العامل المسؤول عن عادة تأجيلنا للعمل !

الكاتب : وكالات

16 نوفمبر 2019 - 08:00
الخط :

كتب سايرل نورثكوت باركنسون في مستهل مقالة نشرت في صحيفة الإيكونومست عام 1955: "يُلاحظ عادة أن العمل يتضخم لكي يملأ الوقت المتاح لإنجازه". وعُرفت هذه الفكرة باسم "قانون باركنسون".

وتراودني هذه الفكرة كلما طُلب مني تسليم مقالة في موعد محدد، إذ يتوقف الوقت الذي أقضيه في كتابة المقالة على الموعد النهائي لتسليمها وعدد الأيام والساعات المتبقية حتى هذا الموعد.

وضرب باركنسون في المقالة الساخرة مثالا بسيدة عجوز قد تقضي اليوم بأكمله في كتابة خطاب لابنة أختها، لأنها ليس لديها ما يشغلها طوال اليوم.

وبنى باركنسون على هذا القانون مقالات عدة وكتابا وألقيت حوله محاضرات عامة حول العالم.

لم يقصد باركنسون بالطبع السخرية من المسنات اللائي يكتبن الخطابات أو الصحفيين من أمثالي، بل كان يوجه انتقاده لأحد أوجه انعدام الكفاءة الذي تعكسه بيروقراطية الإدارات الحكومية البريطانية.

إذ لاحظ باركنسون أن عدد السفن في البحرية البريطانية انخفض في الفترة ما بين 1914 و1928، وترافق ذلك مع انخفاض في عدد العمال والضباط في البحرية الملكية، ورغم ذلك ظل عدد الموظفين الإداريين الذين يتمسكون بحرفية الإجراءات الروتينية يتضخم بنسبة تقارب ستة في المئة سنويا، وهذه الزيادة لا علاقة لها بحجم العمل.

فقد كانت الإدارة تتوسع، رغم انخفاض حجم العمل وتقلص عدد الموظفين المطلوب إدارة شؤونهم.

كلما زاد حجم الحكومة أو التنظيم الإداري، تعاظمت البيروقراطية وانخفضت كفاءة الحكومة أو المنظمة

ألقى ستيفان ثيرنر، أستاذ علوم الأنظمة المعقدة بالجامعة الطبية بفيينا، نظرة عن كثب على قانون باركنسون. ويقول ثيرنر إن هذه الفكرة استوقفته عندما استقلت كلية الطب عن جامعة فيينا وأصبحت جامعة مستقلة في عام 2004.

وفي غضون عامين، أصبحت جامعة الطب بفيينا تدار بواسطة 100 شخص بدلا من 15، بينما ظل عدد العلماء ثابتا. ويقول ثيرنر: "تساءلت لماذا زادت الأعباء البيروقراطية رغم أنها كان من المفترض أن تقل".

وكان ثيرنر قد قرأ كتاب باركنسون في نفس الوقت وألهمه لتحويل القانون إلى نموذج رياضي بمساعدة بيتر كليميك ورودلف هانيل.

ويقول ثيرنر إن باركنسون رأى أنه إذا زاد عدد الموظفين والمسؤولين الإداريين بنسبة ستة في المئة، فإن الشركة سيكون مآلها الفشل عاجلا أو آجلا، لأن هذا سيعني تعاظم البيروقراطية وتدني الإنتاجية بسبب تركيز الموظفين في الشؤون الإدارية وليس في الإنتاج.

وأشار باركنسون إلى عاملين أساسيين في الأنظمة الإدارية يؤديان إلى البيروقراطية، أولهما ما أطلق عليه قانون مضاعفة المساعدين، أي تعيين مساعدين أو أكثر للمديرين يرفعون التقارير إليهم ولا ينافسون المديرين أنفسهم، وثانيهما أن الموظفين الإداريين البيروقراطيين يخلقون مهاما إضافية لغيرهم من الموظفين الإداريين.

ويقول ثيرنر إن الشركات تبدأ عادة بهيكل تنظيمي أفقي يتميز بقلة المستويات الإدارية، ربما يقتصر على مهندسين اثنين فقط.

وعندما تتوسع الشركة، يعين هؤلاء المهندسون مساعدين لهم، يترقون بدورهم ويعينوا مساعدين لهم. ومن ثم تتشعب المسؤوليات وينمو الهرم الوظيفي، الذي تضاف إليه مستويات لا طائل منها قد تساعدك في ترقية الناس لإسعادهم وتحفيزهم.

وعندما يتضخم الهرم الوظيفي وتكثر مستوياته، قد يلتهم تدريجيا أرباح الشركة. وإذا لم تقلص الشركة الوظائف الإدارية عند هذه المرحلة سيكون مصيرها الفشل.

وتناول ثيرنر أيضا نقاط الخلل وانعدام الكفاءة في الحكومات التي كان باركنسون يوجه لها الانتقاد في البداية.

وأجرى ثيرنر دراسة أخرى عن حجم الوزارات في نحو 200 دولة، وخلص إلى أن حجم الوزارة يتناسب عكسيا مع كفاءة الحكومة، والاستقرار السياسي، وإمكانية المساءلة وفقا لمؤشرات البنك الدولي، والعمر المتوقع والمعرفة ومستوى المعيشة وفقا لمؤشرات الأمم المتحدة.

