الإسلام السياسي من الرؤية إلى الظاهرة

الكاتب : الجريدة24

16 أكتوبر 2021 - 01:00
الخط :

يجد المرء نفسه في الآونة الأخيرة مدفوعا إلى الكتابة في بعض المواضيع المتصلة بالأحداث المتسارعة والمتتابعة والتي تخلق الحدث، أو لنقل أن هناك أطرافا تريد لتلك الأحداث احتلال مكان الصدارة على المستوى الإعلامي والسعي إلى بناء قناعة عامة ممهدة لتحول ما وممهدة الرأي العام في منطقة جغرافية معينة لاستقبال أيديولوجية محددة وإلغاء أخرى.

والذي يثير علامات استفهام كبيرة وهو مشاعر الشك التي تطالع المتأمل في بعض مكونات الخطاب الذي مازال الذراع الدعوي للإسلام السياسي يعتقده ويروجه، وهو خطاب ما فتئ يميل إلى تأكيد التمركز حول الذات والإيمان بخلو الساحة من غيرهم وعدم وجود سواهم في ساحة الإصلاح، وهذا لعمري نوع من الوعي المغروس في صلب الرؤية المحركة لأغلب حركات الإسلام السياسي.

جاء في وثيقة منشورة لحركة الإصلاح والتوحيد ما قد يفهم على أنه تمركز حول ذات الجماعة أو الحركة ومما جاء فيها « والحركة الإسلامية إذ اختارت لنفسها ما اختارت من عمل إصلاحي وتجديدي لهي أولى الناس بهذا الفقه الشريف عن الله تعالى»([1]) الذي يفهم من هذه العبارة على الأرجح هو فكرة التمركز حول الذات الحركية من زاوية الاعتقاد بأن الحركة جديرة بالفهم السليم لفقه الاصلاح وبكونها، أولى الناس بهذه المهمة لتمكنها من الشروط الموضوعية للقيام بذلك، وتمكنها على الخصوص من ناصية القيم والأخلاق والعلم وربما الفهم السليم للواقع والاستيعاب الكلي لخصوصيته وإشكالياته.

إن ما يمكن الخلوص إليه من خلال استقراء الأحداث الراهنة واستقراء بعض المواقف والتصرفات السياسية والثقافية والاقتصادية هو وجود معالم تحولات تلوح في الأفق. وقد يتفق الملاحظون حول بعض التكهنات وقد يختلفون، لكن من حق الجميع التعبير الحر عن وجهة النظر الخاصة المعبرة ولا شك عن الخلفية الفكرية والرؤية للعالم والأحداث في الوقت الراهن، في ضوء أن البعض يميل إلى معالجة الحدث مفصولا عن باقي عناصر الصورة وكأنها أحداث ومواقف وتحولات مفصولة عن بعضها البعض، في حين يميل طرف آخر إلى ربط الحدث/الأحداث بما قبل وبالراهن وربما بما قد يأتي في المستقبل.

وفي ظل الاخفاقات التي تعرض لها الإسلام السياسي في مناطق مختلفة من العالم العربي والإسلامي، تعالت الأصوات داعية إلى وجوب القيام بمراجعات فكرية ومنهجية وكذلك مراجعات أخلاقية في صلب الرؤية المحركة والموجهة، وقد سبق لهذه الأصوات أن دعت لهذه المراجعات، قبل انفجار الربيع العربي وقبل وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى الحكم، لكنها اليوم تبدو من وجهة نظر هذه الأصوات أكثر إلحاحا وأكثر ضرورة في ظل الأحداث الضاغطة، وفي ظل الإخفاق الكبير الذي أصاب هذه الحركات عند مباشرتها لعملية التدبير السياسي، بعد عاصفة الربيع العربي.

