الجدوى الأنطولوجية للشعر

الكاتب : الجريدة24

02 أكتوبر 2023 - 01:10
الخط :

الجدوى الأنطولوجية للشعر  ديوان"أنين الحروف": حفل قراءة وتوقيع

ادريس هاني

للزمان كما للمكان شعرية بها نحيا. بالأمس توقيع نثيراتي الموسومة بأنين الحروف. كان همّي أن أسترجع الذّاكرة، لأنّها جسر طويل إلى شعرية الشعر وماهيته، تلك الماهية التي ستشكّل مغزى انكشاف الوجود عند هيدغر.

لوحة الديوان مقصودة من فنان تشكيلي جعل السونونو رمزا لملحمته التشكيلية. وسأبوح لماذا تقصدت اختيار واحدة من لوحاته، إنها بلا مواربة تعيدنا إلى هولدرلن: "أيها الشعراء، كونوا أحرارا كالسونونو". إنه طائر عصيّ على أن يوضع في قفص، بل هو من يختار مكانه، وهو عابر لا يتوقف عن العبور. نعم، كما في المثل الفرنسي، أن سونونو واحدا لا يصنع الربيع، لكن الربيع هو من يجلب السونونو من كل العوالم. وعندما يصبح السونونو أيقونة فنية، فهو يحاكي الطبيعة ويمنح الربيع حضورا أبديا، تصنعه المتعة وكذا الذاكرة الجمالية.

إنه إذن السونونو، له إيقاع خاص في العبور والتموضع، وكما سيلاحظ من قرأ مشكورا هذا الديوان، أنّه غير قابل للتقيد، وبالفعل، إنني أرى الشعر أقدم من تلك البحور، كما الفلسفة أقدم من الكاطيغورياس.

في الديوان الذي كان من المفترض أن أنجزه قبل عقدين ونيف، أكّدت على أنّ ذائقتي تأبى الرتابة، فأنا ابن أزيز السيارات وصخب المقاهي، بل التنويع الكلاسيكي الخلاق للنغم، تموسقي آخر.

الشعر ضرورة، ليس إمتاعا يسكن اللغة ويمارس لعبتها فحسب، بل هو يسكن كل حيز تمارس فيه فعالية الوعي الفينومينولوجي بالأشياء. حتى في العلم، يربط العالم في مختبره شكلا من العلاقة الشعرية بأدواته المختبرية، الكيميائي بالعناصر التي تبدو حارقة، شعرية المختبر إن شئت القول، أوريكا في مشهدية أرشيميد، والتي فاقت فكرة الكثافة نفسها. كثافة اللحظة وشاعريتها خلدت في تاريخ العلم. في هذه الانسيابية التخيلية التي يقدمها الموقف الفينومينولوجي، أعني انسيابية وتنوع الخيال الذي يقع أساسا لتحفيز الحدس القابض على الوعي الترانسندنتالي بالماهية، تنبني الفرضية على لحظة شعرية، اقرأ المعلقات على عالم، ستحفز في داخله حدس الفرضية. هنا العالم يستطيع أن يأنس بالشعر وعوالمه، باعتبار أنّ الشعرية كماهية توجد في كلّ الأشكال التعبيرية، بل دعنا أزعم أنّ اللحظة الفينومينولوجية وانبثاق الوعي بالحضور هي لحظة جمالية بامتياز. الدماغ نفسه مركب تركيبا شعريا، فالذين أزاحوا الخيال في مبتدأ الحداثة: ديكارت، مالبرانس...فعلوا ذلك بوسائل خيالية، فالخيال نفسه يستطيع أن يصور نفسه ويوهم حامله معزولا . لكننا مع اللحظة الهيغلية وصولا إلى هيدغر، بات الشعر تعبيرا عن وجودية الدازاين، فالخيال هنا يحلّ معضلة نسيان الوجود، ذلك النسيان الذي تسبب فيه العقل المقولي.

