العالم من الفوضى الخلاقة الى الفوضى الشاملة!

الكاتب : وكالات

30 أغسطس 2021 - 01:00
الخط :

يمثل مصطلح “الفوضى الخلاقة” طريقة تفكير العقل الاستراتيجي الأمريكي في سياسته الخارجية والتعامل مع القضايا الدولية، وهو يشكل تناقضاً بين الكلمة الأولى والثانية؛ ففي الوقت الذي تعني فيه كلمة الفوضى مفهوماً سلبياً تأتي الكلمة الثانية لتعني أنه نوع من الإبداع الجديد الذي يخفف من حدة الكلمة الأولى.

وعند اسقاط هذا المعنى على الأحداث الجارية في العالم، يمكن لنا تفسير ما يجري؛ فالعالم يشكل هذا النظام المعقد، وهو معرّض لاهتزازات مستمرة بسبب أي خلل سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي قد يصيب إحدى الدول، ولا يمكن للنظام الدولي بكل تعقيداته منع تكرار مثل هذا الخلل وانعكاساته على المشهد الدولي الشامل، ولكن يمكن له أن يتدارك تحول ديناميكية الخلل إلى كارثة اجتماعية أو سياسية أو أمنية، قد تخلق بنتائجها السلبية قوة جذب لقوى أخرى للتدخل فيتحول الخلل المحدود إلى صراع فعلي وموسع تتشارك فيه قوى وديناميات دولية وداخلية.

ويمكن لنا إدراك مدى هشاشة الاستقرار الدولي من خلال مراجعة عامة لكل الأحداث والتطورات التي شهدها المسرح العالمي منذ إنشاء الأمم المتحدة والنظام الدولي الحالي وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث لم تبق أية أزمة مهما كان محدودة سواء داخلية أو إقليمية ضمن الحدود الجغرافية التي نشأت فيها، بل أثرت بأشكال متفاوتة على النظام والتوازن الدوليين وهكذا يمكن الاستنتاج بأنه لا يمكن تصور عالم متوازن محصّن في استقراره، بل عالم متنقل من حالة استقرار هش إلى أخرى بحيث أنه لا يمكن تصور إمكانية الوصول إلى نظام دولي مانع أو ضابط للفوضى، وهنا تكمن الإشكالية التي تواجهها الدعوات باعتماد نظرية “الفوضى الخلاقة” من أجل تحقيق عملية التغيير في النظام الدولي والإقليمي الشرق أوسطي.

فالفوضى الخلاقة هي خلاقة بالنسبة لمصالح أمريكا والغرب، وغير خلاقة بل مدمرة بالنسبة للأوطان والشعوب، وهذا المصطلح ينشط في حيز العولمة الرأسمالية وصعود الليبرالية الجديدة والمحافظون الجدد إلى الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن؛ ويفهم من المصطلح أن عنصر الأفكار الرصينة والمنظمة والأيديولوجيات الكبرى فات أوانها، وعلى المجتمعات أن تسلك ممرات كثيرة للوصول إلى الاستقرار.

حاولت هذه الدراسة الإضاءة على الجذور النظرية لنظرية الفوضى انطلاقاً من نقض المسلمات الرياضية والفلكية إلى انعكاس أفكارها على البيئة والاقتصاد والسياسة والمجتمع وصولاً إلى إعلان السياسة الأمريكية في عهد بوش الأب تطبيق سياسة الفوضى الخلاقة وتداعيات هذا التطبيق.

رغم وجود مصطلح “الفوضى الخلاقة” في أدبيات الماسونية القديمة حيث ورد ذكره في أكثر من مرجع، وأشار إليه الباحث والكاتب الأمريكي “دان براون”! إلا أنه لم يطّف على السطح إلا بعد غزو التحالف الدولي للعراق 2003، الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس “جورج دبليو بوش”؛ وتحديداً في تصريح وزيرة خارجيته “كوندوليزا رايس” في حديث لها أدلت به إلى صحيفة واشنطن بوست الأمريكية في شهر نيسان 2005، حيث انتشرت بعض فرق الموت والمنظمات الإرهابية مثل شركة “بلاك ووتر” الأمنية؛ فأذاعت حينها عن نية الولايات المتحدة نشر الديمقراطية بالعالم العربي والبدء بتشكيل ما يُعرف ب “الشرق الأوسط الجديد”، كل ذلك عبر نشر ” الفوضى الخلاقة ” في الشرق الأوسط عبر الإدارة الأميركية .