بالرغم من ميل البعض إلى تأكيد سعي أطراف متمكنة في دواليب الدول إلى إفشال تجربة الإسلام السياسي وإعاقتها، فإن هذا الإسلام من خلال حركاته وأحزابه التي تصدرت المشهد السياسي بعد الربيع العربي، قد حملت معها أسباب فشلها. فمن جهة  لم يكن إيمان الإسلام السياسي بالديمقراطية إيمانا كاملا، وهي التي أطلقت خلال عقود دعوات تروج لعدم تعارض منظوماتها الفكرية والحركية مع الديمقراطية، بل عدم تعارض منظومة الإسلام كلها والديمقراطي.

ادعت هذه الحركات والأحزاب التزامها بالخيار الديموقراطي في أوساطها وداخل دواليبها، لكن ذلك كله لم يتعد حد الشعار والدعاية وإعطاء انطباع الإيمان بالديمقراطية جلبا للثقة، فادعاء الاقتناع بالديمقراطية كان وسيلة لا غاية، ولم يصدر عن اعتقاد في أهمية الخيار الديمقراطي وضرورته، وإذا كان الحكم على النوايا لا يستقيم أخلاقيا فإن التصرفات الصادرة من بعض قيادات هذه الحركات اعطى الانطباع بانسداد الأفق الفكري وغياب وعي حواري يقبل الرأي المخالف والتصور الآخر.

بعض الأحداث متشابهة والمرتبطة بروابط متينة في بعض الحالات أو بروابط رفيعة أو خفية في حالات أخرى، لكن يمكن اختصارها في عنوان كبير هو "ظاهرة الإسلام السياسي"، فهذا العنوان يرجح من خلاله النظر في بعض الأحداث الموصولة به باعتباره عنوانا لظاهرة ما توقفت عن التطور والتبلور منذ قرن من الزمت على أقل تقدير، ومحاولة فهم وتحليل الحدث في دائرة خصوصيته المحلية أو الجغرافية، قد يعطي جزءا من الصورة لكن ليس كل الصورة. ولذلك وجب الالحاح على أهمية النظر إلى الظاهرة ببعد شمولي لا يلغي الجذور التاريخية والفكرية والثقافية، لأن أصول الظاهرة تعود معنويا على الأقل إلى مرحلة مقاومة الاستعمار ومرحلة صدمة اكتشاف تفوق الآخر» الكافر «وضياع شعور الشهور الحضاري. والراجح أن هذا الشعور ظل مسيطرا على وعي حركات الاسلام السياسي عندما دشنت دخولها إلى دواليب الدولة من بوابة المشاركة السياسية وبوابة الديمقراطية دون التخلص من تأثير وعي مقاومة الاستعمار ومواجهة "الكافر" ووعي الشهود الحضاري، بعبارة أخرى إن  الظاهرة حين وصولها إلى الحكم بشكل أم بآخر دخلت وهي مازالت  في جلد من يقاوم الاستعمار والكافر، في ظل استمرار خطاب دائم التردد وهو كون الاستعمار خرج من الباب وترك خلفه من يمثل ثقافته ويدافع عنها، ناهيك عن  مقولة التبعية الثقافية والفكرية وغيرها مما يعتبر أوراما ينبغي استئصالها حسب مضمون هذا الخطاب، الذي تتبناه هذه الحركات.

يبرز في هذا المقام سؤال بالغ الأهمية وهو إلى أي حد يمكن اعتبار ما يطلق عليه الإسلام السياسي ظاهرة، من خلال سؤال محوري وهو هل هذا الإسلام الذي يوصف بالسياسي أصل متجذر في عمق المنظومة الدينية للإسلام ولا يمكن الحديث عن الإسلام إلا وهو مربوط بالسياسية، وهل الإسلام والسياسية وجهان لعملة واحدة كما قد يدعي دعاة الإسلام السياسي؟ أم هو مجرد ظاهرة عابرة فرضها الواقع التاريخي المركب في الأقطار التي تدين بالإسلام؟ وهل الظاهرة بصورتها الراهنة نابعة من عمق الرؤية في أصولها الصافية؟ أم هو مجرد فهم خاص فردي أو جماعي لحقيقة المنظومة الإسلامية في ظل التفاعل والواقع في المجال السياسي؟