لم يطرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة، فلقد كان مأخوذا بالمثال، بتنزيه المطلق، شعراء الملاحم في عصره خلطوا بين العوالم.، انتقد شعراء عصره. العلاقة العدائية بين الشعراء والفلاسفة التي يستند فيها أفلاطون على سقراط باتت متجاوزة مع المنعطف الهيغلي، حيث الوعي في تمرحله يسمو  علانية نحو الجمال، وإن كان لي مذهب آخر في الجمال، وهو الذي يبدأ تاريخه من أولى مدارك الوجود، في كوجيطو: أنا أرى الجميل، إذن أنا موجود. الوجود خير محض في الحكمة المتعالية، الجمال مساوق للوجود، سيظل دائما شيء مخفي من الوجود وكذا الجمال، لأنّ وجودية الوجود وجماليته تعني وجود علامات بها نلمحه، كتجلي عابر، وغرائبي، تكمن شعرية الوجود في ما لم يخضع منه للانكشاف، فلئن زعمت أنه لا بد من دليل على الوجود أو دليل على الجمال، فأنت لم تمسّ بعدُ ماهيتهما.

لسنا في وارد أن نصدر أحكام قيمة على الأجناس الأدبية، فالشعر أسمى من بحوره ومن رتابة الخبب، هيا نصعد إلى الجبل، ونرتمي، ثم نُحلِّق، هنا النثيرة تستفزّ وتصنع الغرابة، الجمال لا يحتاج إلى دليل، فهو مثير ومستفز كما في مقاربة شارل بيبان في الجميل ينقذنا، عند بودلير: الجميل دائما غريب(Le beau est toujours bizarre)...هو ما تستطيع أن تحتضنه النثيرة من الغرابة كما يذهب محمود درويش، بإيقاعها الداخلي غير الرتيب، باتساعها لتعقيدات النغم. هناك من يسبح في البحور 15 الخليلية أو يزيد عليها بحر المتدارك كالأخفش، أو حتى بحر المناجاة لصديقنا عجمي، ولكن توجد بحور لا تتفعلل، توجد سماوات، يوجد رنين عميق، وجماليته محدوسة لا تحتاج إلى دليل.

حاولت قبل سنوات أن أهرب من القصيدة إلى السرد، كان ذلك شكلا من الخيانة كالتي أعلن عنها ميلان كونديرا، وإن اعترف بأن لا مناصة للسارد من التتلمذ في مدرسة الشعر الملحمي. لكنني كنت أومن بأنّ ماهية الشعر كامنة في اللغة نفسها من حيث هي هيدغيريا مأوى الوجود.

يوما بعد يوم، تظهر أهمية الشعر ووظيفته، وليس لوظيفته حدّ ولا حصر، بما فيها الوظيفة التي نظم بها السكولاستيكيون صنائعهم إسنادا للحافظة. هذه الوظيفة نسبية عبر العصور كما حاول ت.س. إليوت. إلى رسالة الشعر لا حدود لها، حتى الشات جي.بي تي، يقرض من الشعر ما يؤكد بأنّ التقنية لن تحجب وظيفة الشعر التي هي لشدة وضوحها انحجبت. يحتاج الشعر أن يتميز بلغته، بقدر ما يمكن من التفرد، اجتنابا للتشاركية المفرطة،حيث هناك لعبته وغرابته ووظيفته الساسية.

لن يكتب الشعر فاقدا لحاسة استبصار الجميل، لاستيعاب غرابته، الذات التي يسكنها الحقد الحاجب لقيم الجمال الوجودي، الأنسنة ليست نظيمة للإقناع، هي كالجميل يحمل آيته في تجلّيه. الوعي في مدارك الجمال الفنّي، رُقيّ يفيض على الحيّز وينتج معه علاقة غُربة وغرابة. يعدنا الفنُّ بأنّه وحده، ووحده فقط، يستعيد ماهية ذلك الجوهر الهارب منّا، على الشعر أن يخون الحقيقة الظاهرة من أجل التقدم في الكاشفية الوجودية. إنّ العلم حين يبلغ محلّه، يستدعي نشوة شعرية، في مشهد قصائدي: أوريكا....

يعض من رؤوس الأقلام هذه ، سأعود إليها في مقاربة أنطولوجية-شعرية، لمزيد من الكشف عما هو خفي وأخفى في تلك العلاقة التي لا زالت تتمنّع عن البوج، حيث زماننا الذي يشهد انحطاطا شاملا، أصاب بجرأة ناذرة الفلسفة والشعر معا، ما يجعل العودة إلى المهمة الهيدغيرية التي لخّصت ملحمة الانقلاب على الميتافيزقا الغربية، مهمة البحث عن ماهية الوجود، والبحث عن ماهية الشعر، وذلك لما قد تتسبب فيه اللغة نفسها من حيث خطورتها وانقلابها على الوجود والشعر نفسه......

شكرا لمن حضر وداخل ونظّم...

ثقافة وفن