ومن الواضح أن هناك التباسا وعدم وضوح في فهم الفوضى الخلاقة، التي تعتمدها الولايات المتحدة في إحداث عمليات التغيير في المجتمعات الأخرى، فيتصور البعض أن تلك الفوضى هي حالة عدمية تستهدف إثارة اضطرابات وتسعير فتن التقاتل الداخلي (والحروب الأهلية) وتفكيك الدول وتقسيمها فقط؛ دون إدراك أنها في الأصل نمط “ثوري” من أنماط التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وأن إثارة الفوضى وهدم مكونات جهاز الدولة ليس إلا معبرا لإحداث هذا التغيير، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع أهداف وأسلوب هذا التغيير سلباً أو ايجاباً.

ولكشف هذا المفهوم وأبعاد هذه النظرية وجذورها الفكرية والعلمية – خصوصاً إذا ما علمنا أن النظرية ذات جذور رياضية وفيزيائية انعكست مع التجربة البشرية طوال ما يزيد عن القرن على البيئة والاقتصاد والسياسة – والتعرف على انعكاساتها وخطواتها؛ وهو ذو أهمية بالغة في التعرف على نمط من أنماط السياسة الأمريكية التي يتم تطبيقيها في المنطقة لإحداث التغييرات الاجتماعية والديمغرافية والاقتصادية والسياسية؛ وسيكون ذلك عبر الدراسة المنهجية المكتبية للملفات المتوفرة حول هذا الموضوع من اللغتين العربية والإنكليزية.

توضيح مفهوم الفوضى الخلاقة

الفوضى الخلاقة: Creative Chaos مصطلح سياسي – عقدي يقصد به تكون حالة سياسية بعد مرحلة فوضى متعمدة الإحداث، تقوم بها أشخاص معينة بدون الكشف عن هويتهم بهدف تعديل الأمور لصالحهم، أو تكون حالة إنسانية مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة من أشخاص معروفة، من أجل مساعدة الآخرين في الاعتماد على نفسهم.

وتقول هذه النظرية أنه مهما بلغ تطور النظام الدولي القائم، فهو نظام مركب ومعقد، وهذا يجعله حساساً ومعرض لتأثيرات طارئة، تبدأ بخلل بسيط يصيب أحد الأجزاء، ويتسبب بردود فعل للأجزاء الأخرى التي تؤثر على انتظام العمل داخل النظام ككل. وهناك من يرى أن الفوضى الخلاقة حسب هذا المفهوم هي أقرب إلى مفهوم (الإدارة بالأزمات) في المجال الاستراتيجي مع اختلاف الآليات والوسائل.

والإدارة بالأزمات: هي علم وفن صناعة الأزمة وافتعالها وإدارتها بنجاح لغرض مصالح محددة ويترتب على هذا النوع الأزمات تفكيك للمنظومة المعنية أو المستهدفة مما يسهل الولوج إلى مكوناته الأساسية الأمر الذى يؤدي إلى انهيار كلي للنظام، وإعادة تشكله بطريقة تعكس تلك المصالح.

ومصطلح الفوضى الخلاقة قريب ومشابه لمصطلح التدمير الإبداعي أو الهدم البناء Creative Destruction وهو مفهوم من علم الاقتصاد؛ عرفه عالم الاقتصاد جوزيف شومبيتر بـ: عملية الطفرة الصناعية التي تُحدِث ثورة مستمرة في البنية الاقتصادية من الداخل، من خلال تدمير البنية القديمة مع خلق بنية أخرى جديدة، بطريقة مستمرة[6]. كما أنه يختلف عن مفهوم أخر يعرف بالفوضوية أو الأناركية؛ وهي تعرّف عمومًا بأنها: الفلسفة السياسية التي تجعل الدولة غير مرغوبة وغير ضرورية وضارة، أو بدلاً من ذلك، كأنها السلطة المعارضة للتنظيم الهرمي في إدارة العلاقات الإنسانية. وتعد طبيعة الرأسمالية مسألة استقطابية بين الفوضويين.