وإن الإجابة على هذه القضايا يقتضي الاستيعاب السليم لطبيعة منظومة الإسلام وتبين الحيز الذي يحتله السياسي من المنظومة، مقارنة بالمجالات الأخرى وجميعها متصل بالإنسان في مستوياته المختلفة. ومن هنا فإنه إذا كانت السياسة هي التفاعل العام وكيان الإنسان في مختلف أبعاده المعنوية الروحية والمادية الواقعية، بما يضمن أمنه وخلاصه في العاجل والآجل، فإن الإسلام دين سياسة في المقام الأول، أما إذا كانت السياسة هي أسلوب تنظيم الحكم ومنهج الوصول إلى ذلك مع ما يطلبه ذلك من منافسة وصراع وتحزب وفرح بالذات وادعاء التحكم في قارب النجاة، فالغالب أن الإسلام بريء من ذلك ولم يحث عليه بقدر ما حث على التمسك بالأخلاق والقيم والإلحاح على أن سلامة الإنسان في الآجل والعاجل مرهونة بأخلاقه ومعاملاته وسلوكه تجاه خالقه وتجاه الكون وما فيه بما في ذلك أبناء جنسه.

لقد أصل أبو بكر للعمل السياسي بمقولته المشهورة، التي كادت تصبح عبارة مسكوكة "الصدق أمانة والكذب خيانة" في ظل دولة متشبثة بمنظومة أخلاقية دينية طرية وما تزال محافظة على نظارتها وحديثة عهد بالوحي، وحديثة عهد كذلك بمن كلف بمهمة تبليغ الوحي وتوجيه الناس إلى ما يضمن سعادتهم.

وقد تستعصي مقارنة مقولة أبي بكر بمقولة مشهورة لأحد أهم أعلام الفكر السياسي الغربي المفكر السياسي ميكيا فئلي الذي يؤكد بأن "الغاية تبرر الوسيلة" وهي مقولة تأتي على كل الأبعاد الأخلاقية في العمل السياسي، وتنضاف إلى هذه المقولة مقولة أخرى اشتهرت في نهاية القرن العشرين وهي عبارة "السياسة هي فن الممكن". يؤكد ميكيا فئلي في كتابه الشهير الأمير الذي طبع بعد وفاته وهو ما يؤكد بأن الكتاب كان رؤية فكرية مقرونة بسلوك سياسي جرى تطبيقه قبل تحوله إلى دستور السياسة في العصر الحديث وفي المرحلة المعاصرة، اعتقد ميكيا فئلي ومن تأثر برؤيته ألا أخلاق في السياسة، بل اعتقد بأن الأخلاق معيق للسياسة، وذهب إلى حد أن اعتبر الدولة التي تعتمد الأخلاق دولة فاشلة مآلها السقوط والانهيار.

وأما نتشه فيلسوف القوة كما يلقب فاعتبر أن لا علاقة للسياسة بالأخلاق وبكون الحاكم الذي يقرن السياسة بالأخلاق حاكم فاشه، وإذا كان الفكر الأوربي مدين للفلسفة اليونانية وعقلانتها فإنه من الأهمية بمكان التذكير بأن أرسطو جعل السياسة مبحثا من مباحث الأخلاق، واعتبر الأخلاق مجالا أساسا والسياسة أحد فروعه، وفق هذا التقسيم سارت الفلسفة الإسلامية نفسها التي جعل السياسة تحت توجيه الأخلاقية والقيم واعتبرتها محكومة في بعض جوانبها بسلطان العقل وبسلطان الأخلاق.

