المؤثرون..ثروة بلا عمل !

الكاتب : وكالات

27 يونيو 2020 - 05:00
الخط :

لطالما اقترن استمرار الوجود الإنساني بفكرة "العمل"، أي أن يبذل الإنسان جهدا ليُنتج شيئا، أو يُقدِّم خدمة في مقابل الحصول على أجر أو أي مقابل يُلبّي احتياجاته، وكانت التحولات الجذرية في آلات العمل وتنظيماته تُشكِّل التحولات الحضارية التي تمسُّ تنظيم الاجتماع الإنساني وهوية الإنسان نفسه. الفلسفة الماركسية هي الفلسفة التي تمحورت حول التفكير في "العمل"، ليس باعتباره نشاطا إنسانيا يوميا يُشكِّل وسيلة لتحقيق أهداف معينة، بل من حيث كونه يُشكِّل الهوية الاجتماعية والبنى الفوقية للمجتمع.

لكن في الوقت الحالي يبدو السؤال حول العمل سؤالا مختلفا، لأن معنى العمل لم يعد مشروطا بالغاية التقليدية التي تُبرِّره، وهي تقديم الخدمات أو المنتجات سواء أكانت منتجات مادية أو فكرية إبداعية؛ إذ يمكن للعمل في وقتنا الحالي ألَّا يكون منتجا، ولكنَّه مُدِرٌّ للدخل، بحيث تحدث دورات عديدة شبه "وهمية" لرأس المال في دوائر مغلقة من الاستثمار الذي بلا عمل.

يسمى المجتمع الحالي الذي نعيش فيه "مجتمع المعرفة"؛ إذ تظهر المعرفة بأشكالها كافة كقوة اجتماعية واقتصادية وسياسية، لذا فقد سمى داهرندورف هذا العصر بعصر رأس المال من دون عمل، لأن مجتمع العمل يختفي

وبعيدا قليلا عن الإشكالية الكبيرة التي يُشير إليها داهرندورف حول امتلاك المعلومات من قِبل مجموعة محددة من البشر تدير رأس المال، وتمنع البقية من الوصول إلى كليهما، المعلومات ورأس المال معا، فإن نموذج "المؤثرين" (Influencer) عبر منصات التواصل الاجتماعي هو نموذج حيّ لهذه الفكرة، وتجسيد حقيقي لفكرة اختفاء مجتمع العمل، وولادة مجتمع جديد قد يكون بلا عمل سوى كونه يستفيد من مزايا ملكية مجموعة محددة من البشر للمعلومات وتحليل البيانات.

تستثمر مواقع التواصل الاجتماعي منذ عشرة أعوام تقريبا "معلومات" المنتسبين إليها، بحيث تشجع أكثر فأكثر على أن يصرح الأفراد بميولهم ورغباتهم، وكسر حاجز خصوصيتهم، إننا نبني هوياتنا الافتراضية دون علم بالكيفية التي تستغل فيها هذه الهويات، مثلا نحن لا نعلم -في الأغلب- عن وجود برنامج "سبوكيو"، وهو "تقنية بحث تجمع معلومات عن ملايين الأفراد الموجودين على مواقع التواصل الاجتماعي والأماكن البعيدة على الإنترنت… يستخدم تلك المعلومات لإيجاد وصف للأفراد، مثل "لديه دوافع ذاتية"، و"يتبرع لقضية معينة"…"، الخطير أن "سبوكيو" هو برنامج يستطيع أي شخص الدخول إليه والبحث عبره مقابل خمسة دولارات شهرية، ما العمل في هذه الحالة؟ لا شيء! الذكاء الاصطناعي سيحل جميع المشكلات، الخوارزميات تعمل بكفاءة، تقوم ببحثها عن الكلمات وتجمع وتُصنِّف، العمل الوحيد هو بيع المعلومات لمجموعة من الراغبين بها لأغراض معينة.

تعمل مواقع التواصل الاجتماعي على الاستثمار بمعلومات منتسبيها بالطريقة ذاتها، وتُحقِّق أرباحا مهولة عبر عملية بيع المعلومات للشركات التجارية، أو الاتفاق معها على ضمان وصول إعلاناتها للفئات المستهدفة؛ كأن تظهر إعلانات ملابس الأطفال للأمهات الجدد، فبمجرد أن تعلن الأم عن قدوم مولود جديد عبر فيسبوك، تُستَثمر المعلومة لغرض دعائي، فتظهر الإعلانات المتتالية لمنتجات الأطفال وألعابهم وما إلى ذلك.