وحتى لا يختلط المفهوم بين سياسة ونظرية “الفوضى الخلاقة” وتيار “الفوضوية” وجب التوسع قليلاً في الفوضوية لتحديدها بطريقة أوضح:

تتجلى الفوضوية في أشكال متعددة: الشكل الفردي الرافض لكل تنظيم. شكل المنظمات الفوضوية الصغيرة. شكل يعبر فيه الفوضويون عن إيمانهم بالإنسان دون اعتبار للمعيار الطبقي. شكل كالفوضويين الشيوعيين يعبرون عن ميلهم نحو الطبقة العاملة. شكل فوضوية العصابات الفلاحية. شكل الفوضوية التي تستبعد النقابات كأداة نضال. شكل النقابية الفوضوية. وثمة فوضويون ثوريون أو إرهابيون أو دعاة السلم أو التحضر. وهناك أيضا فوضويون لا تسعهم أي من هذه الفئات أو يدمجونها بطريقة خاصة بهم. وهم على اختلاف خلفياتهم الفكرية لا يدافعون عن عقيدة أو خط سياسي محدد بدقة.

ومن الأفكار العامة والمواقف المشتركة بين كل تنويعات الفوضوية تقريباً:

– العداء للدولة، بكافة أشكالها، حتى الدولة الثورية: فالمعنى الحرفي للفوضى Anarchie هو انعدام سلطة، أي الاعتراض على الدولة والحكومة، وليس على دولة بعينها أو حكومة من نوع خاص، بل كل الدول و كل الحكومات في كل الأزمنة، بناء على موقف مبدئي. وهو أن وجود الدولة ذاته، بما هي كيان خاص من الرجال والنساء يمارسون السلطة الفعلية والقانونية على المجتمع برمته، فعل اضطهاد وغير مطابق للحرية الإنسانية الحقيقية.

– العداء للقيادة، أيا كانت، حتى قيادة ثورية: غالبا ما يعلن الفوضويون رفضهم لأي قيادة؛ في المجتمع الرأسمالي واليساري.

– العداء لكل الأحزاب، حتى الأحزاب الثورية: وإن معارضة الفوضوية لفكرة حزب أقوى من عدائها للدولة وللقيادة.

يبدو أن أهم الأفكار التي ظهرت في خلق فكرة “المجتمع الفوضوي”، هي ناجمة عن إدراك المدى الذي وصل إليه النظام العالمي من فشل بالسيطرة من منظور واحد. لذا كان برأي مؤيدي الفكرة أن العوامل الفاعلة كالأثر الواضح لعملية العولمة الاقتصادية، ونشر الديمقراطية السياسية، والأهمية المتزايدة للمجتمع المدني المتخطي “للحدود القومية” وتعاظم كثافة المؤسسات الدولية ونطاقها ومداها، والمشكلات المتعددة والمتراكبة الناجمة عن تفكك الدول وتعاظم المطالبة بالكيانات الأثنية وحقوقها، قد تطورت إلى حد جعل التركيز على “مجتمع الدول” قاصراً وبالياً تماماً.

نشأة نظرية الفوضى وانعكاساتها في المجتمع

عند البحث في نظرية “الفوضى الخلاقة” يتبين أن لهذه النظرية جذوراً قادمة من علم الرياضيات والفيزياء والفلك، وانعكست بدورها على البيئة ومن ثم على الاقتصاد والمجتمع والسياسة والدول والنظام العالمي على حد سواء.

فقد ظهرت نظرية الفوضى أوائل القرن الماضي- وحتى قبل ذلك – واتخذت اسم نظرية الفوضى في أواخر السبعينيات عند ذلك أدرك الناس معناها بالفعل.

وتعود جذور  هذه النظرية في أحضان الاعتقاد الرياضي الذي كان يقول أن الحتمية موجودة وأنه يمكننا التنبؤ بكل شيء من خلال الرياضيات، فمن خلال معادلات عالمي الرياضيات والفيزياء الشهيرين نيوتن ولابلاس 1885 توصلا إلى نتيجة مفادها: “أنه إذا انطلق جسمان في مدارين شبه متطابقين فسيستمران في مدارين شبه متطابقين، والفرق بينهما لا يتزايدا أبداً؛ لذلك إذا عرفت مدار الجسم الأول يمكنك معرفة مدار الجسم الأخر“؛ لكن عند إضافة جسم ثالث تصبح الأمور فجأة مستحيلة التوقع لمعرفة أين موقع الجسم الثالث رياضياً، وأصبح حل هذه المعضلة هاجس العلماء بعدها.