ولاختبار مدى تأثير حجم المجموعة على قدرتها على اتخاذ القرارات، وضع الفريق البحثي نموذجا بناء على شبكات تدفق المعلومات وخلص إلى أن المجموعات عندما يصل عدد أفرادها إلى 20 فردا، تتشكل ائتلافات ومجموعات فرعية بين الأفراد وبعضهم.

ويقول ثيرنر إن هذه المجموعات الأصغر حجما تشوش على بعضها بعضا وتحول دون صدور القرارات.

ولهذا من الصعب التوصل إلى قرارات بالإجماع عندما تضم مجالس الوزارء الكثير من الأعضاء.

وخلصت الدراسات التي أجريت في العقود اللاحقة لنشر مقالة باركنسون إلى أننا قد نميل بالفعل إلى إهدار الوقت وقضاء وقت أطول مما ينبغي في إنجاز المهام التي بين أيدينا، ما لم نضع ضوابط زمنية صارمة.

وفي دراسة أجريت في ستينيات القرن الماضي، لاحظ الباحثون أن المشاركين في الدراسة استغرقوا وقتا أطول في تنفيذ المهمة عندما أعطاهم الباحثون وقتا إضافيا لإكمالها.

وفي مجموعة دراسات أخرى أجريت عام 1999، طُلب من المشاركين تقييم أربع مجموعات من الصور، وعندما أخبرهم الباحثون أن المجموعة الرابعة ألغيت، تلكؤوا في تقييم المجموعة الثالثة بدلا من إنجاز المهمة على وجه السرعة.

ولاحظ الباحثون أن الوقت الإضافي الذي أمضوه في إنجاز المهمة لم يؤد لا إلى زيادة الدقة ولا إلى ترسيخ الصور في الذاكرة لاستدعائها فيما بعد.

لكن هل هذا يعني أن وضع قيود زمنية صارمة سيسهم في تحسين إنتاجيتنا؟

يقول إلدار شافير، أستاذ بجامعة برينستون ومؤلف كتاب "سكارسيتي" الذي يبحث في العوامل النفسية وراء وضع أطر زمنية أضيق من اللازم ومدى تأثيرها على سلوكياتنا، إن البشر لديهم ذاكرة محدودة وقدرة محدودة على التركيز والانتباه.

ويقول إن قدرة البشر على الانتباه للمهام المتعددة محدودة، ولهذا قد نقسم سعة الانتباه على مدار اليوم. لكن أحيانا نحتاج أن نركز كل طاقتنا وتركيزنا في إنجاز مهمة محددة، حين تقتضي الضرورة.

وذكر شافير في كتابه: "قد يداهمنا موعد التسليم كما تداهمنا العاصفة، فنخشى من اقترابه، وهذا يدفعنا للتركيز بشدة على المهمة التي نحن بصدد تنفيذها." لكن المشكلة أننا سننشغل بها عن كل ما عداها، فإذا ركزت انتباهك على مشروع كبير لاقتراب موعد التسليم النهائي قد تنسى أن تحضر أطفالك من المدرسة أو عيد ميلاد أمك، وهكذا. وهذا هو ثمن النجاح الذي ستحققه بفضل التركيز.

وثمة عيوب للتعجل بإنجاز المهمة في سويعات قليلة، ولا سيما إذا كان موعد التسليم قد حدده شخص آخر لك.

ويقول شافير: "إذا كان الإطار الزمني ضيقا، واستولى عليك القلق من تفويت موعد التسليم، ستضحي بأشياء أخرى، وسيكون عملك غير متقن وسترتكب أخطاء كثيرة".

وتقول إليزابيث تيني، أستاذة مساعدة بكلية ديفيد إكليس للأعمال بجامعة يوتا، إن الناس يعتقدون أنه لولا اللحظة الأخيرة لما أنجزوا شيئا. لكن الأبحاث تدل على أن الإنتاجية لا تزيد بمعدلات ثابتة.

فعندما يجلس الناس لتنفيذ مهمة، يضعون كل تركيزهم على هذه المهمة في البداية، لكن عند نقطة معينة ينخفض المردود من العمل كلما يزيد المجهود المبذول في تنفيذ المهمة.

وتنصح تيني في المقابل، بالبحث عن النقطة التي يقل فيها المردود وتزيد التكاليف، وعندها يجب أن تتوقف عن العمل.

وتقول إن هذا يعني أنه ليس من المفضل أن تعمل من بداية استلام المشروع الذي كلفت به حتى موعد التسليم بلا توقف، بل من الأفضل أن تأخذ بين الحين والآخر قسطا من الراحة تنقطع فيه عن العمل.

وعن مثال السيدة المسنة التي تكتب الخطابات الذي ذكره باركنسون، فلو كانت قد وضعت موعدا محددا للانتهاء من الكتابة، لكانت أنهتها في وقت أقصر، لكن بما أنها ليس لديها ما يشغلها، فقد أنهت كتابة الخطابات في الوقت الذي تريده.

آخر الأخبار