لكن ما علاقة هذه النظرات في السياسة بما أطلقنا عليه ظاهرة الإسلام السياسي؟ يجاب ذلك بأسئلة أخرى، وهي ما طبيعة الرؤية السياسية التي تؤمن بها حركات الإسلام السياسي، وما طبيعة التصور الذي ترتكز عليه وتنطلق منه، وإلى أي حد التزمت بتلك الرؤية حين وصلت إلى الحكم وصارت فاعلا في المشهد السياسي لأوطانها؟

إن مشهد الواقع السياسي وخاصة في الأقطار التي عرفت وصول الإسلام السياسي إلى الحكم مشهد ميزته الأساسية هو التركيب والتعقيد، ومشهد يعاني من تراكمات مزمنة في ظل ممارسات سياسية غير أخلاقية محكوم بأبعاد ميكيا فلي أو نتشوي، زيادة على تناقضات الواقع الاقتصادية والثقافية، بل والتاريخية التي تجتم بكلكلها.

لم تكن حركات الإسلام السياسي تجهل هذا الواقع، بل كانت تعرفه حق المعرفة وظلت على مدى عقود تنتقده وتحلل أسبابه الثقافية والفكرية وكذلك السياسية، بل لقد شكل نقدها الشديد له جزءا من أيديولوجية الاستقطاب والبناء الحركي. وادعت توفرها على أجوبة شافية لتلك الاشكالات، وامتلاكها حلولا لأغلب المعضلات. لم تكتشف حركات الإسلام السياسي هذه الحقائق عندما وصلت إلى دواليب التدبير السياسي فور وصولها إلى الحكم بل كانت تعرفه عن بعد وتدرك حقيقته. لكنها وجدت نفسها أمام تحد يتجاوزها جدا، الأمر الذي وضعها أمام خيار صعب إما الدخول في معركة تغيير لهذه الحقائق، متحملة مسؤولية ممارسة دورها الذي تتقنه خطابيا وهو الدعوة إلى الإصلاح، وإما التغاضي عن ذلك ومحاولة السير في دواليب هذا الواقع بتناقضاته وإشكالياته المزمنة وتقديم تنازلات أمام ضغط شعور الحرص الشديد على عدم إفشال التجربة، تجربة المشاركة السياسية.

فهل كان الدافع إلى ذلك هو الرغبة الواثقة في الإصلاح كما يؤكد ذلك الخطاب الذي تبنته حركات الإسلام السياسي وأحزابه خلال هذه المرحلة، أم إن الدافع لم يتجاوز رغبة  المشاركة من أجل المشاركة ليس غير رغم الصعاب الكثيرة التي كانت تحيط بهذه المشاركة.

إن ظاهرة الإسلام السياسي في راهنها ظاهرة بكل المقاييس في ظل التحولات البارزة التي يمر بها العالم وخاصة في العالم العربي، وفي ظل الأسباب التاريخية والظروف المباشرة التي جعلتها تتصدر المشهد متقدمة بعض الحشود. وإذا ما تم استحضار النكسات التي تعرض لها الإسلام السياسي بدءا من مصر وانتهاء بالنكسة التي تعرض لها هذا الاسلام السياسي في المغرب، فإن الكثير من الآراء باتت تميل إلى أن الظاهرة قد انتهت ويستحيل عودتها لتصدر المشهد السياسي، هذا في الوقت الذي يعتبر فيه رأي آخر أن ما حصل مجرد سقوط عابر وسيتبعه انبعاث جديد.

حاولت حركات الإسلام السياسي الحفاظ على المرجعية الدينية نظريا على الأقل، لكنها وجدت نفسها مرغمة على إفراغها من محتواها الأخلاقي أمام ضغط العوائق والموانع، التي انتصبت في طريقها وأمام ارتفاع الأصوات الرافضة لتجربة الإسلاميين كما اطلق عليها. بعبارة أخرى إن حركات الإسلام السياسي قد حافظت على صفاء الخطاب الإسلامي في مستوى التوظيف الأيديولوجي، لكنها أفرغته من أبعاده الأخلاقية، عندما باشرت التدبير السياسي فعليا. وعليه فالراجح أنها اضطرت إلى ذلك بفعل ضغوط الواقع والتحولات، وبفعل ما مارسته قوى المصالح من أسباب الممانعة والرفض، والتي لم تر في الإسلام السياسي وخطابه الأخلاقي وشعاراته سوى مانع يحول بينها وبين مصالحا.