وجاء العالم الرياضي بواناكاريه عام 1889 ليكتشف أن توقع حركة المدارات أمر مستحيل رياضياً، ففرق طفيف ما سيؤدي إلى فرق شاسع في النتائج، ولذلك اكتشف ما نسميه اليوم “نظرية الفوضى” التي تفترض أن هذا السلوك غير المتوقع قد يكون منتشراً في كل أوجه الطبيعة “فإن رفرفة أجنحة فراشة قد تحدث عاصفة في مكان غير متوقع“.ومن هنا بدأت محاولات تعميم هذا الاكتشاف على باقي مجالات المعرفة.

وخلال الحرب العالمة الأولى بدأت علامات انعكاس نظرية الفوضى تظهر على السياسة، فإن اضطراباً بسيطاً في “سريفيو” أدى إلى نشوء الحرب العالمية الأولى، وكانت التوقعات فاشلة في مسار الحرب، وقد أوصل هذا الأمر السياسيين إلى اعتقاد مفاده أنه لا يمكن التنبؤ في السياسة أيضا. ولذلك فإن مبدأ بواناكاريه القائل:” أن أقل اضطراب قد يؤدي إلى عاصفة خارجة عن السيطرة” جذّر المخاوف الحديثة.

وحاول عالم الرياضات الروسي ألكسندر ليابونوف خلال الحرب العالمة الأولى والثورة الروسية الوصول إلى فهم نقطة تحول النظام السياسي من مستقر إلى فوضوي من خلال دراسة الغاز والسوائل وفتح الباب على هذا المجال، مما ساعد في الوصول إلى قناعة مفادها أن: “الفوضى جزء من الكون وليست وسيلة لانهياره”.

وفي أواخر الحرب العالمية الثانية بعد أن تم اختراع الجهاز الذي فك الشيفرة النازية “الإنيغما” الذي اعتبر أول جهاز كمبيوتر؛ وتطور هذا الاختراع والآلات الحاسبة، عادت الثقة إلى الاعتقاد أن الحتمية ممكنة ويمكن التنبؤ بمسار الأزمات الاقتصادية والسياسة والصناعية والفلكية، وأن مستقبلها سيكون أكثر توازناً. كما أن اكتشاف القنبلة النووية أيضا أعطى طموحاً بعصر مليء بالثقة وبالقدرة على السيطرة.

في عام 1962 اكتشف عالم الأرصاد الجوية “إد لورينز” فروقاً في الأنماط الخفية لأرقام الأرصاد الجوية؛ حيث إن فارقاً في الأنماط الخفية للأرقام يبدو غير موجود يحدث فارقاً هائلاً وجذرياً في النتائج.

وقال:” عندما يحدث تغير في نظام معين ليس من الضروري أن يكون السبب الذي قد أدى إلى تغييره قد حدث في الوقت الحالي، من المحتمل أن تكون بذور دماره موجودة وتنمو ببطيء ومخفية في المعادلات الرياضية منذ البداية؛ إن لحظة انحراف الجسم هي النتيجة النهائية لتعديل بسيط طفيف حدث منذ فترة طويلة“.

وعند أواخر الستينيات وبداية السبعينيات ومع ربيع الشعوب في أوربا تبين للخبراء أنهم فشلوا في التنبؤ بالأحدث مرة أخرى، وحتى علماء الاقتصاد الذين اعتقدوا أنهم فهموا الدور الاحصائي وحصلوا على قوة توقع بما سيحصل كالبورصة اكتشفوا أنها لم تكن قوانين قط بل علاقات احصائية قابلة للحصول خلال فترة زمنية معينة. هذه الاضطرابات أقنعت علماء الاقتصاد والبيئة أن اقتناعهم بالسيطرة والتحكم على نطاق واسع خاطئة تماما.

لقد ساهمت دراسة الفوضى في حدوث تطورات مدهشة في نقطة الْتقاء الطقس والاقتصاد؛ إذ تتأثر الكثير من الأسواق بالطقس بصورة بالغة، بل يتأثر بعضها حتى بتوقعات الطقس.