في الحقيقة الأمر لا يتطلب إعلانا أيضا، يكفي أن تفتح إحدى قنوات يوتيوب لمشاهدة نوع جديد من السيارات، لتشاهد سيلا من الإعلانات حول السيارات الحديثة، وربما في بعض الأحيان يكفي أن تتكلم عبر مسنجر عن رغبتك في شراء سلعة ما، لتجد فيسبوك قد أغرقك بكل أشكال تلك السلعة، هذه هي تجارة البيانات. بينما أنت تُقدِّم يوميا المزيد من المعلومات لمواقع التواصل الاجتماعي، هناك مَن يكسب المزيد من رأس المال المجمَّد لغرض منافسات قائمة الأكثر ثراء في العالم، الأمر لا يتطلب أكثر من معلومة واحدة من كل مشترك في المواقع الاجتماعية لتتكوّن ثروة هائلة لدى مجموعة أشخاص مالكين لبرمجة البرامج والتطبيقات التي تستخدمها ببراءة، فأين هو العمل؟ مجتمع العمل يختفي لأن الأثرياء في العصر الحالي ليسوا مالكي مصانع ولا حرف ولا يقدمون منتجات أو خدمات، إنهم مالكو برمجيات في الغالب.

في السابق، كانت الشركات تدفع المال لشركات مثل فيسبوك وإنستغرام مقابل إظهار إعلاناتها للمستهلكين المعنيين، كانت الإعلانات تجارية كالمعتاد، تعتمد على أفكار تسويقية مؤثرة، مثلا أن يعرض الإعلان صورة لعارضة أزياء شهيرة ويقرنها بسؤال: "هل تريدين أن تكوني أنيقة مثل…؟ من السهل اختيار أزياء أنيقة من هنا"، أو غيرها من حِيَل التسويق التي يقوم عليها خبراء الحملات التسويقية، لكن هذا لم يعد كافيا بالنسبة للشركات الصغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء، وتم اختراع "الإعلان الحي"، فما الإعلان الحي؟ إنهم المؤثرون!

يزداد عدد مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي يوميا، ويزداد الهوس بفكرة استعراض الحياة اليومية أو استعراض الذات، أو استعراض أي شيء يمكن استعراضه، بعض الأفراد يُديرون "عرض" معلوماتهم التي يُقدِّمونها كما يُديرون منتجا بالفعل، وبمنطق مصطلحات العوالم الافتراضية تُسمى هذه الإدارة "صناعة محتوى".

بهذه الصناعة للمحتوى، يتحول البعض -بفضل عقلية تسويقية جيدة أو بفضل الحظ أحيانا- إلى شخصيات شبه عامة، أو ما أُطلق عليه "المؤثرون"، ومن ثم يأتي دور الموقع نفسه الذي يمنح شرعية هذه الشهرة من خلال بعض المزايا وعرض عدد المتابعين، فارتفاع عدد المتابعين يوحي بأهمية "محتوى" ما تُقدِّمه هذه الشخصية؛ لأن عداد المتابعين هو النقطة الفاصلة في النهاية وليس المحتوى نفسه، إن ارتفاع

عدد المتابعين هو الغاية في حد ذاتها، وهكذا يدخل الجميع منافسة تراهن على الجميع، فالجميع يريدون أن تصبح حساباتهم بعدد متابعين أعلى.

في بداية انتشار منصات التواصل الاجتماعي كانت الشخصيات المشهورة واقعيا هي الأعلى متابعة، مثل الممثلين ومقدمي البرامج ولاعبي كرة القدم والسياسيين، لكن في الأعوام الثلاثة الأخيرة، شهد ميزان الشهرة انقلابا حقيقيا، فقد بدأت مواقع التواصل الاجتماعي تغير من قواعد اللعبة، وتبدأ بطرح إمكانات جديدة تساعد على الشهرة دون الحاجة إلى وسيط واقعي، وقد لعبت المواقع المختصة بالصور والفيديوهات، وفيديوهات البث المباشر، وفكرة "daily stories" دورا كبيرا في حماسة البعض لتحقيق شهرة تبدأ من العالم الافتراضي وتنتهي إلى الواقع، على عكس ما كان يحدث سابقا؛ إذ تبدأ الشهرة من إنجازات واقعية تنتهي إلى ارتفاع عدد المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي، باعتبار هذه الشخصيات المشهورة شخصيات عامة.