لم يتوفر للإسلام السياسي الوقت اللازم لكسب ثقة هذه القوى، وكسب الثقة ليس بالمهمة السهلة في ظل ضغط الواقع المركب كما سلف الذكر. ينضاف إلى ذلك أن كسب الثقة مهمة تحتاج إلى وقت طويل وإلى صبر وهو ما لم تقم به حركات الإسلام السياسي ولم يكن في استراتيجيتها بفعل وعي الانغلاق الذي سيطر عليها ومارسته قبل أن تفتح أمامها أبواب المشاركة السياسية.

والجدير بالذكر في هذا المقام بأن قوى المصالح ليست مرتبطة بالاقتصادي فحسب، ولكنها تمتد إلى الثقافي والأخلاقي والسياسي، ومن الطبيعي أن يكون في المجتمع الواحد فئات متنوعة ومتعددة التطلعات، والأهم هو وجود نخب أخرى لها تطلعات اجتماعية وثقافية بل وحتى أخلاقيا، لا ينبغي تهميشها وليس من الحكمة السعي إلى إخضاعها وترويضها، ولا الدخول معها في صراع من أجل البقاء.

ساهم فكر المودودي بصورة أو بأخرى في تشكيل رؤية الإسلام السياسي كما ساهمت في تشكيل رؤية الأصولية الإسلامية كما يذهب البعض إلى ذلك، فقد أسس المودودي لإعادة إنتاج المفاهيم الدينية التقليدية من خلال منظور أصولي تحكمه الإيديولوجيا. وبنى هذا التصور النظري على أسس أربعة أو أربعة أبعاد:

- بعد معرفة الله تعالى، من خلال مفاهيم السلطان والملك والغلبة،

- وبعد ما يلزم الإنسان القيام به في إطار الواجب الإنساني في الدنيا، في إطار مفاهيم الطاعة والتذلل والعبودية،

- وبعد ثالث هو بعد الجزاء في الآخرة من خلال مفاهيم جزاء الإنسان في الآخرة،

- وأما البعد الرابع فيقوم على المنهج المؤدي إلى مملكة الله تعالى([2]).

أثرت هذه الأدبيات بصورة أم بأخرى في الخلفية النظرية، التي قامت عليها تصورات أغلب حركات الإسلام السياسي، وخاصة البعد الرابع وهو بعد السعي إلى بناء مدينة الفضيلة أو المدينة الفاضلة مفهوما مستعارا من حقل الفلسفة، وهي المدينة التي ينبغي أن يسودها الشرع.

أغنت هذه الأفكار والتصورات النظرية في توجيه اقتناعات تيار الإسلام السياسي، وحضرت بصورة ما في مرحلة المشاركة السياسية يشهد على ذلك تحليل السلوك العملي والنظري الذي تحركت في ضوئه حركات الإسلام السياسي وهو ما يعطي الانطباع بأنها اعتبرت العمل السياسي سيرا إلى الله وامتثالا لروح التوجيه الإلاهي في طريق إعداد الأرضية الصلبة لإقامة (مملكة الله)، أو المدينة الفاضلة نظريا على الأقل وعلى مستوى الخطاب المتبنى، وهي دعوة كانت تتم من أجل بناء الوعي وإعداد القواعد الجماهيرية التي يمكن اعتبارها الإطار المناصر للوصول إلى تحقيق الأمل المنشود. لكن السؤال الذي يطرح في هذا الإطار هو هل تنسجم الديمقراطية في جوهرها وهذه الأبعاد، بعبارة أخرى هل انخراط حركات الإسلام السياسي في العملية السياسية قام على أساس مبدئي يؤمن بالديمقراطية وعلى نمط وعي يعي الديمقراطية؟

الغالب أن الإيمان بالديمقراطية كان مجرد وسيلة مؤدية إلى الأهداف الكبرى التي تحرك عمق المنطلق الرؤيوي لأغلب حركات الإسلام السياسي. ومرد ذلك هو طبيعة الأسس النظرية التي أسسها فكر المودودي، وبصورة أخرى رؤى سيد قطب وأفكاره.