من هنا يخشى كثير من المحلِّلين من أن تخدعهم فوضى الطقس، حتى إنهم يلتزمون التزامًا صارمًا باستخدام نماذج بسيطة، وتصادفية محضة، ويتجاهلون الحقيقة البادية للعيان أن بعض توقعات الطقس المجمعة تتضمن معلومات مفيدة.

ومن هنا بدأ الأمر ينسحب بالتدريج على الطقس والاقتصاد أيضاً، لكن اكتشاف عالم الرياضيات “ديفيد رويل” وآخرون الذين قاموا بدراسة البندولات، أظهر أنه كلما زاد تعقيد البندول زادت الفوضى وهو تماما كالعالم المضطرب “علماً أن الاضطراب الذي يحدث للعالم يكون أيضا نتيجة الحساسية للظروف الأساسية” وكلما زاد الترابط بين أجزاءه وتعقيداتها زادت الفوضى؛ وكلما زاد الضخ في النظام زادت سرعته وبالتالي زادت الفوضى فيه.

ومع نشوء السوق الحرة المعاصرة التي هي وليدة “ربط أنظمة الكمبيوتر العالمية في نظام اقتصادي شامل موحد” بتاريخ 27/10/1986 تبين أنه: “يجب ترك الاضطرابات الاقتصادية للأسواق لأنها ستقوم بحل مشاكلها لوحدها فالنتائج التي كانت تعطيها الأسواق مذهلة لكنها دون تفسير“؛ وقد توصل علماء الاقتصاد إلى قانون مفاده أنه: “لا يمكن السيطرة على الاقتصاد وضبطه وأن الفوضى هي أمر طبيعي، لا يجب أن يتم ضبطه على الاطلاق” وشعار الليبرالية الحالي: “لا يمكن السيطرة على السوق“.

وبعد مشروع “البروسترايكا” الاقتصادي الذي أوصل الاتحاد السوفيتي إلى نهايته سياسياً؛ وأنهى الحرب الباردة؛ تضاعفت أجواء الشك والغموض والضياع التي كانت سائدة في ظل نظام القطبين، ولم تكن الولايات المتحدة مستعدة لملء الفراغ الحاصل وهذا ما يفسّر لجوئها لأدوات القوى الاستعمارية الغابرة لتصفية كل تركة عالم القطبين بشكل سريع ليتحقق لها هيمنة مطلقة على النظام الدولي، من خلال فرض سياسة التغيير التي تتناسب مع توجهاتها ومصالحها السياسية والاقتصادية، مع إسقاط كل الحواجز والعوائق التي يمكن أن تعترضها وذلك من خلال تحويل كل مؤسسات النظام الدولي إلى أدوات خاضعة لها، أو من خلال إسقاط كل التقاليد والأعراف الدبلوماسية المعتمدة بما فيها مبدأ سيادة الدول على أراضيها.

ومع نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، انطلقت فكرة الفوضى من المجتمع السياسي الأمريكي المعروف بالمحافظين الجدد، وهم فريق من الأكاديميين والسياسيين، استطاعوا التغلغل في كل المرافق الأساسية لصنع القرار في إدارة الرئيسين بوش الأب والابن حيث أسموهم “صقور البينتاغون”؛ وقد أجمعوا على أنه لم يعد من الممكن أو الجائز مواجهة التهديدات والشكوك التي تتهدد أميركا من خلال مفاهيم وسياسات العصر الماضي البسيطة، ولا بد من إعادة صياغة المفاهيم التي ترتكز عليها السياسة الأميركية الخارجية.

ويعتبر “مايكل ليدن” أحد أقطاب المحافظين الجدد وأهم مفكري صناعة القرار الأمريكي الذين ارتبط اسمهم بنظرية الفوضى الخلاقة، إلا أن هذا الارتباط جاء من خلال مصطلح “التدمير البناء” وهو مصطلح مرادف لمصطلح “الفوضى الخلاقة” أو بالأحرى مسمى آخر لها، حيث قام “ليدن” في عام 2003م بإعداد مشروع “التغيير الكامل في الشرق الأوسط” المقرر تنفيذه خلال العشر سنوات اللاحقة من تاريخ صدور المشروع، والذي نص على إجراء تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية في كافة أنحاء المنطقة وفقاً لاستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء.

