جريمة مؤنثة.. العداءة وبائع النقانق

الكاتب : الجريدة24

29 يوليو 2023 - 06:00
الخط :

رضا حمد الله

قبل أقل من عقدين خرجت للوجود من رحم المعاناة، لتفتح عينيها على واقع مر بعد ولادة قيصرية كادت تودي بحياة من حملتها في أحشائها تسعا. لا شيء يشجع على العيش وسط أسرة غارقة في الفقر والجهل والأمية. أم تتوسل صدقة المحسنين بأبواب المساجد، وأب مياوم يشتغل يوما ويمكث في البيت الوضيع أياما ليرعى إخوتها الثلاث سبقوها للوجود ومرارة الحياة حيث لا أمل في عيش أفضل.
لما كبر جسدها ونما تفكيرها كانت تتساءل مع نفسها عن سر الإنجاب الوفير للفقراء. لا مال لهم ويلدون عدد ما تلد الأرانب. لماذا يلدون ما داموا عاجزين عن توفير المأكل والملبس لأبنائهم ومتقاعسون في تدريسهم؟. سؤال لا تجد له جوابا كلما نظرت لذاك الجيش من إخوتها وأخواتها. عددهم ثمانية ولا أحد منهم تعلم فك شفرات الحروف الأبجدية، ولا وجدوا عملا ومدخولا قارا يساعدون به في الإنفاق. كبارهم مهددون بالانحراف، انخرطوا مبكرا في بيع السجائر بالتقسيط وتعلموا وضعها بين شفاههم وأدمنوا تدخينها. كبرت أجسادهم تدريجيا وكبرت مشاكلهم بسرغة فائقة.
كبيرهم جرب برودة الزنزانة بعد نشله محفظة زبون، وآخران لا يدخلان المنزل إلا في ساعة متأخرة. الأب لا يهمه أين تأخرا ولماذا، بقدر اهتمامه بكم سيساهمان في اقتصاد الأسرة. لا يهمه ألا المال، أما التربية فلا يعلم عنها "لي مربي، مربي من عند ربي" عبارة يرددها كلما أغضبه سلوك وتصرف أحد إخوتها أو شغب أخواتها الأصغر غير الداريات بما ينتظرهن مما ذاقت مرارته دون أن تجد لنفسها منفذا للخلاص الذي ترجته مرارا بمحاولة الهروب من واقعها ومنزل لا تطيقه.
كانت دوما ناقمة على حالها الذي لم تختره، لا أحد يختار واقعه وانتماءه وأسرته، الدنيا قسمة ونصيب، ونصيبها ألم لا ينتهي. لذلك كان سهلا أن تنحرف مبكرا، فأمسكتها ذئاب بشرية نهشت لحمها وهي صغيرة، دون أن تنفع محاولات إنقاذها بتسجيلها في نادي لألعاب القوى. موهبتها في العدو، اكتشفها بطل عالمي صدفة وضمها لناديه. تحسن مستواها واحتلت مراتب متقدمة في بطولات وتظاهرات جهوية وكانت على وشك التألق وطنيا والتنافس قاريا ودوليا. لكن الذئاب كانت ما تزال متربصة بها وتتحين الفرصة للانقضاض عليه من جديد.
بائع النقانق تسلل لحياتها من نافذة الحب. يكبرها بعقد وتفنن في الإيقاع والتغرير بها وهي ما تزال قاصرا. أمطرها بعبارات العشق والوعود العسلية وأقنعها بالانبطاح ومشاركته الفراش، ففعل بجسدها ما شاء وحلا له. استباحه دون استئذان، هو الأكبر سنا وخبرة وفض بكارتها وتسبب في حملها. ولما طلبت استكمال دينهما والارتباط بعقد نكاح، تملص من المسؤولية وانكر أبوته للذي بين أحشائها. تركها تواجه مصيرها لوحدها، واختار الزنزانة الباردة على الزواج بها.
سنتان قضاهما في السجن ومرا كلمح البصر. ولما استعاد حريته، كانت هذه العداءة الواعدة وضعت ابنهما وتخلت عن العدو الطريق الأصح الذي تاهت عنه. وطالما أن حبها له صادق حتى بعد تنكره، فقد كان سهلا عليه إعادة الإيقاع بها وإقناعها بالعودة للارتماء في حضنه حتى خارج عش الزوجية. كانت تحلم بحضن يدفئ رضيعهما ويحميها من ذئاب تتربص بجسدها، أما هو فلا يهمه منها إلا الذي بين فخديها يفرغ فيه نزوته كلما احتاجها، حتى دون احترام لكرامتها وسمعتها. لم يكن يهمه إن عاشرت أحدا غيره، بقدر أهمية أن تبقى رهن إشارته ورغبته كلما تحركت فيه نزوة أو احتاج لحميميتها.