اعتبرت تيارات الإسلام السياسي أكثر التيارات السياسية استفادة مما عرف بالربيع العربي، بغض النظر عما إذا كان هذا الربيع العربي حدثا طبيعيا أفرزته تحولات الواقع الاجتماعي والثقافي والفكري أو مجرد لحظة تاريخية عفوية جرى توظيفها لمصلحة طرف أو أطراف ضد طرف آخر أو أطراف أخرى. لقد تمكنت تيارات الإسلام السياسي من تقدم الحشود واستطاعت بخطابها الثائر استغلال تطلعات الجماهير الحالمة بغد أفضل الحصول على الدعم اللازم لأيديولوجيتها، ولا ينبغي الاعتقاد بأن هذه التيارات كانت تتحرك بتوجيه من استراتيجية مدروسة من قبل، بل إن تطورات الأحداث هي التي حملت تيارات الإسلام السياسي إلى الواجهة وبين عشية وضحاها أضحى تيار الإسلام السياسي هو الناطق باسم الربيع العربي، وهو ما حملهم فيما بعد إلى واجهة تدبير شؤون الدولة من خلال الفوز في الانتخابات التشريعية والاستفادة مما تمنحه الديمقراطية من حيز الوصول إلى الحكم وإلى الدولة أو بالأحرى إلى بعض من الدولة لأن هذه الحركات رغم تمكنها من الحكم لم تستطع الوصول إلى كل دواليب الدولة وخاصة الدواليب المفصلية التي تدير الدولة من وراء الستار والمحكوم بمصالح مغروسة في عمق هذه الدول ثقافيا وتاريخيا واجتماعيا والأكثر من ذلك نخبويا.

ظلت تيارات الإسلام السياسي تروج على مدى عقود طويلة لخطاب واحد هو كون الإسلام وتطبيق الشريعة هو الحل وأسست أيديولوجيتها على هذا الخطاب من أجل إقناع الجماهير الواسعة، لكنها غفلت أو تغافلت أو أهملت إعداد الشروط الموضوعية والواقعية التي تساهم في تفعيل وإنجاح المشروع الإصلاحي الذي ظلت تبشر به وتبني على أساسه مشروعها الفكري، ولسان حالها يقول الخطوة الأولى هي الوصول إلى الحكم والعمل على التحكم  ربما في مقاليد الدولة، وهي إن لم تصرح أغلب تياراتها بذلك لكن أحلامها وطموحاتها وتطلعاتها كانت تميل إلى ذلك، لتنطلق مرحلة أخرى بعد ذلك وهي إعداد شروط البقاء في الحكم والبقاء في الدولة والقيام بالإصلاحات الضرورية لتستقيم الدولة وشروط الشريعة، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة التي تصورتها هذه التيارات التي جعلتها مثاليتها تحلم بتدجين وحش مارق من الدين اسمه الدولة وعندما دخلوا الدولة اكتشفوا أنها وحش لا قبل لهم به ولم تكن مناعتهم الأخلاقية لتقيهم  من أن يصيبهم داء الدولة فتحول بعضهم إلى وحش من وحوش الدولة.

في ظل انخراط حركات الإسلام السياسي في المسلسل الديمقراطي برز  بحدة إشكال عميق تعاني منه هذه تيارات وهو إشكال التمركز حول الذات واعتبار ذاتها أنها من يملك ناصية كل شيء وبكونها صاحبة الحل والعقد، وقد بني وعيها على أساس أنها صاحبة الحقيقة المطلقة، من خلال الحرص المستمر على الترويج في أوساطها وبين قواعدها لشعار عام وفضفاض هو الإسلام هو الحل وتطبيق الشريعة هو المدخل الأساس إلى الانبعاث والنهضة وإصلاح الواقع واسترجاع الشهود الحضاري على الناس والمجتمع، كانت هذه الشعارات مغرية تغري العقول الحالمة والمتطلعة إلى حلم استرجاع الماضي الحضاري للأمة، وقد تكون هذه الشعارات تحمل قدرا مهما من المصداقية عندما أثيرة أول ما أثيرت، مدخلا لتبديد أسباب التخلف، ومقاومة الاستعمار، لكنها ما لبثت أن تحول إلى مجرد أيديولوجية من أجل التأثير في الحشود بما يخدم غايتها المتمثلة في الوصول إلى الحكم.