وقد ذهب ليدين إلى تسويغ مذهب القوة اللامتناهية، حتى ولو أدى الأمر بالولايات المتحدة إلى أن تقوم كل عشر سنوات باختيار بلد صغير وتدمره، وذلك لغاية وحيدة فقط هي أن تظهر للجميع أنها جادة في أقوالها. وينطلق ليدين من نظرية: “أن الاستقرار مهمة لا تستحق الجهد الأمريكي” ليحدد بالتالي “المهمة التاريخية” الحقيقة لأمريكا فيقول: “التدمير الخلاق هو اسمنا الثاني في الداخل كما في الخارج. فنحن نمزق يوميا الأنماط القديمة في الأعمال والعلوم، كما في الآداب والعمارة والسينما والسياسة والقانون. لقد كره أعدائنا دائما هذه الطاقة المتدفقة والخلاقة والتي طالما هددت تقاليدهم (مهما كانت) وأشعرتهم بالخجل لعدم قدرتهم على التقدم.. علينا تدميرهم كي نسير قدماً بمهمتنا التاريخية“.

ويمكن استقراء ما قالته وزيرة الخارجية الأميركية رايس حول سياسة التغيير نحو الديمقراطية في المنطقة في المؤتمر الصحفي المنعقد في 11 شباط 2005 بأنه يعكس ما يعرف بنظرية “الفوضى” أو التعقيدات السياسية – كرد على البساطة السياسة التي كانت سائدة في القرن الماضي والتي ناهضها المحافظون الجدد. حيث يعتبر توجه أمريكا باتجاه الديمقراطية في الشرق الأوسط – حسب ما يفهم من هذا الخطاب – جدياً وستستخدم لأجله كل الوسائل المتاحة لديها، ولن تخشى وصول الإسلاميين إلى الحكم بل ستتعامل معهم، وعلى الجميع الاصطفاف تحت قيادة أمريكا في التغيير القادم.

وهناك رأي يعتقد أن الفوضى الخلاقة تم تطبيقها في المنطقة قبل قرن من الزمن، والتي يجري تطبيقها الآن هي نسخة أمريكية محدثة عن الاستراتيجية البريطانية المعروفة بـ”فرق تسد”، التي انتهجتها القوى الغربية بعد الحرب العالمية الأولى كاستراتيجية   لتقطيع أوصال العالمين العربي والإسلامي في تلك الفترة، ولا شك أن الغرب يدركون أن من أهم الأسباب التي عجلت بسقوط الدولة العثمانية، هو الانفصال الذي أقدم عليه الشريف حسين تحت مسمى “القومية العربية”، بدعم من الفرنسيين والبريطانيين، وتم تتويجها بمعاهدة “سايكس بيكو” – التي يبدو أن الغرب لم يعد مقتنعاً بها في الوقت الحالي -اعتماداً على استراتيجية فرق تسد البريطانية التي استبدلت بـ”الفوضى الخلاقة” الأمريكية، والتي نرى ارهاصاتها اليوم حروباً وتمزقاً في كل بقاع العالمين العربي والإسلامي.

ومن اللافت أن الفوضى دخلت مجالات جديدة حيث يؤكد مارتن كروزرز – مؤسس مذهب جديد في علم العلاج النفسي – أن الفوضى إحدى العوامل المهمة في التدريب والعلاج النفسي، فعند الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى يفقد الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن أن تحدث المعجزات.. فيصبح قادراً على خلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به.

لقد دخلت نظرية الفوضى اليوم كفرع جديد من فروع العلم، التي تعنى بدراسة ظواهر الاضطراب والاختلال واللانظام واللاخطية، في مختلف المجالات، كالمناخ، وأجهزة الجسم عند الإنسان، وسلوك التجمعات الحيوانية والإنسانية، فضلاً عن الاقتصاد والتجارة وحركة الأسواق المالية، انطلاقا نحو حركة المجتمعات الإنسانية والسياسة.

الأسس الفكرية لنظرية الفوضى

أعتبر “نيقولا ميكافيلي” في كتابه “الأمير” أن النظام ينشأ من الفوضى؛ وأن الفوضى تحدث الخراب الذي يقام على أنقاضه النظام، لكنه لم يشأ إحداث الفوضى للوصول إلى النظام عن قصد.

