خذل فؤادها فغرزت السكين في قلبه

الكاتب : الجريدة24

04 أبريل 2022 - 04:00
الخط :

رضا حمد الله

بخطوات متثاقلة عادت للوراء في وضع أشبه بمحارب يتحاشى مهاجمه، واستوت متكئة على سور قبالته. عيناها عليه كما لو كانت تتوقع نهوضه. تراقب الآتين إليها وسيران دمه أرضا. من حين لآخر كانت تشرد، مسافرة إلى ماضيها المثقل بالهموم، لتستفيق على حاضرها المبكي، أما المستقبل فضاع كما ضيعت من ضيعها.

بيدها اليمنى ما تزال ممسكة بالسكين مخضبة بدمه، وفي الأخرى محفظتها ليس بها من مواد التجميل إلا مشطا وكريما ترطب به يديها المشققتان، وسم فئران كانت تستعد لابتلاعه، معلنة نهاية حياة شقية لم تسعد فيها منذ ولدت في تلك القرية النائية حيث المرأة ما تزال دون ما هي عليه في مدينة احتضنتها وابتلعت طموحها في الكسب والاستقرار العاطفي والاجتماعي. لكن رياح حياتها سارت ضد التيار الجارف لحلمها، فرمت بها حيث لم تتوقع.

بعض شباب الحي راقبها كي لا تهرب، وآخرون تجمعوا ملتفين حوله وهو ينزف من جرح غائر في صدره، دون أن تحضرهم حيلة ناجعة لإنقاذ. ورغم أنه كان في لحظة احتضار، فإن عيناه لم تفارق مكان وجودها، ومنها تقرأ عبارات الندم والعتاب. عتاب لها على ما فعلت به، وندم على ما فعل بها. طعنته في قلبه بعدما طعنها في شرفها ومرغه في الوحل.

بالكاد كان يتمتم بكلمات غير مفهومة، تخرج بصعوبة من فمه الدامي. وبيديه يشير مودعا من يبكيه ويدعو له بالشفاء. وبقدر صراخه وبكاء من حوله، كانت تتلذذ. بعذابه تنتشي كما لو كانت خارجة لتوها فائزة في معركة لن تنتهي بوفاته ولا بإنهاء سنوات ثقيلة على حريتها ستقضيها خلف جدران الزنزانة الباردة.

- لقد قتلني قبل أن أقتله

أقصر جملة اختصرت بها قصتهما وهي ترد على سائلها الراغب في فهم سبب غرزها السكين في قلبه. جرحت قلبه كما جرح مشاعرها حينما طلبت منه الوفاء بوعده بزواج يجمع شملهما، بعدما استباح جسدها منذ أهدته إياه حبا. خدعها بعدما امتص رحيق جسدها، فغدرته لما هم بالابتعاد منتشيا بانتصار مذل لها بعدما عيرها بقدها وعدم صلاحيتها زوجة لشاب يافع يتنافس بين زملائه في الملبس دون العلم والكد والاجتهاد لبناء الذات لا المظهر.

التدافع الروحي بينهما انتهى في ذاك اليوم البارد برودة مشاعره وعواطفها وإنسانيتها. هو ساقط أرضا ممرغا في دمه قبل أن تخمد أنفاسه، وهي واقفة بشموخ المنتصرة في معركة لا متكافئة، تعي أنها خدعة طالما أن هزيمتها عاطفية وعلى حساب حريتها وخيبة والديها المريضين في تلك القرية حيث سيبقيا بدون معيلة وسيحرما من فؤادها العطوف عليهما.

في ذلك اليوم وبعدما تفنن في إهانتها وإيذائها نفسيا، قررت أن تعيد الاعتبار لكرامتها وشرفها، وترصدت له ساعات إلى أن لاح طيفه قادما إليها من حيث تسكن عائلته. لقد أعدت العدة لرد الاعتبار لنفسها. سكين لتصفيته أخفته في حقيبتها، وسم فئران تبتلعه وينتهي كل شيء، حب توهمته وحياة لم تجني فيها إلا خيبات الأمل. السكين انغرز في فؤادها قبل جسده، والسم بقي حيث وضع، وحياتها ستستمر بتفاصيل أكثر قساوة عليها. لقد مات العشيق لما ماتت الرحمة في فؤاده ولم يشفق لحالها بعدما وهبته كل الجسد حبا. وهي ماتت باستمرار الحياة في زنزانة بئيسة طيلة سنين ستلتهما فيها الألسن كما التهم هو شرفها.

منذ وفدت على المدينة من قريتها طمعا في عمل وكسب واستقرار، كابدت هذه الخياطة الثلاثينية واجتهدت كي تكسب وتنقذ عائلتها من العوز وتساعدهما في علاجهما من مرضهما المزمن. لكن رياح حياتها سارت عكس تيار طموحها، سيما بعدما ظهر في حياتها ذاك الشاب الذي عاشت معه تفاصيل حلم انتهى كابوس استفاقت منه متأخرة بعد أن اكتشفت أن الحب والهيام ما هما إلا تظاهر منه لمص رحيق جسدها الذي لم يمسه أحد قبله.

انتهى كل شيء بالنسبة إليها، فقدت عذريتها ولا زواج منتظرا من مستبيح جسدها، فهي قتلت يوم ماتت المشاعر في فؤادها. لذلك قررت أن تقتل من دنس شرفها ولم يفي بوعده بالزواج منها. وفي لحظة غضب نفذت الوعيد وأنهت كابوس ضياع زاد باعتقالها وإيداعها السجن ومحاكمتها والحكم عليها ب20 سنة سجنا خارت قواه بسماعها، لتسقط أرضا مغمى عليها داخل قاعة المحكمة. لكن كل ذلك لن يمنع عقابا ما زالت تؤدي تبعاته في زنزانتها الباردة، في انتظار انقضاء المدة.

آخر الأخبار