مع هذه الانقلابات في تعريف "المؤثرين"، وسرقة البساط من تحت أقدام المشاهير واقعيا، بدأ انقلاب موازٍ في قواعد لعبة التسويق؛ فإذا كانت العلامات التجارية العالمية تعتمد على بعض الوجوه المعروفة للترويج لمنتجاتها، فإنها بعد هذا الانقلاب بدأت تُفكِّر بالمؤثرين الصغار، الذين صنعوا قصص "نجاحهم" على أعين العامة، وخلال عام أو عامين تحوّلوا إلى شخصيات ذات حسابات بأعداد متابعين كبيرة، بغضّ النظر عن الفائدة الحقيقية مما يُقدِّمونه، فربما كان كل ما يُقدِّمونه هو استعراض حياتهم اليومية عبر الصور فحسب.

من هنا بدأت مقارنة في عالم التسويق بين "mega influencer" وبين "micro influencer"، فالنوع الأول (ميجا) من المؤثرين هي شخصيات المشاهير ممن لديهم أعداد كبيرة جدا من المتابعين، لكنهم يحتاجون إلى ميزانية أكبر من أجل الموافقة على الترويج لمنتجات شركة

ما، في المقابل؛ فإن النوع الثاني (مايكرو) لديه عدد متابعين أقل، لكنه أكثر فاعلية، حيث يستطيع عبر نشر يومياته القريبة من الحياة اليومية العادية اكتساب عنصر ثقة متابعيه، بعكس المشاهير الذين يحتفون بفكرة "خصوصية حياتهم اليومية"، ويعرضون جانبا واحدا من حياتهم، وهو الجانب الذي يشتهرون به، وهكذا يفتقدون بسبب هذه الأُحادية والبُعد عن مجريات الحياة اليومية العادية عنصر القرب المولِّد للثقة والحميمية مع المتابعين؛ لذا بدأت الشركات تتوجه خلال العامين الأخيرين للنوع الثاني -رغم أن عدد متابعيه أقل- لأنه أقل تكلفة، وأكثر فاعلية.

هكذا تحوّلت الإعلانات من عملية "تمثيل" إلى إعلانات حية؛ فهؤلاء المؤثرون الذين يُروِّجون لاستخدام منتجات معينة بعد تجربتها هم إعلان حي للمنتج، يبدو صادقا وبلا تمثيل، فحين تعرض الفاشونيستا الملابس الجديدة التي ارتدتها وتستعرض مزاياها وجمالياتها، تبدو فتاة عادية تشبه الأخريات ظاهريا، إنها ليست ممثلة ولا عارضة أزياء، إنها مجرد امرأة تعيش حياة يومية وتشارك يومياتها وتنصح ببعض المنتجات بناء على التجربة، هذا ما يراه المتابع، لكن الحقيقة أن الفاشونيستا تدير عملية تسويقية معقدة خلال إدارة المحتوى الذي تُقدِّمه، قد يكون بدأ بداية عفوية، لكنه مع الوقت يكتسب طابعا أكثر جدية وتعقيدا.

تتحول فكرة "المؤثرين" إلى ظاهرة، إنها طريق سريع وسهل للربح، وأحيانا يمكن تحقيق أرباح مهولة عبر أفكار معينة، يمكن أن تكون جذابة بسبب غرابتها فقط، مثلا، هناك قناة عبر يوتيوب لشاحنة تدوس يوميا أي شيء يمكن سحقه، إنها فكرة لا تُنتج معرفة، ولا يمكن أن تكون مادة أولية لمعرفة مُنتِجة، لكنها تحظى بعدد كبير من المتابعين وشهرة عالمية، وهذا يعني أنها تتقاسم مبلغا كبيرا من مكاسب إعلانات يوتيوب التي تظهر على فيديوهات القناة التي تُحقِّق مشاهدات عالية، تُشكِّل القناة مصدرا لدخل

كبير، لكن ما العمل الذي يقوم به صاحبها؟ إنه عمل لا يُنتج منتجات مادية ولا فكرية ولا حتى خدمية؛ إنه نوع جديد من الكسب بلا عمل.

وفي عالم رأسمالي يرغب فيه الجميع بالوصول إلى طريق سهل وسريع من أجل كسب المال والشهرة فإن هؤلاء المؤثرين الذين شهد أقرانهم قصص نجاحهم السريعة يصبحون أنموذجا، ويفتحون أمام الآخرين الإمكانيات ذاتها، لأنه دخل لا يتطلّب سوى هذه الخبرة في تسويق الذات لتسوِّق من أجل الآخرين.