استعمل الدين ببعد أيديولوجي في فكرتي الجامعة الإسلامية وفكر الأخوة الإسلامية أو الأخوة في الإسلام وكانت نوعا من البحث عن عنصر يوحد عالم المسلمين في أفق البحث عن المثال المفقود المتمثل في الحضارة الإسلامية، التي أشرقت على العالم وحولت وجهته نحو الأفضل فاستحقت بذلك وسام الشهود على الناس، وهناك من اعتبر أن البحث عما يوحد وخاصة فكرة الأخوة الإسلامية هي ما مهد لفكرة الفرقة الناجية، لقد صارت هذه الرؤية مسبارا يحاكم الواقع المحلي والإقليمي بل والعالمي من خلاله، لقد حولت هذه الرؤية أو غرست فيهم رؤية تتمركز حول الذات فحولت الذات ذات الجماعة بأفرادها على مختلف مقاماتهم داخلها إلى منقذ من الضلال فالمجتمع خارج الجماعة فاسد وضال ومجتمع الجماعة صالح ويضم صلحاء ويجب أن توكل لهم مهمة إصلاح المجتمع وبناء وعيه وهي المهمة التي يجب النضال من أجلها، لقد منع هذا الاعتقاد ذات الحركة من الانتباه إلى المظاهر الإيجابية داخل المجتمع. فالتقليل من قيمة المجتمع وتقييمه على أساس أخلاقي يتوهم أنه نابع من المنظومة الأخلاقية الإسلامية، كل هذا فوت على حركات الإسلام السياسي الالتحام بمختلف فئات مجتمع، والتي لعبت دورا مهما في وصولها إلى البرلمانات والحكومة، لكن رغم ذلك عجزت عن تلبية متطلباتهم وتحقيق تطلعاتهم التي وعدت بها الجماهير الواسعة والغفيرة، ووقفت ضد تطلعات الطبقة المتوسطة وضد أحلام النخب، لقد استغلت هذه الحركات العزف على وتر المظلومية واستغلت الماضي القاتم لحقوق الإنسان الذي تشترك فيه مع تيارات فكرية وسياسية أخرى، لكنها وظفت ذلك من أجل توسيع شعبيتها بالتركيز على ذلك، وهو ما شفع لها في تصدر المشهد الجماهيري.

نجحت حركات الإسلام السياسي في مداراة المجتمع وأخفت حقيقة توجهها.  وحتى إذا اعتبرت نيات هذه الحركات نيات حسنة، إلا أن اهتمامها بالإسلام تم باعتباره أيديولوجيا وليس باعتباره منظومة أخلاقية وباعتباره منظومة قيم، ولذلك اعتبر البعض أن الإسلام السياسي تاجر بشعارات الجوفاء، وفضل الذهنية المنغلقة من الأتباع وعمن لا يبحث عن فهم الأبعاد ومناقشتها، وحبذ التعامل مع صاحب الذكاء العادي والبسيط والمتوسط، لسهولة التوجيه وفق المرامي المطلوبة والمحددة.

نتج عن المركزية الفكرية ومن خلاها إلى المركزية السياسية، تسييج ذاتها وعالمها بجملة تحصينات فكرية ترفض الرأي المخالف والرأي الآتي من خارج الدائرة. وهو ما نتج عنه بدوره اعتقاد شبه مطلق بأن المتداول من القيم داخل دائرة الحركة الدعوية وفيما بعد داخل الدائرة السياسية هو القيمة المثلى، التي يجب على الجميع الاحتكام والرجوع إليها.

