الرحلة وسؤال الكينونة

الكاتب : الجريدة24

16 فبراير 2022 - 09:15
الخط :

إدريس هاني

لا آخذ سؤال الكينونة أخذا يسيرا، إنه سؤال يؤرقني، لأنه سؤال بقدر بداهته هو بالغ التعقيد. لعل ما أضفى عليه هذا التعقيد هو اللغة التي تأويه، والوجدان الذي يباشره، وسوء النية تجاه الوجود، وهي خصائص يحملها الإنسان، وكان ظلوما، ذلك لأنه الكائن الوحيد الذي يملك أن يتساءل حول الوجود وأيضا الكائن الوحيد الذي يملك الالتفاف على السؤال إياه.

في رحلتي الأخيرة، في هذا الشرود الجغرافي، في هذا التيه اللّغوي، كنت مدركا لأهمية سؤال سيظل ساكنا بين الضلوع، الكينونة التي نحيا ببعض من وعيها، وربما بجهل بحقيقتها.

لم أحمل معي سوي كتاب (هيدغر وريبة الكينونة)، لهانز كوكلر، وهو من أهم المتخصصين في هيدغر من فلاسفة الجرمان، والكتاب من ترجمة الصديق المفكر المغربي د. حميد لشهب، الذي شق طريقا في الترجمة ذكيا ولافتا، وبضوضاء أقل، لأنه من طينة الزهاد، والعاملين في صمت، وهم في صقعنا العربي قليلون.

وهو قريب من اللغة نفسها التي خبر بها هيدغر سؤال الكينونة، فهو يزاول بها علمه وعمله، كما يباشر بها وظيفته اليومية، وهو أيضا قريب وصديق لهانز كوكلر الذي كان في سالف السنوات عضوا في لجنة المناقشة لأطروحة الأخ حميد، وهي رائعة في موضوعها، تتعلق بظهور فكرة الله عند الطفل.

إن الأخ حميد مؤهل لفهم الفلسفة الجرمانية من حيث خبرته داخل عالمها ولغتها كمحترف وليس هاوي متهجي، ومن دون ضوضاء؛ فشيء من العتمة مهمّ لإدراك معاني التنوير، وشيء من الصمت مهمّ لاكتمال التّأمّل، والأخ حميد، كابن لشعبتها وكطبيب نفسي مدرك للحد الفاصل بين الحكمة والحماقة، بين الاضطراب والسواء، استطاع إدخال هانس كوكلر إلى المجال العربي من بابه الواسع.

سيعيد كوكلر وضعنا في الأرضية التي اختارها هيدغر لمباشرة سؤال الكينونة، وهو أن هذا السؤال لا يمكن مباشرته وفق المفاهيم التقليدية للميتافيزقا الغربية. وفي تلك المحاولة يقول كوكلر في مقدمة الترجمة العربية، بما سبق وطرحه حول راهنية هيدغر، ويتساءل في الوقت نفسه عن هذه الراهنية بالنسبة للمجال العربي. يؤكد كوكلر على كلام سابق في مقدمة لترجمة نص سابق لهيدغر عربيا، باستحالة ترجمة هيدغر، وهو هنا لا يتحدث عن العربية، بل حتى عن تفكير هيدغر انجليزيا، لما تفرضه فلسفة هيدغر من تحدي تأويلي بامتياز. وهو يعرب في الوقت نفسه عن أهمية جهد د. حميد لشهب حيث يقول: "وهو أيضا في منزله في لغة هيدغر الأم، لعرض تحليلي لهذا التفكير في العالم العربي".

أقدر بدوري جهد الأخ حميد، فهو ليس نقلا لنص عادي، بل الترجمة هنا أمانة على الرغم من انتهاكاتها التي تتيحها مشروعية التأويل، هو جهد وجهاد معرفي في ميدان اللغة وتحدياتها، المفاهيم والتباساتها، هي ترجمة منفتحة على التأويل وأنحاء اللغة، وتاريخ الأفكار، وسيكولوجيا المتن والماتن، تساعد في الرقي بمدارك المتلقي وهو ينشد حوار الثقافات على أرضية من التأويل متينة، وأيضا هو تحدي في وج الهشاشة الفلسفية التي يعانيها الحضن العربي غير الوفي لجدية قولها، ولخطورة مفاهيمها، وغير الراشد في تناول روحها خارج فوضى الإنشاء والادعاء واللاّسواء النفسي.

في هذا السفر النقدي أيضا في تأويل هيدغر، سؤال ينصرف إلى لاهوت الكينونة، عملية استبدال يضعنا في ذروة السؤال حول أي معنى للكينونة حين تستدعي مانحها، وهل هي نفسها تشكل تجليا لله، في محاولة لإعادة الله إلى الفلسفة الهيدغيرية عبر تأويل لا يخلوا من جدية وشجاعة، ينهض بها رجل هو في الفلسفة مناضل وكذا في القانون الدولي، هو من أبرز المفكرين دفاعا عن العدالة وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. ينقلنا هذا إلى جوزيف سايفرت حين سعى عبر فينومينولوجياه الواقعية، الله برهان على نفسه، أو بتعبير صدرائي مكين: برهان الصديقين، الذي نقله إلى العربية د. حميد لشهب نفسه. تأثير نيتشه، والى أي حد يمكن تصحيح الموقف؟

يتعذر استيعاب هيدغر إلا تأويلا، ذلك لأنه اختار موضوعة لا تسلم نفسها كمعطى خارج التأويل، فالوجود بما أنه بات سؤالا يستحضر اللغة بوصفها منزل الوجود، يفرض تأويل الوجود، أي أهمية البحث في جينيالوجياه وتاريخه، في أَوْلِه ومآله هو البدء، هو الشعور المرير بالموت، لنتذكر أن فكرة الموت فلسفيا وأنطولوجيا، لها مكانة في الدازاين الهيدغيري، وهي مسألة جادة لدى هيدغر، وليست فكرة شعرية متبجحة كما نرى عند بعض السالكين في آخر قاطرة التفلسف الزائف. هذه شذرة من ريبة الكينونة، لكن لدي وقفة تحليلية أوسع وأعمق، مع هذا المتن الثري، بعد رحلة الكينونة الوسيع في تيه الجغرافيا الحسير .
إدريس هاني/في مكان ما

آخر الأخبار