الفنون الجميلة و الأعمال الخيرية بورزازات في زمن الحماية الفرنسية

الكاتب : الجريدة24

15 نوفمبر 2019 - 07:00
الخط :

عبد الحكيم المرابط

يقول أحدهم إن أنظمة الحماية و الاستعمار، لا تذخر جهدا في سبيل فهم طبيعة المجتمعات و تفكيك بنياتها الاجتماعية، بغية التحكم التام في شؤونها. و تسخر هذه الأنظمة مؤسساتها الاجتماعية و الدينية لكسب تعاطف المحليين، و بالتالي تلميع صورة الاحتلال في أعينهم.

و في المقابل، يقول آخر أنه لا يمكن تجاوز ما يسميه البعض "الجانب المشرق للحماية الفرنسية"، و لا يجب إغفال دور الخدمات الاجتماعية و الثقافية لنظام الحماية و قيمتها لدى المغاربة البسطاء، في ذلك الوقت.

في عام 1936، حل الكومندون گاستون بالمگير بورزازات لشغل منصب القائم على الشؤون الأهلية. و قبل ذلك، اشتغل الضابط الفرنسي بمدن مغربية أخرى كتازة و تاونات و فاس و زاكورة. غير أن إقامته بورزازات، تميزت باهتمامه البالغ بالفن التشكيلي و الصناعة التقليدية، إلى جانب الأعمال الخيرية.

بالمگير، مسؤول رفيع لم ينج من التيفوس

تصادف قدوم بالميگير إلى دائرة ورزازات، مع انتشار وباء التيفوس. و لم يسلم الضابط ذاته من العدوى الفتاكة، فهرول إلى المركز الصحي، حيث كان يتم تلقيح المصابين؛ هؤلاء كانوا يشكلون طوابير في قرية تاجدة، على ضفة وادي ورزازات الجنوبية.

انتشر الوباء، وقتئذ، في المنطقة، فقضى على عائلات بأكملها، و مات الكثيرون قبل وصولهم إلى مركز التلقيح، و معظمهم من المداشر البعيدة، حيث كان المرضى يحملون إلى المدينة على الدواب.

يحكي "أرشيف كاستون بالمگير" عن دور المسؤول الفرنسي في احتواء الوباء. لقد كان مشرفا على عملية التلقيح، و متابعا لتفاصيل التدخل الطارئ لمختلف المصالح العاملة تحت إمرته. و تكلف برعاية الأيتام من الأطفال الذين فقدوا ذويهم من جراء التيفوس. كان ذلك في دار للرعاية غير بعيد عن مركز المدينة؛ و قد كانت مؤسسة بمعايير جيدة، توفر الإيواء و التعليم و التدريب المهني و امتيازات أخرى.

رقية في دار الأيتام

في دار رعاية الأيتام، كانت هناك مربية ذات سحنة سوداء جنوب-إفريقية، اسمها رقية، و كان عمرها لا يتجاوز 18 سنة في 1936. و تقول الرواية الفرنسية أن الشابة كانت، في الغالب، من أصول سودانية، هاجرت مع أقاربها الذين قضوا نحبهم في صحراء زاكورة، و عثر عليها، بعد ذلك، مشردة على الطريق في اتجاه ورزازات.

تبنى بالمگير حالة رقية. و بفضله اندمجت في الحياة العامة، و تعلمت حتى صارت مربية لعشرات الأطفال. و كانت تؤدي واجباتها بكل حب و تفان.

في مذكراتها، تصف آن بارتليمي، ابنة الضابط بالميگير، رقية بالجميلة ذات القلب الطيب؛ بل و تصفها بالخارقة للعادة. و تضيف آن، المقيمة بورزازات إلى حدود 1945 : "كانت رقية نموذجا مثاليا للشخصية القوية و البشوشة و المحبوبة، و كان لدي إحساس قوي تجاهها".

الفن و الصناعة التقليدية عند بالمگير

في يناير عام 1991، صدر كتاب بعنوان "تازرا"، "مجوهرات و زرابي ورزازات" لمؤلفته آن بارتليمي بالمگير. و يتضمن الكتاب بورتريهات مثيرة حول أمازيغ القرى المجاورة لمركز ورزازات، خلال ثلاثينيات و أربعينيات القرن الماضي. و يورد تفاصيل مهمة حول عادات و تقاليد السكان، و عن علاقتهم بالثقافة و الفن.

و يتطرق المؤلف لموسيقى أحواش، التي كانت تستهوي الضابط بالمگير، و بخاصة أحواش قصبة تاوريرت و قصبة تلوات. و في جانب آخر، شهدت صناعة زربية قبائل آيت واوزكيت- ورزازات و النواحي- نهضة حقيقية، حسب آن بارتليمي.. ففي تلك الفترة بالذات، أنشأ بالمگير مدرسة للمهن التقليدية، و شرع في تكوين الصناع؛ كما وفر وسائل الإنتاج، و دعم تسويق الزرابي و غيرها من المنتوجات التقليدية المجالية.

علاوة على ذلك، يحتوي الكتاب على مجموعة من الصور للوحات أبدعها المسؤول الفرنسي بورشة للفن التشكيلي، داخل مقر إقامته الرسمية بمركز ورزازات. و هي أعمال بارزة تنهل من ثقافة المنطقة.

تمكنت ريشته، على نحو مثير، من التسلل إلى عمق مجتمع آيت واوزكيت، الذي يعرفه حق المعرفة، فجسد في رسمه أفراح المحليين و أتراحهم، قيمهم المثلى و احتفالياتهم الرمزية.. جسد الجمال و الحب، قسوة الحياة و شظف العيش.

و تضيف آن، في هذا الصدد، بأن "الفلسفة و التاريخ و الفن هو ما كان يميز عالم گاستون بالمگير الفريد. لقد كان مهندسا بارعا في الفنون و خبيرا في مهن أخرى".

توفي گاستون بالميكير في عام 1949. و دفن بالمقبرة العسكرية، ابن مسيك، في الدار البيضاء. و يصف الكاتب الفرنسي، جاك گانديني، العارف بشؤون الجنوب الشرقي المغربي في زمن الحماية الفرنسية، (يصف) رحيل الضابط الفرنسي ب"نهاية رجل عظيم".

آخر الأخبار