فالفوضى عنده نتاج الراحة الذي هو نتاج السلم في حين أن الفوضى تنتج الخراب الذي ينتج بدوره النظام. ومنذ وقت مبكر لعبت (فلسفة الفوضى) دوراً في التنظير والأبحاث الاجتماعية والسياسية والدولية، حيث مثلت مناهج الفكر التقليدية الأساسية الثلاث الآتية (منهج هوبز – منهج غروتيوس – مذهب كانت) قراءات متقاربة لتاريخ الفكر الخاص بالمجتمعات والعلاقات الدولية وبكل ما تطور به هذا الفكر داخل أوروبا بدءاً من القرن الخامس عشر، وعلى الرغم من اختلاف هذه المناهج في بعض ما أتت به حول مفهوم (المجتمع الفوضوي)، فإن هذه المناهج تعلق أهمية كبيرة على أهمية التاريخ والمنهج التاريخي، والحاجة إلى إرجاع صلب المجتمع الدولي إلى التاريخ.

ويستند الأساس الأيديولوجي النظري لصيرورات الفوضى الخلاقة تاريخيا إلى الثورة الفرنسية باعتبارها مرجعاً قابلا للدرس والمقارنة بشعاراتها المعروفة الحرية والعدالة والمساواة، وعلى الرغم من نبل المنطلقات النظرية للثورة الفرنسية وايجابياتها إلا أنها ولدت آثارا جانبية ضارة تمثلت بسيطرة العامة التي حولت الأوضاع إلى فوضى عارمة تفتقر إلى التنظيم في ظل غياب مرجعيات فكرية وسياسية ساهمت في تآكل الثورة وكان من نتائجها عودة الملكية إلى فرنسا ونمو النزعة الشوفينية الفرنسية التي أرادت تصدير الفوضى الثورية إلى دول أوروبا دون الالتفات إلى الخصوصيات المكونة لهذه الدول.

كما ناقش عالم الاقتصاد النمساوي “جوزيف شامبيتر” في كتابه “الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية” الذي أصدره عام 1942 أطروحة: “التدمير الخلاق”، اذ اعتبر وبحسب المفهوم الرأسمالي أن إزاحة القديم هي التي تفرز الجديد والتطور حيث قال: “ليس القديم بالرأسمالية هو الذي يفرز الجديد، بل إن إزاحته التامة هي التي تقوم بذلك“.

ووفقاً للفلسفات المعاصرة ليست فقط التراكمات الكمية هي التي تؤدي لتغيرات نوعية، بل أيضا التغيرات النوعية في القيم والأفكار والمعارف هي أيضا أدوات فاعلة قادرة على التغيير في الاقتصاد والسياسة معاً، فهي أدوات تغييرية سحرية جاذبة قادرة على تفكيك الانتظام الخطي وتحويله لفوضى من خلال تحطيم نظم وأسس الاجتماع والهوية التي تقوم أيضا على نظم ومفاهيم وقيم أخرى جاذبة تولد الوحدة داخلها.

وهنا نصل لأصل ومبدأ الفوضى الخلاقة كنظرية مثالية في احداث التغيير التاريخي عبر التثاقف وانتشار الأفكار. التي ترى أن بعض النظم ذات خصوصية مغلقة عصية على التغيير وذات، قدرات قمعية كبيرة، ولها استقلالية كبيرة عن إرادة الناس، وتستطيع تشكيل حلقة مفرغة من الثبات، يصعب على قوى التفكك تحطيمها، لكنها ليست عصية على التفكيك بواسطة الفكر والرموز المجتمعية، وقد نجح تطبيق هذه النظرية بشكل رائع في تفكيك منظومة الدول الشيوعية والاتحاد السوفييتي. حيث جرى ضخ قيم الحرية والليبرالية عبر رموز محددة أدت في النهاية لتفكك ذاتي دراماتيكي لهذه المنظومة الحديدية 1989 .

فتفكيك وتغيير بعض النظم المستقرة على القمع الذي يستخدم أدوات وامكانات الدولة الحديثة الرهيبة ممكن عبر التدخل الناعم في نشر هذه الأفكار والمفاهيم التي تقوض الاستقرار فيها.

