جريمة مؤنثة... دفنت ابنها في رف فوق الحمام

الكاتب : الجريدة24

10 فبراير 2024 - 06:00
الخط :

رضا حمد الله

توفي زوجها بسبب مرضه المزمن. وترك أبناءهما صغارا في رعايتها. تعبت كثيرا لأجل أن يعيشوا. عملت منظفة بمقهى وبائعة للخبز قبل أن تجد عملا في معمل للنسيج. منذئذ استقرت ظروفها وتحسنت تدريجيا. لها راتب شهري متوسط يعينها على تدبر حاجيات ابنيها وابنتها. وتستغل كل نهاية أسبوع لمساعدة نساء من معارفها، على تنظيف شققهن ومساعدتهن في المطبخ والغسيل.

ظلت وفية لزوجها المرحوم، ولم تفكر أبدا في الزواج. ومر عقدان وهي على هذا الحال، وكبر الأبناء. ربتهم أحسن تربية. تفوقوا في دراستهم ونالوا شواهد فتحت في وجوههم آفاق العمل. أكبرهم نال الإجازة في كلية الحقوق ويشتغل محاميا. وابنتها ولجت سلك التعليم مدرسة للرياضيات في ثانوية بمدينة مجاورة. تزوجت زميلا لها ولم تتقاعس عن الإنفاق على أمها وأخيها الأصغر. خصصت لهما جزءا من راتبها.

وحده ابنها الأصغر ظل عاطلا. رغم تخرجه من كلية الآداب ونيله الإجازة في الجغرافيا، فإنه لم يهتدي لجغرافية مسالك الوصول لعمل يصون كرامته عوض أن يبقى عالة على أمه. عمل مساعدا لتاجر بالمدينة العتيقة حيث يقطنان في منزل موروث. لكنه كان عاجزا عن تحمل تعب العمل وشقائه، ولم يخبر في ديبلوماسية التجارة، لم يكن يحسن التفاوض والتعامل مع الزبناء، ليطرده المشغل.

جرب كل حيل العيش والبحث عن مدخول، فلم يفلح في كل المهن. حظه العثر أزم نفسيته. أصبح انطوائيا على غير عادته. لا يغادر المنزل إلا في توقيت تقل فيه الحركة بدروب المدينة القديمة، حتى لا يصادف أحدا فيحدثه أو يسأله. أخته وأخوه لم يبخلا عليه بالمال رغم التزاماتهما الأسرية. بما يمنحانه كان يتدبر حاجياته من السجائر المبتلي بتدخينها منذ لفظته الجامعة لتتلقفه البطالة. وضع يتقبله على مضض، فهو لا يمكن أن يبقى عالة عليهما.

كان يعيش روتينا يوميا زاد من

، فارتمى في حضن لفافات المخدرات وبحث فيها وفي قنينات النبيذ، عن مهدئ لأعصابه ينسيه عما هو فيه. وبإدمانه تغيرت حياته، وتخلص من انطوائيته ليقبل على حياة فقد فيها بوصلة الاتزان والتعقل. أصبح يغادر المنزل ويترك والدته وحيدة، ولا يعود إلا صباحا في حالة يرثى لها بالكاد يتحرك من شدة السكر. حالته لم تعد ترضي والدته. وأخبرت شقيقته وشقيقه بها، أملا في تدخلهما لإعادته للطريق الصحيح.

فاتحاه في زيغانه عن سكة الصواب، لكنه لم يولي نصائحهما اهتماما. استمره في ضلاله، غير مكترث وزادت مشاكله مع والدته.  عدم احترامها لها دفع شقيقه لحرمانه من المصروف عقابا. فعل ذلك وسايرته أختهما. لم يدريا أنهما بذلك يحكمان عليه بما لم يتوقعاه. ظنا أنه سيتوب ويعتذر ويعود لما عرف عليه من احترام لوالدته وحسن معاملتها. كل شيء سينقلب رأسا على عقب في حياته وعلاقته بهما ووالدته.

رغم تأزم ظروفه وانعدام مدخوله، لم يقلع عن التدخين واحتساء الخمر كل ليلة. رفاق سوء تدبروا جزء من مصاريفه مؤقتا، قبل أن يحولوه خاتما متحكم في وضعها وأداة طائعة لطلباتهم التي تجاوزت حدود المعقول. كانوا يعلمون أن أمه تدخر مالا. تقتصد في المصروف لتوفير ما قد ينفع وقت الشدة. وحرضوه على سرقة مدخراتها من المال والحلي، وأقنعوه بالفرار.

ذات يوم استغل سفر والدته لمدينة مجاورة حيث تقطن ابنتها، وبعثر كل محتويات رفوف الخزانة. عثر على مليوني سنتيم وحليا ومجوهرات، استولى عليها وسافر لمدينة ساحلية. خطط مع أصدقائه للهجرة إلى الديار الإسبانية لتحسين دخله ووضعه الاجتماعي. هناك جنة فوق الأرض، هكذا خال هذا البلد، حالما بالعبور الآمن لحيث فرص الشغل ورغد الحياة ممكن.

