العاقل عند وصوله أستراليا، قام بحرق مساحات شاسعة وغابات كانت تضم حيوانات ضخمة، فغير النظام البيئي لأجزاء من أستراليا، في حين أصبحت أشجار الأكاليبتيس النادرة منتشرة بكثرة فيما اختفت أشجار أخرى.
أما التفسير الثالث، أن التغيرات المناخية بأستراليا زعزعت النظام البيئي، ومع ظهور الإنسان الصياد بهذه الرقعة دفع هذا النظام إلى الهاوية، فكانت التوليفة كافية لانقراض هذه الحيوانات الكبيرة.
يضيف هراري إلى أن أسبابا وجيهة للاعتقاد أن لو لم يذهب العاقل إلى أستراليا لربما تعيش الآن الأسود الجرابية والدببة الدبروتودون والكناغر الضخمة...
في أمريكا، كان العاقل النوع البشري الأول الذي وصل لنصف الكرة الأرضية الغربي في 14 ألف سنة قبل الميلاد، وصلوا مشيا على الأرض لأن مستوى البحر كان منخفضا كفاية ، وربط جسر بري شمال سيبيريا الغربي بشمال آلاسكا الشرقي،
وذلك بعد أن تعلم صنع أحذية وملابس مدفئة وتكيف جسمه على العيش في سفانا، ووجد حلولا للعيش في أراضي ثلجية وجليدية، وطوروا أسلحة جديدة وتقنيات الصيد المعقدة، فغامر العقلاء للتوغل في المناطق المتجمدة، ربما هربا إما من الحروب والضغط السكاني أو الكوارث الطبيعية...
أو للبحث عن البروتين الحيواني المتوفر في لحم الماموت والحيوانات الضخمة الأخرى، والفرو والعاج الثمين...
ثم انتشر العاقل في القارة الأمريكية، وتأقلم مع المناخ والأنظمة البيئية، واستوطن أخلاف السيبيريين الغابات بشرق الولايات المتحدة ومستنقعات دلتا المسيسيبي وصحاري المكسيك والأدغال الحارة لأمريكا الوسطى..وصنعوا منازلهم في الأمازون وفتحوا طرقا في أودية جبال الأنديز وسهوب الأرجنتين ...
لم يكن استيطان أمريكا دون دماء، فقد واجه الأمريكيون ماموثات وماستدونات وقوارض بحجم الدببة وأسود ضخمة وقطط مخيفة وحيوانات كسلان التي كان وزنها يصل 8 أطنان وارتفاعها 6 أمتار
فقد كانت أمريكا مختبرا عظيما لتجارب التطور.., كائنات لم تعد موجودة فبعد وصول العقلاء ب 2000 سنة اختفت معظمها بعد ازدهار بعضها 30 مليون سنة، بل وحتى الحشرات والطفيليات.
بعد عثور علماء الحفريات والآثار الحيوانية على عظام متحجرة وجمال عتيقة وروث متصلب لكسلان، درست بدقة وخلصت التحاليل إلى أن كراث الروث وعظام الجمال تعود لحوالي 12 ألف سنة و9 آلاف سنة قبل الميلاد، وقد عثروا في منطقة واحدة على روث أصغر سنا، وفي جزر كاريبي عثر على أخرى أقل تعود ل5 آلتا سنة قبل الميلاد.
ويخلص هراري إلى أن البشر مذنبون رغم محاولة بعض العلماء نفي التهمة عنهم، بتعليل أن تغير المناخ هو السبب.
سفينة نوح
يستنتج هراري أن الانقراضات التي حدثت في أستراليا وأمريكا وأفروآسيا تثبت أن الموجة الأولى من استعمار العقلاء كانت إحدى الكوارث البيئية الكبرى والأسرع التي أصيبت بها مملكة الحيوانات، ففي زمن الثورة الذهنية كان هناك 200 جنسا من الثدييات البرية الكبيرة وفي زمن الثورة الزراعية بقيت فقط 100 منها.
وتكررت المأساة بصورة مصغرة بعد الثورة الزراعية. بجزيرة مدغشقر مثلا والتي عرفت اختفاء أنواع عديدة من الطيور والحيوانات الضخمة بمجرد أن وضع الإنسان قدمه عليها، ونفس الأمر بمناطق كبولينيزيون وسلومون وفيجي ونيو كاليدونيا بالمحيط الهندي، وجزر المحيط الأطلسي والمحيط القطبي والبحر الأبيض المتوسط...باستثناء جزر قليلة نائية أفلتت من عدوان الانسان، كجزر الغالاباغوس التي ظلت بمنأى عنه إلى حين القرن 19 .
أما الموجة الثانية للانقراض فبدأت مع انتشار الفلاحين، ثم الموجة الثالثة مع النشاط الصناعي، لذلك يؤكد هراري أن الإنسان يعتبر النوع الأكثر فتكا في سجلات علم الحيوان.
يعتقد الكاتب أن الحيوانات الكبيرة في البحار أقل معاناة، لكنها على شفير الانقراض نتيجة للتلوث الصناعي واستخدام البشر الجائر للموارد المحيطية، وفي حالة استمرار هذا الأمر ستنعدم هذه الحيوانات من أسماك القرش والحيتان والدلافين...ولن ينجو سوى البشر والحيوانات التي تخدمهم "في مطبخ سفينة نوح".