وهذا يتطلب تطوير هذه الأفكار وجعلها متناسبة مع مشاعر الناس، وإيجاد الوسيط الناقل من رموز وأدوات، ومن ثم دعمها وتدريبها في مرحلة تكوينها وبدايتها كي تتغلب على قوى الستاتيك وتحطم حلقتها الداخلية. في هذه الحال تنجح في تفكيك ونفي النظام القائم على قداسة السلطة وتحطيم تابو الخنوع، فتنشط قوى الفوضى/ الثورة، التي لا بد ستستعيد نظامها لكن على أسس جديدة تعبر عن المستوى الفعلي لتطور ونمو البنى التحتية وقوى الإنتاج بما فيها حاجات ومتطلبات البشر. هذه هي نظرية الفوضى الخلاقة التي تعمل في الشرق الأوسط الآن والتي يعتبر الربيع العربي نموذجاً عنها.

إن الفلسفة البراغماتية هي الفلسفة التي تستند عليها النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة في صياغة مفهوم الفوضى الخلاقة إذ أنها تفترض أسبقية الواقع على الذهن. بما يعني أن قراءة البيئة وتشخيصها يفرض على التفكير الاستراتيجي الأميركي التكيف مع معطياته وتطوراته.

وعلى ضوء ذلك يذهب المفكرون الاستراتيجيون الأمريكيون إلى تعريف الاستراتيجية   بأنها: “فن التعامل والتلاعب بمؤشرات الواقع التي تعكس فرصا وتهديدات” بما يضمن استثمار الفرص وكبح التهديدات أو على الأقل تقليل تأثيرها على المصالح الأمريكية.

وعلى مستوى التحليل السياسي الدولي يرى البعض أن الفوضى الخلاقة ترتكز على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين رئيستين:

الأولى: “فرانسيس فوكوياما بكتابه نهاية التاريخ” ويقسم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي.

وعالم آخر ما بعد التاريخي وهو الديمقراطي الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية. ويرى أن عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية.

الثانية: “صموئيل هنتنغتون بكتابه صراع الحضارات” معتبراً أن النزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً. ذاهبًا إلى أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل.

ورغم تناقض المدرستين، إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، إضافة إلى معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية.

وتعد الاطروحتين من المفاهيم التي تصلح لتحليل السياسة الدولية وفهم التوجهات والاهداف الامريكية في علم ما بعد الحرب الباردة.

وتعتمد نظرية الفوضى الخلاقة في الأساس على ما أسماه “صموئيل هنتجتون” بـ “فجوة الاستقرار” وهي الفجوة التي يستشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر. فضيقها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لاسيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القابلية والقدرة على التكييف الإيجابي، ذلك أن مشاعر الاحتقان  قد تتحول في أية لحظة إلى مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحياناً غير متوقعة، ما يفرض على مؤسسات النظام ضرورة التكيف من خلال الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة السياسية، واستيعاب تلك المطالب.

أما إذا كانت تلك المؤسسات محكومة بالنظرة الأحادية، فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لأي مطالب، إلا بالمزيد من الفوضى التي يرى هنتجتون أنها ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.

بعد انتهاء الحرب الباردة طور أحد أهم المحاضرين في وزارة الدفاع الأمريكية وهو البروفيسور “توماس بارنيت” نظرية الفوضى الخلاقة؛ فقد قسّم العالم إلى من هم في القلب أو المركز “أمريكا وحلفائها”، وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول “الفجوة” أو “الثقب” حيث شبهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهراً قبل أحداث 11 سبتمبر. ويذهب “بارنيت” إلى أن دول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر المنتشر، والقتل الجماعي والروتيني، والنزاعات المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين. وبالتالي فإن على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته.

فالعلاقات الدبلوماسية مع دول الشرق الأوسط لم تعد مجدية؛ ذلك أن الأنظمة العربية بعد احتلال العراق لم تعد تهدد أمن أمريكا، وأن التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع داخل الدول ذاتها، بفعل العلاقة غير السوية بين الحكام والمحكومين. ويخلص “بارنيت” إلى أن تلك الفوضى البناءة ستصل إلى الدرجة التي يصبح فيها من الضروري تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل، على نحو يعجل من انكماش الثقوب وليس مجرد احتوائها من الخارج، منتهيًا بتخويل الولايات المتحدة القيام بالتدخل بقوله: “ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك“.

آخر الأخبار