النظر إلى باقي أفراد المجتمع الموجودين خارج دائرة الجماعة على انهم فاسدون وربما كافرون يخفي وعيا متجذرا في فكر هذه الحركات أنها المنقذ من الضلال كما أشير إليه سالفا وقد تعتبر هذه القضية أهم ما جلب عليهم رفض جزء من المجتمع لأيديولوجيتهم ولرؤيتهم التي ظلوا يحاكمون العالم من خلالها، والراجح أن وعيهم هذا الذي يصنف المجتمع إلى خانتين كبيرتين فاسد وصالح وعدم الإيمان بوجود منزلة بين المنزلتين قد جلب عليهم مصاعب كثيرة وأسس لوعي آخر هو وعي عدم الثقة فيهم من خلال عرض المجتمع لرؤيتهم ومواقفهم على مجهر القيم والأخلاق التي تعتبرها هذه الحركات الأساس الذي تنطلق منه  والأساس الذي تحتكم إليه وتريد من باقي أعضاء المجتمع الاحتكام إليه والرجوع إليه بل والاحتكام إليه، لقد ظل وعي أغلب حركات الإسلام السياسي بعيدا عن إدراك حقيقة الواقع وتلمس خصوصياته، ولم تتمكن من وضع اليد على الجسر الرابط والخيط الواصل الذي يتيح نقلهم من عالم المثل والأحلام إلى عالم الواقع الواسع المركب والمفعم بالتناقضات والمليء بالمطبات  والخفايا.

لقد دخلوا الواقع بمثالية حجبت عنهم غابة الواقع وأدغاله فتاهوا وسطه، وأمام صدمة الاكتشاف انتقلوا بمثاليتهم يريدون تغيير كل شيء بما في ذلك الدولة وقيمها التي تجر خلفها ثقلا متراكما من تجارب السنين وقوى متخفية بين دواليبها متمكنة جدا ومحصنة بترسانة المال والسلطة والنخب وحسن الإدارة والدراية الحقة بشؤون السياسة والدولة وغيرها من التجارب التي لم يكن بمقدور حركات الإسلام السياسي إدراكها ومعرفتها لأنها لم تكن في يوم من الأيام قريبة ولا مطلعة على هذا المشهد.

أغلب الحركات السياسية التي برزت بعد الربيع العربي واستطاعت تصدر المشهد السياسي تلتقي عند جملة من المشتركات فأغلبها ينحدر من حركات دينية ظلت على مدى عقود تشتغل في إطار نوع من الحذر والسرية  والانغلاق والتركيز المبالغ فيه على خطاب ديني مفصول عن الواقع ونجحت (إن اعتبر ذلك نجاحا)  في إيجاد إطار بشري مشبع بفكر ديني منغلق وإن ادعت بعض تلك الحركات الاعتدال لكنها كانت رغم ذلك متطرفة في محاكمة الواقع والمجتمع وفساده، وفشلت في الوقت نفسه في إعداد إطار بشري  متسم بالواقعية وبالمرونة يعي شروط الحداثة ومحصنا ضد مغرياتها بترسانة أخلاقية قيمية يشخصها السلوك ويجسدها  ولا تبنيها أوهام الخطابة ولا الموعظة ولا النظريات، وإعداد إطار بشري مدرك لحقيقة الواقع ومتطلباته الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ويعي في المقام الأول طبيعة التحولات التي تأتي بها الأحوال الجوية العالمية.

ألقي لهذه الحركات بطعم الحكم فالتقمته لتجد نفسها أمام أوضاع واقعية مركبة غير مؤهلة لتدبيرها فكان الفشل فشلا صارخا. ولا يختلف الأمر في المغرب فالحزب الإسلامي أو لنقل الحزب الذي وظف الإسلام أيديولوجية ونصب نفسه سادنا على محراب الأخلاق من خلال شعارات براقة كنقاء اليد والترفع عن مفاسد الواقع الأخلاقية ما لبث أن سقط سقطة مدوية.

آخر الأخبار