أصبح المؤثرون فئة من الشباب، لذا فإن اجتماعا لمئة مؤثر قد عُقد في القاهرة بتاريخ 16 يوليو/تموز 2019 لمناقشة مشكلات منصات التواصل الاجتماعي، وخلال هذا اللقاء قالت دوروثي شيا ، نائب رئيس البعثة الأميركية بالقاهرة، إنه "يوجد فرق كبير بين التعامل مع وسائل التواصل في مصر والولايات المتحدة، والأمر كله حول كيفية أن نتواصل، في الولايات المتحدة يتم تسويق المنتج جيدا وتقريبه من المشتري، ووسائل التواصل تفتح الكثير من الأسواق، عبر الأصدقاء وأصدقائهم، بحيث يُمكن توصيل فكرتك أو منتج عبر عدد كبير للغاية، لذلك فالشركات تتطلع لهذا الجمهور وشبكات الاتصال من أجل ما تُقدِّمه".

وقد عدّت شيا أن انخراط الشباب في عالم منصات التواصل الاجتماعي يضمن لهم وظائف غير متاحة على أرض الواقع، وأن هذا سوف يساعد على "دفع النمو الاقتصادي للمجتمع المصري". في السعودية (5)، كان مجتمع "المؤثرين" بحاجة إلى ضبط قانوني، لذا كشفت وزارة الثقافة والإعلام عن إعداد وثيقة لتنظيم عمل المؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي في السعودية، لوضع ضوابط تنص على التزام المؤثرين بالمعايير الأخلاقية، والقيم الدينية والعادات الاجتماعية، لكن الغريب أن السعودية أرادت "قوننت" هذا النشاط باعتباره "عملا"، فتضمّنت الوثيقة اقتراحا بإلزام المؤثرين بالحصول على "رخصة" في حال ممارستهم أنشطة إعلانية عبر حساباتهم، ويتم تجديد الرخصة سنويا، لضمان التزامهم بالموضوعية.

أما في الإمارات، فقد أعلن نادي إعلامي بدبي عن نيته افتتاح "دبلومة المؤثرين" على وسائل التواصل الاجتماعي، ويهدف إلى تدريب المؤثرين في مجال التواصل الاجتماعي على التواصل الإستراتيجي، وتمكينهم من إنتاج محتوى فعّال على منصات التواصل الاجتماعي، بحيث يستطيع كل المهتمين بكسب العيش من وسائل التواصل الاجتماعي أن يُسجِّلوا في الدبلومة.

ولأن التسويق لا يكفُّ عن التسويق، فقد أُنشِئ موقع إلكتروني ليعمل وسيطا بين الشركات وبين المؤثرين، فيعمل على إيجاد المؤثر المناسب للترويج للمنتج المراد، بالإضافة إلى مدونته التثقيفية التي تُقدِّم دليلا إرشاديا كاملا حول طريقة الدخول إلى عالم المؤثرين وتسويق الذات.

في النهاية، يمكن طرح تساؤل حول إذا ما كانت عوالم الربح وتكوين الثروة عبر جمع البيانات وتحليلها، وتسويق الذات بناء عليها، لتصبح هي الأخرى مسوِّقا لمنتج من المنتجات، هل هذه العوالم يمكن أن تبني اقتصاديات المجتمعات النامية مستقبلا؟ هل يدفع المؤثرون مجتمعاتهم نحو المزيد من الاستهلاك؟ أم يُغيِّرون الفكرة حول العمل؟ تزداد أفواج المنافسين على "التأثير" يوميا، يبدو هذا من خلال التدفق اليومي لمحاولات إنشاء قنوات يوتيوب من أجل الكسب، أو استعراض الحياة اليومية عبر إنستغرام، أو الإتيان بأي فكرة من أجل رفع عداد المتابعين أو زيادة عدد المشاهدات والقراءات، والوصول إلى الشهرة، التي توصل بطريقها إلى الكسب عبر اللا شيء، أو عبر المحتوى الذي يُقدِّم أفكارا بغض النظر عن طبيعتها؛ إذ تبقى الأفكار مجرد دائرة من أجل المزيد من الأفكار، ويبقى السؤال: ماذا حدث لمجتمع العمل؟

*عن الجزيرة بتصرف

آخر الأخبار