غابت الأم 4 أيام عن منزلها قبل أن تعود إليه. صدمتها كانت كبيرة لما اكتشفت سرقة ما ادخرته. ظنت أن لصا تسلل إلى المنزل في غياب ابنها الأصغر واستولى على مدخراتها. كانت شبه متيقنة أن ابنها لم يفعل ذلك. لقد ربته أحسن تربية. لكن ثقتها سرعان ما تلاشت بعدما لم تجد له أثر. غاب أيام دون أن تهتدي لحيث يوجد، إلى أن علم شقيقه بسفره لتلك المدينة الساحلية استعدادا للهجرة إلى حيث يعتقد أن الحياة أسهل وأحسن.

مرت 3 أشهر على سفره ولم تتوصل الأسرة بأي خبر عنه، حتى أنها اعتقدت أنه مات غرقا. أخبار غرق قوارب الموت وعشرات من عليها من الحالمين بمستقبل أفضل، كانت تتداول بشكل شبه يومي. وقد يكون بين الغرقى من شباب عاطل يغامر من أجل أن يعيش ويبني مستقبلا ولو في أحلامه بعدما انغلقت كل أبواب العمل والرزق في وجوههم رغم حصول فئة منهم على شواهد جامعية عليا. أسابيع قضتها الأم مترقبة خبر عنه وإن كان حيا أو مات.

ذات صباح كانت منهمكة في غسل الأواني بالمطبخ، لما سمعت دقا على الباب. أسرعت لفتحها، فإذا به هو عاد بعد غياب. لم يترك لها فرصة العتاب وانحنى على قدميها مقبلا. توسل مسامحتها وعفوتها بتقبيلهما والأيدي والرأس. قلب الأم لا يمكن أن يقسو خاصة في مثل هذه المواقف.

ابنها عاد ومن ملامحه يظهر مقدار معاناته. كان شاحبا وجسمه هزل. 3 أشهر لن ينسى مرارة ما عاشه فيها. حقا نجا القارب الذي كان يقله و50 شابا. لكن قوات الحرس الإسباني كانت لهم بالمرصاد. اوقفتهم قبل أن يلقوا نظرة على أراضي هذا البلد، وسلمتهم للمغرب حيث أوقفوا وحوكموا وحكم عليه بعقوبة سالبة للحرية أنهاها وعاد لأمه متوسلا.

سامحت الأم ابنها وعادت مياه الود لمجاريها. لكنه سرعان ما عاد لسابق عهده بالانحراف. عاد لأحضان الدرب ومجالسة رفاق السوء المعاد ترحيلهم بدورهم. وأحيى الابن عادة السمر خارج المنزل. وعاد لتدخين الحشيش وتناول الخمر. وزادت طلباته واستفزازاته للأم في حال رفضها تمكينه من مصروف الجيب. وتوترت العلاقة من جديد بينهما حتى أنه لا يمر يوم دون سماع صخب صراخه وعتابها.

في تلك الليلة تجدد التوتر وسب الابن أمه ما لم تعهده فيه. والتهبت أعصابهما ولم تتمالك نفسها ولم تستفق إلا وهي تعاينه ساقطا أرضا يلفظ أنفاسه الأخيرة. ضربته 5 ضربات بسكين المطبخ، غرزته في صدره وقلبه وعنقه. قتلته وجلست تبكيه وتنتحب لضياعها. لم تخبر أحدا بما وقع. وجلست تفكر في طريق للنجاة من ورطتها. لقد ضاع كل شيء. الأم الاي صبرت عقدين دون زواج لتربية أبنائها، ستقتل أحدهم.

فوق حمام المنزل عند الباب الخارجية للمنزل، رف تخزنه فيه بعض المواد الاستهلاكية. هناك قررت أن تدفنه في غفلة من الجميع وبنفسها دون مساعدة من أحد. اشترت كمية من الإسمنت والرمل والأجور، وشرعت في بناء الرف بعدما استعانت بسرير خشبي لتسهيل رفع الجثة إليه.

إدخالها مواد البناء عاينه عون سلطة ظنها أنها تستعد لمباشرة لناء عشوائي بالمنزل. لذلك لم يتوانى في إخبار القائد والمصالح المختصة. ولما حضرت لجنة مختلطة للتثبت، فوجئ أفرادها برائحة كريهة تنبعث من الرف. وبإزالة الأجور، صدموا لهول ما رأوه. جثة الشاب مدفونة بالرف. خبر شاع سريعا وسط المدينة، فحضرت الشركة وعاينت الجثة ونقلت لمستودع الأموات واعتقلت الأم واستنطقت فاعترفت بكل شيء وأودعت السجن وحوكمت وحكم عليها ب15 سنة سجنا نافذة، لم تنهيها لوفاتها حسرة على ما ارتكبته.

آخر الأخبار