معه أدمنت تدخين السجائر ولفافات الحشيش وأقبلت بنهم على الخمر الرذيء، وتلاشى جسدها وترهل ولم يتوانى بائع النقانق في عرضه في سوق نخاسة الجنس، كلما احتاجه واحد من معارفه أو زبون. أما هي فلم تكن ترفض له طلبا حتى ولو تمرغت سمعتها وشرفها في وحل الاستغلال البشع. حلمها بالارتباط ولم الشمل واعترافه بأبوة رضيعها، طال والأمل كان يتقلص تدريجيا كما يتقلص حجم الشمعة تذوب لتنير الآخرين. هي أيضا شمعة كانت مشعة إلى حين، لكنها انطفأت قبل الأوان ومات الأمل بنفسها.
ثقتها فيه تضاءلت مع مرور الوقت، خاصة لما علمت بعلاقاته المتعددة مع بائعات الهوى. فلا هو أوفى بوعده وتزوجها، ولا حتى قام بخطوة اعتراف بابن خرج للوجود من علاقة غير شرعية. هما ذابا في حميمية الفراش وارتكبا خطئا لا يد له فيه. وضع لم يكن يرضيها ولو قبلت به على مضض. لكنها لم تكن لتتجرأ على إيذائه أو حتى التشكي، ما استغله لمزيد استغلالها جنسيا وحتى ماديا. كان يؤمن أنها له للاستمتاع بجسدها كلما احتاجه.
كانت تزوره باستمرار ليذوبا في حميمية الفراش بالغرفة التي يكتريها في حي شعبي، وفي تلك الظهيرة قصدته أملا في إحياء النقاش حول الاعتراف بأبوة ابنهما. استقبلها وأحكم إغلاق باب الغرفة دون أن تتلصصه عيون الجيران. كان يمني النفس في نهش ما تبقى من جسدها، لكن زيارتها هذه المرة لم تكن بحثا عن المتعة والإمتاع. كانت تنتظر القرار الحاسم الذي يضع حدا لعبثية حياتهما. لذلك لم تكن لتقبل لمساته وهمساته. ما أن وضع يديه على خديها وهو يهم بتقبيله، حتى أزاحتهما بعنف لم يتعود عليه.
- لم آتي لهذا الغرض، أريد حلا. هذا الوضع لا يريحني. أريد حلا لابننا. ما ذنبه. لماذا لا تريد أن تعترف به. أنت تعلم أنه ابنك.
خاطبته بحدة وهي تنظر إلى عينيه نظرات تنطق بعبارات التوجس والترغيب. اما فهو فنظر إليها نظرة ازدراء ولامبالاة واستخفاف، دون أن ينبس بكلمة، مكتفيا بإطلاق ضحكة ساخرة حرك فيها شفتيه بطريقة لم ترقها وأثارت حنقها.
- لا مجال للضحك، الموضوع جاد، أريد حلا.
قالتها بلهجة أكثر حدة فرد عليها بكلمات جرحت مشاعرها.
- إنه ليس ابني، ابحثي عن أبيه. لم تكن لي وفية، الكل يعلم أنك ملكا لمن يدفع.
عبارات نزلت على مسامعها كقنابل فجرت أسس الهدنة في نفسيتها، فانفجرت في وجهه وارتفع منسوب صراخهما وأمطرا بعضهما بعبارات منتقاة من قمامة الكلمات. اشتبكا وتدافعا وتحولت الغرفة لحلبة ملاكمة. وفي غفلة منه أمسكت بسكين كانت موضوعة على طاولة. هاجمته بجدية ففتح الباب وفر لكنها تعقبته ولحقت به في سلالم العمارة. وهو نازل غرزت السكين في ظهره وبقوة، فتعثر وسقط وزاد السقوط من خطورة إصابته.
الدم ينزف بكثرة من ظهره وصراخه ازداد والجيران خرجوا يتقصون حقيقة ما وقع.
كانت ما تزال ماسكة بالسكين واقفة دون أن تتخلص منه ولا من شرارة غضبها أحرقت كل شيء. نقل العشيق إلى المستشفى فمات قبل الوصول إليه. واعتقل الأمن العداءة واقتيدت للدائرة الأمنية حيث جلست شاردة فوق كرسي خشبي متهالك. كانت تفكر فيما ينتظرها من عقوبة رفعتها غرفة الجنايات إلى عقدين ما تزال تقضيهما بالسجن.

آخر الأخبار